الاتجاه المعاكس.. صناعة الأسمنت المصرية والمواد البوزولانية
على غرار قرار وزيرة البيئة رقم (49) لسنة 2021، وما لهذا القرار من تأثير سلبي في صناعة الأسمنت الأبيض في مصر؛ حيث لمْ يراعِ الجوانبَ الفنيةَ الخاصةَ بصناعة الأسمنت الأبيض -وقد طالبنا وزارةَ البيئةِ بضرورة إعادة النظر في هذا القرار وتعديله باستثناء مصانع الأسمنت الأبيض من استخدام الـ”RDF”- فنحن الآن بصدد قرار وزير التجارة والصناعة رقم (561) لسنة 2022 بشأن تعديل المواصفة المصرية للأسمنت الرمادي، والذي لمْ يراعِ بدوره الجوانب البيئية لصناعة الأسمنت المصرية!
في السابع عشر من نوفمبر الماضي صدر قرارُ وزير التجارة والصناعة رقم (561) لسنة 2022، والذي منح منتجِي ومستوردِي بعض السلع الهندسية والكيماوية مهلةَ ستة أشهر؛ لتوفيق أوضاعهم طبقًا للتعديلات على المواصفات القياسية المصرية. ومن بين هذه السلع كان الأسمنتُ، حيث أشار القرارُ إلى المواصفة رقم 4756-2 “الأسمنت-الجزء الثاني: التقييم والتحقق من انتظام الأداء”، والمواصفة رقم 4756-1 “الأسمنت-الجزء الأول: التركيب والاشتراطات ومعايير المطابقة للأسمنت الشائع”.
منذ عقود طويلة ينتج الأسمنت في مصر طبقًا للمواصفة المصرية، التي هي مرآةٌ للمواصفة الأوروبية رقم EN197-1، تلك المواصفة الأوروبية التي لم يطرأ عليها هناك أي تعديل إلى الآن، غير أنه -ولإيجاز الأمر- يمكننا القول: إنَّ تعديلَ المواصفة طبقًا للقرار رقم (561) جاء ليضع مواصفات خاصة لبعض المواد الخام (البوزولانا)، تلك المواصفات غير المتوفرة في المادة البوزولانية الموجودة في مصر (البازلت)، وهو ما يعني تعرض صناعة الأسمنت المصرية لأزمات فنية يؤثر أقلُّ حلولِهَا ضررًا -بصورةٍ سلبيةٍ- في التنمية والاستدامة معًا!
فكما نعلم، يتم إنتاج الأسمنت البورتلاندي عن طريق طحن الكلنكر مع الجبس، ويتم إنتاج الكلنكر عن طريق عمليات تكليس واحتراق مجموعة من المواد الخام كالحجر الجيري، وأكسيد الحديد، والطَّفلة، والرمل؛ لذا تُعَدُّ عمليةُ إنتاج الكلنكر أكثر استهلاكًا للوقود، وأكثر إصدارًا للانبعاثات الكربونية، وأشد تأثيرًا في البيئة، فكلما تمكنتْ صناعةُ الأسمنتِ من استخدام كميات أقل من الكلنكر والاستعاضة عنها بمواد خام صديقة للبيئة – كانتْ أكثر صداقةً للبيئة. وتُعَدُّ الموادُّ البوزولانيةُ من المواد الصديقة للبيئة عند استخدامها في صناعة الأسمنت؛ نظرًا إلى مَا تؤدي إليه من تقليل نسبة الكلنكر المستخدمة، وما يتبع هذا من خفض استهلاك الوقود، وتقليل الانبعاثات الكربونية.
المواد البوزولانية هي فئةٌ واسعةُ النطاقِ من المواد السيليسية والألومينية (مواد تحتوي على أكسيد السيليكون أو أكسيد الألومنيوم)، وهي في حد ذاتها مواد غير أسمنتية، لكن عند تفاعلها مع هيدروكسيد الكالسيوم -في وجود الماء- يمكنها إنتاج مُرَكَّبات ذات خصائص أسمنتية. أما البوزولانا فهي أحد أنواع المواد البوزولانية التي توجد بشكل طبيعي، حيث تنتج عن الرماد البركاني؛ وبالتالي يقتصر وجودها على الدول التي تتمتع ببراكين، مثل إيطاليا، وألمانيا، واليونان، والصين، وغيرها.
يشمل التعريفُ العامُّ للمواد البوزولانية عددًا كبيرًا من المواد التي تختلف اختلافًا واضحًا من حيث المنشأ والتركيب والخصائص، بعضها طبيعي مثل البازلت والبوزولانا، وبعضها صناعي مثل الرماد المتطاير من حرق الفحم في محطات الكهرباء على سبيل المثال.
غير أنه -كما أشرنا سابقًا- ما اشتملت عليه المواصفةُ الجديدةُ من خواص المادة البوزولانية -غير المتوفرة- والواجب استخدامها في صناعة الأسمنت المصرية – له كثيرٌ مِن التأثيرات السلبية اقتصاديًّا واستثماريًّا وبيئيًّا، وأشد هذه التأثيرات سلبيةً أثرانِ:
الأول– استيراد المادة البوزولانية المطابقة لاشتراطات المواصفة الجديدة في وقت عصيب تبذل فيه الدولة المصرية جهودًا مخلصة لتوفير النقد الأجنبي، ليضع عبئًا جديدًا على صناعة الأسمنت المصرية، التي تواجه منذ سنوات العديد من التحديات الكبيرة.
الآخر– زيادة نسبة استخدام الكلنكر في العملية التصنيعية، وهو ما ستترتب عليه أحمال بيئية مضاعفة لصناعة الأسمنت المصرية.
الغريب في الأمر، هو أنَّ البازلت المستخدم في صناعة الأسمنت المصرية يتوافق تمامًا مع المواصفة الأوروبية، ويمكن استخراجه من مصر دون الحاجة إلى الاستيراد، ولكن المشكلة التي نتجت عن القرار رقم (561) لسنة 2022 ليست فقط في إلزام المصانع باستخدام مواد بوزولانية ذات خصائص غير متوفرة في مصر، وإنما في عدم اعتبار البازلت من المواد البوزولانية الصالحة لإنتاج هذا النوع من الأسمنت. والأهم من هذا، هو أنَّ القرارَ لم يُعِرِ الجانبَ البيئيَّ اهتمامًا في وقت يتنافس فيه العالمُ أجمع على خفض البصمة الكربونية.
ولمَا سبق، نناشدُ المسئولينَ في الحكومة المصرية بألا تُتخذ مثل هذه القرارات الوزارية -خاصة تلك التي تتعلق بالاستثمار- دون إشراك الجهات المعنية في الدولة كافةً، جنبًا إلى جنبٍ مع خبراء المجال محل القرار، في وقت أصبحتْ فيه مصرُ أحوج إلى تكاتف الجهات الإدارية؛ لأجل خلق مناخ استثماري يدفع الدولةَ المصريةَ نحو السير في اتجاه تنمية مستدامة حقيقية في إطار رؤية قيادتها السياسية، في حين أنَّ مثل هذه القرارات الوزارية تدفع الدولةَ المصريةَ إلى السير في الاتجاه المعاكس.