بقلم الاستدامة.. التجربة الهولندية في الدراجات الهوائية
بقلم الاستدامة.. التجربة الهولندية في الدراجات الهوائية
ينظر العالم الآن باهتمام إلى تأثيرات التغيُّرات المناخية، وهو ما أكَّده COP27 في مصرَ عام 2022 وCOP28 في الإماراتِ نهاية العامِ الماضي؛ بخاصة ما طالبت به الرئاسةُ المصريةُ للمؤتمرِ الدولَ الأطرافَ بضرورة إعادة النظر في آليات التمويل المناخيّ، ودفع المؤسسات الدولية المعنية إلى تطوير آلياتها؛ ليكون تمويلُها عادلًا وشاملًا.
لم يكن هذا الاهتمامُ سوى صورة من صور التحول إلى عالم مستدام يستطيع المحافظة علَى البيئة، ويدعم مواردها للأجيال الحالية والأجيال المستقبلية؛ فإنَّ صورَ الاستدامة كثيرةٌ، وتُوجد في مجالات متعددة، ومن بينها النقل المستدام.
لقد أصبح مفهومُ النقل المستدام مهمًّا في الأعوام الأخيرة، باعتباره خطوةً من خطوات التخلص من الاعتماد علَى الوقود الأحفوريّ، واستخدام الطاقة الجديدة بديلًا عنه؛ لذا بدأت ابتكاراتُ النقل المحافِظة علَى البيئة في الانتشار بين بعض شعوب العالم، ومن هذه الابتكارات المستدامة: استخدام الدراجات الهوائية. وهذا ما أكدته التقارير التي تشير إلى زيادة الاعتماد علَى استخدام الدراجات -وفقًا لموقع Strava Metro– في مناطقَ من العالم، حيث زادت طلبات إرشادات الطريق لركوب الدراجات علَى محرك جوجل بنسبة 69%.
ومن بين أكثر دول العالم استخدامًا للدراجات الهوائية: هولندا، وكانت البداية بين أوائل القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، حيث كانت الدراجات الهوائية في هولندا مظهرًا من مظاهر حياة الأثرياء، قبل أنْ تصبح وسيلةَ نقلٍ للعمال الهولنديين.
ثم في فترة ما بعد الحرب العالمية ازدهر الاقتصاد الهولنديّ، ليصبح مواطنو هولندا قادرين علَى شراء السيارات؛ ولهذا تم تدمير البنية التحتية الخاصة بالدراجات الهوائية التي كانت قائمةً قبل الحرب، رغبةً في توسيع محيط الشوارع أمام السيارات، وحينئذٍ انخفضت نسبة استخدام الدراجات الهوائية -سنويًّا- إلى 6٪، وكانتِ الفكرةُ العامةُ هي أنَّ الدراجات ستختفي تمامًا في النهاية.
كل ذلك أشعل غضبَ الهولنديين، وبحلول السبعينيات وصلت دعواتُ الرفض إلى أعلى درجاتها، بخاصة بعد ارتفاع عدد ضحايا حوادث المرور إلى ذروته في عام 1971؛ فزادتِ الاحتجاجاتُ، وعلَى إثرها -بعد عامين- أسست مجموعةٌ من النشطاء اتحادَ الدرَّاجين الهولنديّ، وطالبوا بمزيد من المساحة للدراجات.
هكذا أصبحتِ الدراجاتُ الهوائيةُ في هولندا رمزًا للاستدامة، وليست مجردَ وسيلة نقل؛ فإنها -قبل أيّ شيءٍ- صديقة للبيئة بشكل استثنائيّ، فلا تنبعث منها غازات ضارة؛ لأنها لا تسير بالوقود الأحفوريّ. وهذا ما راعته دولة هولندا عند تحويل قطاع النقل إلى أساليب مستدامة؛ تفاديًا لمشكلات الوقود الأحفوريّ المسببة للتغيُّرات المناخية.
إنَّ عددَ الدراجات الهوائية في هولندا أكثر من عدد سكانها! وهناك أسباب كثيرة وراء هذا، ومنها السعي الحكوميّ إلى تجهيز بنية تحتية تناسب الاستخدام الشائع للدراجات الهوائية من قِبل المواطنين الهولنديين. وهذه البنية التحتية تشمل مساراتٍ واسعةً –تبلغ 37 ألف كيلو متر– وممراتٍ آمنةً مُعدَّةً لهذا النوع من وسائل النقل.
