خطى مستدامة

اليوم العالمي للمحيطات دعوة لإنقاذ الحياة البحرية

المحيطات

اليوم العالمي للمحيطات دعوة لإنقاذ الحياة البحرية

على مدار التاريخ، لعبت المحيطات دورًا محوريًّا في تشكيل الحضارات وضمان استمرار الحياة على كوكب الأرض؛ فهي ليست مجرد مسطحات مائية، وإنما منظومة بيئية حيوية تنظم المناخ، وتوفر الغذاء، وتؤثر في صحة الإنسان والاقتصاد العالمي. ومع التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، باتت الحاجة إلى فهم العلاقة المعقدة بين المحيطاتِ والبشر أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

ومع الاحتفال باليوم العالمي للمحيطات في الثامن من يونيو، تتجدد الحاجة إلى التفكير في الدور الذي تلعبه هذه المسطحات المائية الضخمة في حياة البشر والبيئة؛ فالمحيطات تغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، وتمثل مصدرًا رئيسيًّا لإنتاج الأوكسجين، وتنظيم المناخ، وتوفير الغذاء لمليارات البشر حول العالم، هذه الحقائق تكشف أن صحة المحيطات ليست مجرد قضية بيئية، وإنما قضية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بصحة الإنسان واستقرار المناخ العالمي.

وعندما ننظر عن قرب، نرى أن هذه المحيطات تواجه ضغوطًا متزايدة، بدءًا من التلوث البلاستيكي والصيد الجائر، وصولًا إلى تغير المناخ الذي يهدد الحياة البحرية ويغير توازنها الدقيق. ومع استمرار هذه التهديدات، يصبح الحديث عن المحيطاتِ في يومها العالمي دعوة للتفكير فيما يجب فعله لاستعادة توازن هذه المنظومة التي يعتمد عليها البشر بشكل مباشر.

المحيطات وأهداف التنمية المستدامة

ولأن المحيطات تشكل ركيزة أساسية لاستدامة الحياة على الأرض، فإن رعايتها والحفاظ عليها تتطلب منا مسئولية جماعية تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسات المحلية؛ لتصبح جزءًا أساسيًّا من الجهود العالمية التي تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة، خاصة الهدف (14) الذي يدعو إلى حفظ المحيطاتِ والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحو مستدام.

عندما نُحدث توازنًا حقيقيًّا بين ما نأخذه من المحيط وما نعيده إليه، فإننا نُعيد رسم علاقة الإنسان بالطبيعة، وذلك يعني تقليص الصيد الجائر، وتوسيع المناطق البحرية المحمية، وإيقاف تصريف النفايات في المياه، واستثمار التكنولوجيا من أجل مراقبة صحة النظم البيئية البحرية، لا استنزافها.

ومع دخول عقد الأمم المتحدة لعلوم المحيطاتِ في خدمة التنمية المستدامة حيز التنفيذ، فإن الأمل يتجدد في إمكانية تحويل العلوم البحرية إلى قرارات سياسية وممارسات اقتصادية مسئولة؛ فالعلم لا يجب أن يبقى حبيس المختبرات، وإنما يجب أن يوجّه السياسات، ويقود الابتكار نحو حلول ذكية تحمي الحياة البحرية وتضمن استدامتها.

فرنسا تستضيف مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات

وفي خطوة محورية ضمن الجهود الدولية لحماية المُحيطات، تحتضن مدينة نيس الفرنسية مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات في يونيو 2025 في حدث منتظر سيكون منصة حاسمة لرسم خريطة طريق جديدة لمستقبل البحار، حيث سيكون هناك مسئولون حكوميون، وباحثون، وممثلو قطاع خاص، وأصوات من المجتمع المدني، يجتمعون لصياغة “خطة عمل نيس من أجل المُحيطات” التي من المفترض أن تكون بمثابة إعلان عالمي يركز على الفعل لا الوعود، ويشمل التزامات طوعية تعكس وعيًا دوليًّا بحجم التحديات.

المؤتمر لا يسعى لإنقاذ المحيطات من الانهيار فقط، وإنما لتحويلها إلى مصدر متجدد للتنمية المستدامة؛ فمن خلال الشراكات والابتكار، يمكن إطلاق مشروعات تهدف إلى إعادة تأهيل النظم البيئية البحرية، وتعزيز السياحة البيئية، وتحقيق العدالة المناخية لصالح المجتمعات الساحلية التي تواجه خطر الفيضانات والتآكل البحري.

معاهدة أعالي البحار

وفي سياق هذه الجهود العالمية لحماية المُحيطات، تبرز معاهدة أعالي البحار التي تعد نقلة نوعية في حماية المناطق الواقعة خارج الحدود البحرية الوطنية، هذه المناطق الشاسعة، التي تُعرف بـ”أعالي البحار”، تشكل ما يقرب من نصف سطح الأرض وتقع بعيدًا عن السواحل، في أعماق لا تصل إليها سوى غواصات الأبحاث.

وعلى الرغم من اتساعها وأهميتها البيئية، بقيت هذه المناطق لعقود دون حماية حقيقية، غير أنه مع إقرار هذه الاتفاقية الدولية الجديدة، التي تهدف إلى حماية التنوع البيولوجي في هذه المناطق، بدأت بالفعل مرحلة جديدة من المسئولية العالمية تجاه المُحيطات، حيث تنص المعاهدة على وضع 30% من المُحيطات تحت الحماية البيئية بحلول عام 2030، وهي خطوة فارقة يمكن أن تُسهم في وقف التدهور السريع للأنظمة البحرية، كما تفتح الباب أمام تمويل عادل ومستدام لمشروعات الحفاظ على البيئة البحرية، وتعزز من إمكانية مشاركة الدول النامية في الاستفادة من الموارد البحرية.

هذا التحول في المنظور القانوني والعلمي، يمثل فرصة ذهبية لإرساء قواعد جديدة في التعامل مع المحيط، بعيدًا عن منطق الهيمنة والاستغلال، واقترابًا من منطق الشراكة والتكافل البيئي؛ فالمحيطات لا تعترف بالحدود، ولا تنتمي لأمة واحدة، وإنما هي ميراث جماعي يجب الحفاظ عليه للأجيال القادمة.

ولذلك لا بُدَّ من التحرك الجماعي لحماية هذا المورد الهائل؛ فما نفع الشعارات إذا لم تتغير سلوكياتنا الاستهلاكية؟ وما معنى التوعية إذا لم تُترجم إلى قرارات على مستوى الأفراد والشركات والحكومات؟ ومن المهم أيضًا أنْ نُدرك أنَّ تغيّر العالم يبدأ من وعينا نحن، من قرار نتخذه بعدم رمي البلاستيك في البحر، أو من دعم لمبادرات تنظيف الشواطئ.

إنَّ الحديث عن المحيطات ضرورة بيئية وإنسانية تتجاوز حدود الشعارات؛ ولذلك ترى حماة الأرض أنَّ اليوم العالمي للمحيطات فرصة لإعادة التفكير في سلوكياتنا وممارساتنا تجاه هذا المورد الحيوي؛ فحماية المحيطات مسئولية جماعية تبدأ من قرارات فردية واعية وتستكمل عبر سياسات حكومية طموحة وشراكات دولية فعالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى