الممارسات المستدامة في صناعة الزجاج
الممارسات المستدامة في صناعة الزجاج
الزجاج موجود في عدد لا يحصى من المنتجات التي نستخدمها في كثير من مناحي حياتنا اليومية، كما يدخل في كثير من الصناعات، ما بين عبوات المشروبات والمواد الغذائية المختلفة، إلى الألياف الضوئية، وغيرها.
يتميز الزجاج بالعديد من الخصائص المميزة، كما يمكن صنعه بتكلفة منخفضة نسبيًّا؛ لذا أصبح مادةً أساسيةً في حركة التنمية المتسارعة، حيث نجده في بناء المنازل وناطحات السحاب، وهو أيضًا عنصر أساسي في مجموعة من الصناعات، مثل: صناعة السيارات، وصناعات المواد الكيميائية، وهذا بالإضافة إلى بعض الاستخدامات المتقدمة في صناعة وسائل التقنية، مثل: الشاشات، والهواتف المحمولة، والأجهزة الطبية، وغيرها.
يُعَدُّ الزجاجُ -أيضًا- جذابًا، لكونه خيارًا مستدامًا يمكنه التوافق مع الاستراتيجيات والتوجهات البيئية في كثير من الدول والشركات، بالإضافة إلى الوعي المتزايد بقضايا المناخ بين المستهلكينَ؛ فيمكن تدويره بنسبة تصل إلى 100%، وبالتالي يمكن لهذه الصناعة تطبيق مفاهيم الاقتصادي الدائري بشكل حقيقي وقابل للتطبيق.
وفي الوقت نفسه، فالزجاج يمكن أنْ يساعد على استدامة عدد من الصناعات الأخرى، وزيادة كفاءتها في استهلاك الطاقة، إلا إنَّ الاستهلاكَ الكثيفَ في إنتاجه يظل تحديًا في حد ذاته، على الرغم من زيادة حركة الابتكار -في العقود الماضية- بين الشركات المُصَنِّعَةِ له؛ لأجل زيادة كفاءة العملية الإنتاجية، وتقليل الفاقد في الطاقة.
طبيعة القطاع الصناعي
يُعتبرُ الزجاجُ واحدًا من أهم وأقدم المواد الأساسية، حيث يرجع تاريخ استخدامه إلى ما قبل 7000 عام في مصر القديمة، واليوم أصبح موجودًا حولنا في كل شيء تقريبًا، حيث نراه في المباني، وسائل النقل، الحاويات، المنتجات الطبيعة، الأوعية المعملية، معدات الاتصالات، والأجزاء الإلكترونية؛ وعلى الرغم من ذلك كله، فإنَّ الخبراءَ يرجحون زيادةَ انتشاره أكثر مِن ذي قبل، وزيادة الاعتماد عليه في مختلف التطبيقات.
إنتاج الزجاج يتطلب درجة حرارة مرتفعة جدًّا، تصل إلى 1600 درجة مئوية، وهذا لصهر المواد الخام، بما في ذلك السيليكا التي تمثل العنصرَ الأساسيَّ في تكوينه، ويتم استخدامها في صورة الرمل، بالإضافة إلى مواد أخرى مثل الحجر الجيري، وكربونات الصوديوم.
تتميز المواد الخام للزجاج بأنها متوافرة ورخيصة الثمن، ولكن التحديات التي تشتمل عليها عملية نقل مثل هذه المواد -بما في هذا التكلفة- قد جعلت هذه الصناعة مُرَكَّزَةً بالقرب من الأسواق النهائية للاستخدام.
السعر الرخيص للزجاج، مع تنوع خصائصه في تحمل الحرارة والمقاومة الكيميائية، بالإضافة إلى الشفافية وقابلية إعادة التدوير؛ كلها مميزات جعلت مِن منه مادةً شائعةَ الاستخدامِ في كثير من المنتجات في مختلف الصناعات. وتشير الأرقام إلى أنَّ العالَمَ قد استهلك في عام 2019 ما يزيد على 194 مليون طن من الزجاج، مع توقعات بارتفاع الطلب ليصل إلى 256 مليون طن بحلول عام 2027، بنمو سنوي مقداره 3,5%.
