صناعات مستدامة

الثورة الصناعية الرابعة.. الأدوات والتأثيرات

الثورة الصناعية الرابعة.. الأدوات والتأثيرات

تمثل الثورة الصناعية الرابعة تغييرًا جوهريًّا في الطريقة التي نعيش بها وفي كيفية عملنا وتواصلنا مع بعضنا بعضًا. إنها فصل جديد في التنمية البشرية، فصل أصبح ممكنًا بفضل التقدم التكنولوجي غير العادي الذي تعيشه البشرية الآن، وهذا مقارنةً بالحقب الزمنية للثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة.

الثورة الصناعة الرابعة “4IR” هي مصطلح تم تسميته أول مرَّة في عام 2015 من قِبل “كلاوس شواب”، مؤسس -ورئيس مجلس إدارة- المنتدى الاقتصادي العالمي، ومنذ ذلك الحين تم استخدامه في العديد من المقالات الاقتصادية والسياسية والعلمية، باعتباره إشارةً إلى عصر الثورة التكنولوجية الحالي، التي نشأت في عدد كبير من المجالات.

جزءٌ من هذه الثورة الصناعية هو زراعة تقنيات -مثل تقنية الذكاء الاصطناعي وغيرها- في الروبوتات المتقدمة، بهدف دمج العوالم المادية والرقمية والبيولوجية ببعضها. لكن ما الأدواتُ الأساسيةُ لتحقيق هذه الثورة الصناعية الرابعة؟ وما التأثيراتُ المتوقعة عن هذه الثورة في دعم الاستدامة؟ كلها أسئلة سنجيب عنها في السطور القادمة.

التقنيات الأساسية في الثورة الصناعة الرابعة

لا شكَّ في أنَّ لكل حقبة صناعية الأدوات والتقنيات الأساسية التي ترسم معالمها، فقد شكلتِ الثورةُ الصناعيةُ الأولى -على سبيل المثال- ترجمةً واضحةً للكيفية التي تستطيع بها الآلاتُ أنْ تحُلَّ محل العمل اليدوي؛ وهذا بفضل عدد من الاختراعات والاكتشافات المهمة، وظهور نظام المصنع الذي يتكون من خطوط إنتاج ميكانيكية.

وبالمثل، فإنَّ للثورة الصناعية الرابعة تقنياتها الأساسية التي شكلت مفهومها المتفق عليه في الأذهان حاليًّا، ويمكننا إجمالُ هذه التقنيات في 6 عناصر أساسية سنناقشها تباعًا في الفقرات الآتية:

  1. سلسلة الكتل – Blockchain

سلسلة الكتل هي نظام لتسجيل المعلومات بطريقة تجعل من الصعب -أو المستحيل- تغييره أو اختراقه أو خداعه. إنه سجل رقمي للمعاملات يتم استنساخه ونشره عبر أنظمة الكمبيوتر على سلسلة الكتل. ونظرًا إلى صعوبة اختراق هذا النظام، فهو الطريقة المفضلة المستخدمة في العديد من التطبيقات، مثل المعاملات المالية الدولية، وسلاسل التوريد؛ فهذا النظام يتمتع بقدرٍ عالٍ من الأمان والشفافية وإمكانِ التتبع.

  1. الذكاء الاصطناعي (AI)

لا يُعتبر الذكاءُ الاصطناعيُّ تقنيةً جديدةً، ولكن نظرًا إلى حدوث نمو هائل في قوة الحوسبة -إلى جانب إمكان الوصول إلى كمية لا حصرَ لها من البيانات- فقد تطورت وازدهرت استخداماتُ الذكاء الاصطناعي بشكل ملحوظ، ويمكن ملاحظة هذا -بشكل فعلي- في العديد من التطبيقات حولنا، مثل أنظمة قيادة السيارات ذاتيًّا، والأنظمة الطبية الحديثة، وغيرهما من التطبيقات.

  1. الواقع الافتراضي (VR)

في إطار أهداف الثورة الصناعية الرابعة، توفر تقنيات الواقع الافتراضي فرصًا جديدة لتدريب المهنيين، والتحكم في الآلات، وحتى تصميم المنتجات الصناعية، وإدارة وفحص العمليات الإنتاجية؛ لذا لمْ يَعُدِ الواقعُ الافتراضيُّ مجردَ تقنية لعمل الاجتماعات عن بُعْدٍ، وإنما وسيلة تجعل المشهدَ الصناعيَّ أكثر كفاءةً وفاعليةً حتى في أكثر الصناعات تعقيدًا.