تتميز هولندا -أيضًا- بمناخ معتدل معظم العامِ، وهذا يساعد علَى استخدام الدراجات بشكل صحيّ ومريح، كما أنَّ الدراجاتِ وسيلةٌ منخفضة التكلفة، مقارنةً بالسيارات التي تسير بالوقود الأحفوريّ، الذي يُعدُّ سببًا رئيسيًّا من أسباب التغيُّرات المناخية؛ وذلك كله يجعل الدراجات الهوائية خيارًا جذابًا ووسيلةَ نقلٍ مستدامةً.
توفر هولندا -بالإضافة إلى ما سبق- مواقفَ آمنةً للدراجات الهوائية في جميع المدن، بما في هذا المنازل والمكاتب والمراكز التجارية. كما أنَّ نظامَ التعليم الهولنديّ يدعم هذا الأسلوب -وغيره من أساليب الاستدامة- ويشجع الطلاب علَى استخدام الدراجات الهوائية، باعتبارها وسيلةَ نقل رائعةً.
وليست هولندا وحيدةً في تعزيز استخدام الدراجات الهوائية بين المواطنين، فإنَّ مصرَ -أيضًا- صاحبةُ خطوات فعَّالة في هذا المجال. وهو الأمر الذي تنظر إليه “رؤية مصر 2030” بعين الاعتبار، حيث تتضمن أهدافُها العملَ علَى تعزيز كل أساليب الاستدامة في القطاعات كلها، خاصةً قطاع النقل.
مِن هنا، كانتِ التوجيهاتُ الرئاسيةُ شديدةَ الوضوحِ في هذا الشأن، ودَعت إلى تفعيل مبادرة “دراجة لكل مواطن“، حيث استهدفتِ الحكومةُ استبدالَ السيارات بالدراجات الهوائية. وهذا المشروع المصريّ واحدًا من المشروعات التي تسعى إلى تعزيز سبل النقل المستدام بين المصريين؛ محاوَلةً من القيادة السياسية في أنْ تكافح محافظاتُ الجمهورية كلها التغيُّرات المناخية وتأثيراتها التي تضرُّ بالبيئة.
لذا، راعتْ مصرُ في التخطيط العمرانيّ لمدنها الجديدة أنْ تكون الشوارعُ واسعةً، تنفيذًا للمبادرات التي تروج لاستخدام الدراجات الهوائية بين المواطنين، ومن خلال تخصيص مسارات لهذه الدراجات، وبمساحة عرضية مناسبة.
وأكدت مصر هذه المساعي في عام 2023 بإقامة ماراثون للدراجات الهوائية، وهو الماراثون الذي نظمته وزارة الشباب والرياضة في العاصمة الإدارية الجديدة، بمشاركة 5000 مشارِك. وفي هذا الماراثون استطاعتِ الحكومةُ أنْ تلفت الانتباه إلى أهمية النقل المستدام، الذي تأتي علَى رأسه الدراجات الهوائية.
إنَّ مصرَ تحاول من خلال مبادرات استخدام الدراجات الهوائية مكافحةُ التغيُّرات المناخية وتأثيراتها الحادة، التي تؤثر في العالم كله، عازمةً علَى أنْ تتحول بقطاع النقل إلى أسلوب أكثر استدامةً، عن طريق الترويج لاستخدام الدراجات الهوائية بما يتماشى مع “رؤية مصر 2030″، التي تدعو إلى الحفاظ علَى موارد البيئة؛ لمواجهة التأثيرات المترتبة على التغيُّرات المناخية، وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة، وتبني أساليب مستدامة في قطاع النقل، وغيره من القطاعات؛ فضلًا عن أنَّ هذا النوع من النقل المستدام يمكنه الإسهام في تحسين الصحة العامة، وهذا معناه تعزيز قطاع الصحة.
وعلَى الرغم من تلك الجهود المصرية المبذولة في هذا الشأن -خاصةً الجهود الرئاسية- فإنَّ الثقافةَ العامةَ حول استخدام الدراجات الهوائية ما تزال في حاجَةٍ إلى زيادة الوعي بأهمية هذا النقل المستدام في تحسين حياة المواطنين، فإنَّ الثقافةَ السائدةَ -حتى الآن- هي عدم احترام حارات ومسارات الدراجات الهوائية من قِبل سائقي السيارات؛ ولهذا يجب التكاتف بين القطاعينِ الحكوميّ والخاصّ علَى تعزيز هذا النوع من النقل، باعتباره طريقًا إلى بناء جمهورية جديدة.
في نهاية المقال ترى مجلة حماة الأرض مدى أهمية تبني استخدام الدراجات الهوائية على مستوى الحكومة والأفراد؛ فهي خطوة واسعة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الأهداف: “الصحة الجيدة والرفاه”، و”مدن ومجتمعات محلية مستدامة”، و”العمل المناخيّ”.