إنتاج الزجاج يمكن توزيعه حسب الاستخدام، فطبقًا لبيانات هذا القطاع الصناعي في الأعوام الأخيرة مثلت الحاوياتُ الزجاجيةُ نسبةَ 45% من الإنتاج، في حين أن نسبة 33% للمنتجات الخاصة “Specialty glass”، مثل: الألياف الضوئية، وأدوات المائدة، والشاشات، وغيرها؛ ونسبة 16% للزجاج المسطح، و6% للألياف الزجاجية.
أحد الأسباب الرئيسية في تنامي الطلب على الزجاج، هو زيادة الاعتماد عليه في بناء واجهات المباني، بالإضافة إلى زيادة استهلاك المنتجات الإلكترونية التي تحتوي كلها -تقريبًا- على شاشات زجاجية، إضافةً إلى ألواح الطاقة الشمسية.
الاستدامة في صناعة الزجاج
تحولتْ صناعةُ الزجاجِ عبر العقود المتتابعة -بشكل تدريجي- لتكون أكبر إنتاجيةً وأكثر كفاءةً للطاقة، وبالتالي حجزت لنفسها مكانًا بين الصناعات المستدامة، تواكبًا مع التغيرات التي تشهدها الأسواق. ولعل إحدى المُدَدِ الفاصلةِ في هذه الصناعة هي مدة السبعينيات، وهي المرحلة التي شهدت تخبطًا في أسواق الطاقة العالمية، ونقصًا في إمدادات الوقود في كثير من البلدان؛ لذا لم يكنْ أمام هذه الصناعة إلا أنْ تطور مِن نفسها؛ حتى تصبح أكثر كفاءةً من أي وقت مضى.
عملية تحويل صناعة الزجاج بشكل كامل إلى الاستدامة تشمل محاور أساسية، أولها: إعادة التدوير، وثانيها: تقليل استهلاك الطاقة وخفض الانبعاثات، وثالثها: إسهامه في استدامة القطاعات الأخرى.
أولًا: إعادة التدوير
يمكن أنْ يُعَادَ تدويرُ الزجاج بشكل كامل، ولأكثر من مرَّة، كما يوجد كثيرٌ مِن خيارات إعادة استخدام منتجاته؛ وبالتالي يمكن اعتباره لاعبًا رئيسيًّا في الاقتصاد الدائري. وإعادة تدويره تسمح بالحد من استهلاك الموارد البكر بشكل كبير، بالإضافة إلى خفض استهلاكات الطاقة.
وهي عمليةٌ تشمل تكسيرَ الزجاج إلى قطع صغيرة، ومِنْ ثَمَّ صهرها عند درجات حرارة أقل مقارنةً بالزجاج البكر، كما أنَّ إعادةَ التدويرِ تستهلك طاقةً أقل بمقدار 40% من تلك اللازمة لإنتاج الزجاج من مواده الخام الأولية، كما تساعد إعادة التدوير علَى حفظ البيئة من المخلفات.
سوق الزجاج المُعَادِ تدويره مُتَنَامٍ بشكل سريع، مع توقع نمو هذا السوق إلى 5,5 مليار دولار بحلول العام 2025، زيادةً عن 3,5 مليار دولار في العام 2017، ولكن العقبة الأساسية أمام هذا النمو هي غياب الدعم الحكومي، بالإضافة إلى ضَعف البنية التحتية الخاصة بإعادة التدوير، وكذلك عدم كفاءة أنظمة الجمع قد يجعل من عملية إعادة التدوير عمليةً معقدةً.
ثانيًا: تقليل استهلاك الطاقة وخفض الانبعاثات
تضع الصناعةُ معاييرَ محدثةً لزيادة كفاءة الطاقة وتقليل استهلاك الوقود، بما في هذا استخدام نسبة متزايدة من كسر الزجاج في العملية الصناعية، وهو الأمر الذي أثر بشكل مباشر في تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري لهذه الصناعة في العقود الأخيرة.
استطاعت صناعة الزجاج تخفيض معدلات انبعاثاتها بشكل ملحوظ، حيث خفضت من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 69% لكل طن منتج من مصهور الزجاج بين عامي 1960 و2010.
ثالثًا: الإسهام في القطاعات الأخرى
أسهمت صناعة الزجاج في كفاءة الطاقة بين عدد من الصناعات المختلفة، منها -على سبيل المثال- البناء والتشييد، حيث يلعب الزجاج دورًا محوريًّا في المباني الخضراء بين كثير من المناطق؛ للحفاظ على الحرارة الداخلية للمباني، وبالتالي تخفيض استهلاك الطاقة في أنظمة التبريد والتدفئة، بالإضافة إلى توفير الإضاءة الطبيعية، وتقليل استهلاك الكهرباء.
في مجال الطاقة المتجددة يزداد الطلب على الزجاج في محطات الطاقة الشمسية، وهذا نظرًا إلى حساسيته أمام الضوء، وكذلك زيادة كفاءة الألواح. تستخدم الألياف الزجاجية -أيضًا- في عمل شفرات طواحين الهواء التي تعمل على تحويل طاقة الرياح إلى كهرباء.
أيضًا، له مساهمة مستدامة في وسائل النقل، حيث يتم تصنيع هياكل معززة باستخدام الألياف الزجاجية مع بعض المواد الأخرى في وسائل النقل والطيران وغيرها؛ وهذا بهدف تقليل وزن هذه الهياكل، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على استهلاك الوقود.
الفرص والتحديات في صناعة الزجاج
على الرغم من التقدم المستمر في صناعة الزُّجاجِ وإسهاماتها المهمة في الاستدامة، فإنَّ هذه الصناعة تواجه عددًا من التحديات. تتطلب صناعته كميات كبيرة من الطاقة، وبالتالي يظل لها بصمة بيئية واضحة، فضلًا عن الجوانب الاقتصادية الأخرى لاستهلاك الطاقة.
الانبعاثات التي تنتج عن عمليات صناعة الزجاج تشمل أكاسيد الكبريت (SOx) وأكاسيد النيتروجين (NOx)، بالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون بشكل رئيسي، وهو الذي يسهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. تتوقف كمية الانبعاثات حسب نوع الزُّجاجِ الذي يتم إنتاجه، وكذلك كمية ونوع الوقود المستخدم، وما إذا تم الاستعانة بكسره في العملية، أم لا.
تُعَدُّ أفرانُ الصهرِ مسئولةً عن 80 – 90% من إجمالي الملوثات الهوائية في هذه الصناعة، كما تنتج هذه الأفرانُ -في عوادمها- كميات كبيرة من الأتربة، ونِسَبًا قليلةً مِن الرصاص والكادميوم.
لتقليل الانبعاثات تبحث الصناعة في تعديل العملية الإنتاجية، وإيجاد حلول جديدة لخفض البصمة الكربونية، ولعل منها الاعتماد على تقنية التقاط وتخزين الكربون (CCS)، بالإضافة إلى التحول نحو مصادر طاقة محايدة للكربون، مثل: الغاز الحيوي أو الهيدروجين، وحتى الكهرباء المولدة من مصادر متجددة.
طريقة أخرى لتقليل انبعاثات هذه الصناعة، هي تبني حلول التسخين الكهربائية في عمليات صهر الخام، حيث إنَّ طرقَ التسخين الكهربائية يمكن أنْ تصل إلى كفاءة مقدارها 85%؛ أي: ضعف نسبة كفاءة أفضل فرن يعمل بالوقود الأحفوري، ولكن هذا التحول ربما لن يكون سهلًا؛ بسبب عدم ملائمة البنية التحتية في كثير من منشآت التصنيع.
وفي الختام، لا شكَّ في أنَّ الطلبَ على هذا المكون الحيوي سيتزايد في خلال الأعوام القادمة، وعلَى الرغم من الجهود الكبيرة في هذا القطاع الصناعي العملاق نحو زيادة كفاءة الطاقة وتقليل الانبعاثات، فإنه لا تزال هناك مساحة لمزيد من التحول المستدام، لا سيما مِن خلال تَبَنٍّ أوسع لإعادة التدوير، واستخدام التقنيات الأحدث، وتصميم المنتجات بشكل ذكي يسمح -في سهولة- بإعادة الاستخدام والتدوير.