  1. الروبوتات

قبل ظهور الذكاء الاصطناعي كانت روبوتاتُ الجيلِ الأولِ موجودةً بالفعل في العديد من الصناعات، حيث كان يتم برمجتها مسبقًا لتنفيذ مجموعة من الأوامر البسيطة، وقد تغير هذا الأمرُ بعد استخدام الذكاء الاصطناعي، حيث مكننا هذا من الوصول إلى ما يُعرف بالأتمتة المتقدمة التي حَسَّنَتْ قدرات الروبوتات في العمليات الصناعية بشكل مذهل.

  1. إنترنت الأشياء (IoT)

مصطلح إنترنت الأشياء هو مصطلح حديث يشير إلى جيل جديد من الإنترنت، يربط بين الأشياء على شبكة تتيح التفاهم وتبادل المعلومات، وتشمل هذه الأشياء أجهزة الكمبيوتر والمستشعرات وأنظمة الذكاء الاصطناعي والآلات الميكانيكية.. إلخ. وهذا دون الحَاجَةِ إلى وجود تدخلٍ بشريٍّ مباشرٍ؛ لذا تمثل هذه التقنيةُ أهميةً كبيرةً في الصناعة، حيث يمكن لإنترنت الأشياء -على سبيل المثال- تحديد أوقات الصيانة، والتنبؤ بأضرار المعدات واحتياجات الإصلاح قبل حدوث الأعطال؛ وبالتالي زيادة الإنتاجية، وتقليل أوقات التعطل المرتبطة بعطب المعدات.

  1. التكنولوجيا الحيوية

نقصد بهذا المصطلح استخدام البيانات والمعلومات الخاصة بالأنظمة الحيوية في الأغراض الصناعية. عن طريق التكنولوجيا الحيوية نستطيع التعامل مع الكائنات الحية على المستويينِ الخلوي وتحت الخلوي؛ وهذا بهدف تحقيق الاستفادة القصوى في مجالات الصناعة والزراعة. المثال البسيط على هذا، هو أحد أنواع البكتيريا التي تم اكتشاف قدراتها في التهام البلاستيك، لتتم بعد هذا إعادةُ هندستها بشكل أكبر؛ لأجل تعزيز فاعليتها في تكسير البوليمرات البلاستيكية.

  1. التقنيات الثانوية

لا ترتكز الثورة الصناعة الرابعة على العناصر الستة المذكورة آنفًا فحسب، وإنما تشمل عددًا كبيرًا من التقنيات الثانوية الأخرى. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الطباعة ثلاثية الأبعاد، والبيانات الضخمة “Big Data”، ومصادر الطاقة المتجددة، والمواد الجديدة المبتكرة “Material Innovation”.

الثورة الصناعة الرابعة والاستدامة

يمكننا بما سبق استنتاج أنَّ الثورةَ الصناعيةَ الرابعةَ تبني على ما حققته الثورة الصناعية الثالثة (الثورة الرقمية) في الزمن الواقع بين خمسينيات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، حيث جلبت هذه الثورة الرقمية أجهزة الكمبيوتر وأنواعًا أخرى من الإلكترونيات والإنترنت، وغير هذا الكثير.

الثورة الصناعية الرابعة تأخذ المفاهيم الرقمية إلى آفاق جديدة بفضل التقنيات الحديثة التي استعرضناها، وكلها تدفع في اتجاهٍ يدعم التنمية بشكل كبير، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ بالاعتبارات البيئية، ويسعى إلى تحقيق الاستدامة.

تعكس التقنيات المستخدمة في الثورة الصناعية الرابعة الإمكانات الهائلة التي أصبحت لدينا؛ لذا يجب علينا أنْ نعمل على موائمة البيئة والمجتمع مع التكنولوجيا الرقمية؛ من أجل الاستمرار في الاستفادة من هذه الابتكارات بشكل مستدام.

يمكن للثورة الصناعية الرابعة أنْ تدعم الجهود والأهداف الدولية للتنمية المستدامة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر؛ فتقديم الخدمات بشكل أكثر فاعليةً -جنبًا إلى جنب مع تحسين كفاءة العمليات الإنتاجية- سيؤدي بالتبعية إلى التحول بالعديد من الخدمات والصناعات إلى الاستدامة، ودعم الاقتصادات الوطنية للبلدان كلها.

الثورة الصناعية الرابعة لديها قدرة على رفع مستويات الدخل العالمي، وتحسين نوعية حياة السكان في جميع أنحاء العالم، وهو ما يحقق -بالضرورة- أهدافًا عديدةً من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر. أضف إلى هذا تحسين مهارات وقدرات الكوادر البشرية، وهو ما ينعكس -إيجابيًّا- على جودة القوى العاملة في أي بلد، وينهض بمستوى الخدمات والصناعات المختلفة، خصوصًا في الدول النامية.

