السلوك المستدام في شهر الصيام
السلوك المستدام في شهر الصيام
يَحُلُّ علينا في هذه الأيام شهرُ رمضان المبارك، هذا الشهر ذو المكانة الفريدة والخيرات العديدة، يأتي هذا العام في ظل أوقات حرجة يمر بها عالمُنا، بدءًا مِن تهديد أمن الغذاء والطاقة العالميينِ، نتيجةً للحرب الروسية الأوكرانية، ومرورًا ببعض الصراعات الإقليمية بين عدد من الدول في محيطنا العربي وخارجه، وانتهاءً بالأوضاع الاقتصادية المضطربة، والكوارث الطبيعية -كان آخرها الزلزال المدمر الذي فتك بآلافٍ في تركيا وسوريا- التي تُهَدِّدُ استدامةَ حضارتنا؛ لذا حَرِيٌّ بنا الآن -أولى مِن أي وقت مضى- الإسهام بشكل إيجابي وحقيقي في الحفاظ علَى بيئتنا وصون مواردها، ولَعَلَّ شهر رمضان المبارك نقطة انطلاق نحو هذينِ الهدفينِ التنمويينِ.
كيف تؤثر المناسبات في السلوكيات؟
عادةً ما ترتبط المواسمُ والأعيادُ في مجتمعاتنا باضطرابات السلوكيات الاستهلاكية بين أغلبنا، محاولةً للتعبير عن مظاهر الابتهاج، وتوطيد الروابط بين الأقرباء والمعارف، وخلق حالة فريدة تكسو شوارعنا ومحلاتنا بالزينة والأنوار، إلا إنه يجب علينا أنْ نتحلى بوعي سليم تجاه هذه السلوكيات، وأنْ نتصرف بشكل قويم؛ لجعلها أكثر استدامةً.
يتفرد شهرُ رمضانَ عن غيره مِن شهور العامِ الهجريِّ بالصوم، حيث يمتنع المسلمون حول العالم -في خلال أيام هذا الشهر المبارك- عن الطعام والشراب مِن طلوع الفجر حتى غروب الشمس؛ امتثالًا لمَا فرضه اللهُ -تعالى- في قرآنه الكريم، باعتبار أنَّ الصومَ نوعٌ مِن التهذيب السلوكي والتقويم الغرائزي، إضافةً إلى تعزيز مفهوم الترابط بين المسلمينَ في شتَّى بقاع الأرض، وغرس الإحساس بالآخرينَ، والشعور بالشدائد التي يواجهها الفقراءُ في حياتهم اليومية.
وعلَى الرغم من ذلك، فليس هناك مبالغةٌ في قولنا: إنَّ ما نراه علَى موائدنا -في خلال أيام هذا الشهر المبارك، أو في أثناء الاحتفال بعيد الفطر- مُنَافٍ للغاية الإلهية وللمقاصد الروحية المُرَادَةِ مِن الصوم، حيث يزداد استهلاكنا لأصناف المأكولات والمشروبات جميعها بصورةٍ حادةٍّ، وكذلك استهلاكنا للمياه والكهرباء، فضلًا عن التسوق غير المسئول قبيل عيد الفطر.
ليس الهدفُ مِن هذا المقال إطفاءَ نورِ الفرحةِ بهذا الشهر المبارك، ولا إلقاءَ اللومِ علَى مَنْ يحاول إدخال السرور علَى أهله وجيرانه، وإنما الهدفُ الحثُّ علَى التصرف المسئول والاستهلاك المعقول؛ ولذا ننثر بين أيديكم في السطور القادمة بعضًا مما يمكنكم فعله، لجعل شهر رمضان المبارك وعيد الفطر أكثر استدامةً.
كلوا واشربوا ولا تسرفوا
لن نبالغ أيضًا إذا قلنا: إنَّ تعاليمَ الإسلام الحنيف هي في ذاتها مبادئ للاستدامة، أنزلها الله -عز وجل- قبل ما يزيد علَى أربعة عشر قرنًا من الزمان، فالمُتَمَعِّنُ في آيات القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة يدرك حقيقةَ كون الإسلام سبَّاقًا إلى تحقيق التنمية المستدامة، هذا المفهوم الذي لم ينتبه إليه العالَمُ بشكل حقيقي إلا في نهايات القرن الماضي.
ومِن أهم تلك المبادئ المستدامة ما جاء في قوله تعالي: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، وهو مبدأ أشار إليه النبي -صل الله عليه وعلَى آله وسلم- في الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذيُّ، قال: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صلبه، فإنْ كان لا محالةَ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِهِ».
وبناءً علَى ما تقدم، يجب علينا الاعتدال فيما نقدم علَى موائدنا، فالكرم لا يعني السرف، والاعتدال لا ينافي الترف، ومِن مظاهر الوعي والإدراك الصحيحينِ طهي الطعام بما يتناسب مع عدد الأفراد، والتنويع في طبيعة الأصناف الرئيسية، فبدلًا مِن الاعتماد علَى اللحوم، يمكن تخصيص عدد من أيام الشهر الكريم بوجبات نباتية لذيذة مِن مطبخنا المصريِّ العامرِ بهذه الأنواع مِن الأطعمة.
نعي بكل تأكيد الطبيعةَ المصريةَ – العربيةَ في الكرم والاحتفاء بالضيوف، لذا فإنْ كان ولا بُدَّ مِن تحضير مائدة عامرة، لمشاركة ضيوفكم وجبة الإفطار أو السحور؛ فإيَّاكم وهدر الطعام المتبقي! حيث يمكن بكل بساطة تغليف الجيد منه بشكل مناسب، وتقديمه إلى المحتاجين، أو حتى حفظه ثم تناوله في وجبة أخرى، سواء في الإفطار، أم السحور.
أمر آخر، هو الأطباق والأكواب وأدوات الطعام البلاستيكية، التي قد يستخدمها بعضُ الناس في تقديم المأكولات والمشروبات، حيث يلجأ كثيرٌ منهم إلى هذه الطريقة بسبب أنَّ استخدام تلك الأدوات والتخلص منها سهلٌ ميسورٌ، بالإضافة إلى كونها رخيصةَ الثمنِ. ومِن بدائل هذه الطريقة استعمال الأدوات المصنوعة من الورق المُعَادِ تدويره، أو استعمال المواد القابلة للتحلل.
لا تشتروها.. اصنعوها في المنزل
لا يمكن أنْ نتجاهل المُغريات الكثيرة التي تتفنن محلاتُ الحلوَى في ابتكارها وتسويقها في أيام هذا الشهر المبارك، ولكي نتحدث بشكل واقعي لن نشير عليكم بتجنب ذلك كليةً، ولكن سنرشح لكم بشدة تجربةَ صنع الحلَوى في المنزل متى استطعتم.
عند اللحظة الأولى لصوت مدفع الإفطار، يبحث كل منا عن مشروب رمضاني يروي به ظمأه؛ لذا ننصحكم بالحرص على تجنب المشروبات الغازية والمصنعة، وكذلك مساحيق المشروبات الفورية، واستبدال كل ما سبق بمشروبات طبيعية مفيدة لصحتكم، يمكنكم تحضيرها بسهولة في المنزل، مثل: التمر الهندي الطبيعي، الكركديه، الخروب، الخشاف، وغيرها.
جانب آخر من الاحتفاء بالشهر الكريم، هو تزيين منازلنا وشوارعنا بالفوانيس والأنوار، وغيرها مِن علامات البهجة الرمضانية، ولن نمنعكم مِن هذا بكل تأكيد، لكن بدلًا مِن شراء فانوس جديد للمنزل كونوا علَى يقين من أنَّ فانوسَ العامِ الماضي سيفي بالغرض، وسيكون تشجيعُ أطفالكم على استعمال الورق في صنع الزينة أفضلَ مِن شراء أَفْرُعِ الزينة المصنوعة -عادةً- من البلاستيك.
حل آخر في حال اضطررتم إلى شراء الأنواع المختلفة من الزينة الجاهزة أو الفوانيس لأي سبب، هو الحرصُ علَى الاحتفاظ بهذه الزينة للعامِ القادمِ، بدلًا مِن التخلص منها بعد انقضاء الشهر الكريم. أمَّا بالنسبة إلى الأنوار فاحرصوا علَى أنْ تكون اللمباتُ المستعملةُ من ليد “LED”، وأنْ تُضَاءَ لساعاتٍ محدودةٍ في المساء.
ماذا عن الاحتفال بالعيد؟
يأتي العيدُ بفرحة غامرة تملأ القلوبَ، ولذا يجب علينا حين نتسابق قبيل العيد إلى شراء الملابس الجديدة والألعاب المختلفة لأطفالنا، أنْ نضع في اعتبارنا أمرًا ذا أهمية؛ أنه بدلًا من الأزياء التي لا تصلح إلا لهذه المناسبة، يمكن اللجوء إلى الأزياء التي يمكن ارتداؤها في بقية أوقات العامِ؛ حتى تكون مشترياتنا مسئولةً، إضافةً إلى ذلك يفضل -عند القدرة- شراء الألعاب الصديقة للبيئة، والمصنوعة مِن المواد المُعَادِ تدويرها، أو شراء الألعاب الهادفة، التي تُنَمِّي وعي أطفالنا، وتثير فيهم فضول التعرف على البيئة من حولنا.
وكما هي الحال في رمضان، تنطبق المفاهيم التي سبقتِ الإشارةُ إليها -فيما يخص استهلاك المأكولات والمشروبات ومظاهر الاحتفال- على عيد الفطر، بالإضافة إلى تحملنا مسئولية كبيرة عند الخروج إلى الوجهات المختلفة مِن متنزهات وحدائق وغيرها، وهي الحفاظ علَى البيئة مِن حولنا، والحرص على أنْ يكون إلقاء المخلفات في الأماكن المخصصة لها.
وفي الختام، نؤكد لكم أنَّ تطبيقَ الاستدامةِ مجردُ تغييراتٍ مسئولةٍ في سلوكياتنا اليومية، ولعل شهر رمضان المبارك فرصة ليحقق كلٌّ منا تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا في إطار زمني صغير، لنكون قدوةً لمَنْ حولنا؛ نظرًا إلى ما يصاحب هذه الأيام المباركات وما يعقبها من تجمع للأهل والأصدقاء؛ فلا تفوتوا هذه الفرصة لتوعية مَن حولكم وحضَّهم علَى السلوكيات المسئولة، النابعة في الأساس مِن تعاليم الإسلام الحنيف، وليكن سلوكنا في شهر الصيام سلوكًا مستدامًا.