لذا، يمكننا القول: إنَّ النتيجةَ المنتظرةَ من الثورة الصناعية الرابعة هي تحقيقُ مفهومِ “الكفاءة المستدامة”. ونقصد بهذا استخدام تقنيات هذه الثورة، وتوجيهها إلى حل مشكلات الأعمال المختلفة، بشكل يعزز الإنتاجية والاستدامة في الوقت نفسه.

لمفهوم الكفاءة المستدامة ثلاثة أبعاد رئيسية، الأول: ضمان وجود تقنية رقمية تضمن اتخاذ قرارات دقيقة، من خلال استخدام الكميات الهائلة المتاحة من البيانات؛ لتحسين عمليات الإنتاج وسلسلة القيمة الشاملة. والثاني: إمكان قياس هذه التحسينات عبر مؤشرات الأداء؛ لحساب التكلفة والجودة. والأخير: دفع مكاسب الاستدامة، من خلال تقليل الاستهلاك، وخفض كمية النفايات والانبعاثات، وخفض الموارد المستخدَمة.

 التأثيرات في البيئة

يمكن لتقنيات الثورة الصناعية الرابعة دعم جهود تحسين البيئة، وهذا بمساعدة المصانع على إدارة النفايات التي تولدها وتتبع خفض بصمتها الكربونية، وتسهيل الأمور على قادة الشركات في إجراء تغييرات إيجابية في منشآتهم. يمكن لأجهزة الاستشعار المتصلة بالإنترنت -على سبيل المثال- تتبع كميات استخدام المياه والكهرباء والوقود بشكل لحظي؛ مما يمنح الشركات القراءات الأساسية التي تحتاجها في تتبع وإصلاح المشكلات.

شيء آخر مفيد يمكن أنْ تقدمه الثورة الصناعية الرابعة إلى البيئة، هو مساعدة الباحثينَ في أبحاثهم، وهذا عن طريق مستشعرات إنترنت الأشياء التي تستطيع تجميع كميات ضخمة ومستمرة من البيانات البيئية، ثم ترسلها إلى المراكز البحثية؛ وبالتالي لن يتعين على العلماء السفر إلى كل موقعٍ للحصول على هذه البيانات.

بطبيعة الحال، يشكلُ الذكاءُ الاصطناعيُّ العمودَ الفقريَّ لهذا الثورة، ومع الوقت سيصبح الذكاءُ الاصطناعيُّ نفسُه أشد ذكاءً، وهو ما يمكن أنْ يؤدي إلى تحسين استخدام المواد، وتحسين استخدام الطاقة، وتحسين الأنظمة البشرية كلها، مِن شبكات الطاقة والنقل إلى المدن وسلاسل القيمة الصناعية.

ما سبق لا يعني أنَّ الثورةَ الصناعيةَ الرابعةَ مثاليةٌ في جوانبها كلها؛ لأنها -شأنها شأن الثورات الصناعية السابقة- ستكوت ذات تحدياتٍ وأخطارٍ عديدةٍ؛ فمن المتوقع -على سبيل المثال- أنْ يكون لزيادة الاعتماد على الروبوتات والذكاءِ الاصطناعيِّ دورٌ في زيادة البطالة، خصوصًا في الدول النامية التي تعتمد على تقديم الخدمات، وهذا في ظل تقلص كبير للصناعة.

أمرٌ آخرُ، هو الطاقة والموارد، فلتحقيق هذه الثورة سنحتاج إلى مزيد من الطاقة ومواد التصنيع، ودون زيادة الاعتماد على موارد الطاقة المتجددة وتعظيم الاقتصاد الدائري بالتوازي مع هذا التطور التكنولوجي الهائل – فإنَّ عِبْئًا بيئيًّا جديدًا سيكون في انتظار كوكبنا.

وفي الختام، ربما لن نستطيع حصر وتقييم جميع تأثيرات الثورة الصناعية الرابعة -الإيجابية منها والسلبية-في البيئة؛ لأنَّ جزءًا كبيرًا من تحديد هذه التأثيرات سوف يتوقف على كيفية تطويع البشر لهذه التقنيات الجديدة. لكن بشكل عامٍّ يمكننا القول: إنَّ التقدمَ التكنولوجيَّ يوفر الأدوات اللازمة لمساعدة كوكبنا، ودعم تحقيق استدامته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى