صناعات مستدامة

كيفَ يُمكنُ للاستراتيجياتِ المُستدامةِ أنْ تُؤثِّرَ في صناعة الألبان

كيفَ يُمكنُ للاستراتيجياتِ المُستدامةِ أنْ تُؤثِّرَ في صناعةِ الألبان

كيفَ يُمكنُ للاستراتيجياتِ المُستدامةِ أنْ تُؤثِّرَ في صناعة الألبان

يعتبرُ إنتاجُ الألبانِ مِنَ الصناعاتِ الرئيسيةِ على مُستوى العالمِ نظرًا لفوائدِهِ الاقتصاديَّةِ والغذائية. في عامِ 2019، بلغَ إجمالي الإنتاجِ العالمي «851.8 مليون» طنٍّ مُكافئ مِنَ الحليب، حيثُ يبلغُ الاستهلاكُ الرئيسيُّ للفردِ عِندَ حوالي 111.4 كجم/ سنويًّا على مستوى العالم. يُوجدُ أكثر من «245 مليون» بقرةٍ حلوبٍ في جميعِ أنحاءِ العالمِ تنتجَ الواحدة منها 2300 كجم من الألبانِ في المتوسطِ سنويًّا.

هناكَ العديدُ منْ مشتقاتِ الألبانِ التي يتمُّ إنتاجُها والتجارةُ فيها كجزءٍ من سوقِ الألبانِ العالمي، مِنها على سبيلِ المثالِ: اللبنُ المجففُ والزبدةُ والجبن. تُعتبرُ الهندُ أكبرَ منتجٍ للألبانِ على مستوى العالم، معَ 22٪ من الإنتاجِ العالمي، في حينٍ تَأتي الولاياتُ المتحدةُ في المرتبةِ الثانيةِ في الإنتاج، تَلِيها الصين وباكستان والبرازيل.

هذهِ الكميةُ الهائلةُ منْ إنتاجِ الحليبِ لهَا فائدةٌ عالميةٌ كبرى لصحةِ الإنسان، والمجتمع، والاقتصاد. في البُلدانِ ذاتِ الاقتصاداتِ النامية، تَخدمُ الثروةُ الحيوانيةُ العديدَ مِنَ الأغراض، حيث إنَّها تُعتبرُ مصدرَ دخلِ الأسرة، ومصدرًا للأمنِ الغذائي، ورابطًا مباشرًا بصحةِ الإنسان، وتزدادُ هذِه الفوائدُ بشكلٍ كبيرٍ فيما يخصُّ تحقيقُ أهدافِ الاستدامةِ عندَ النظرِ إليها على نطاقٍ ضيِّق.

يعتبرُ الحليبُ ومنتجاتُ الألبانِ مصدرًا معروفًا للكالسيوم والفيتامينات والمعادنِ الأخرى، بالإضافةِ إلى كونِها بروتينًا كاملًا عاليَ الجودة، ولعلَّ واحدةً منْ أكثرِ الفوائدِ الغذائيةِ المُوثقةِ جيدًا لمنتجاتِ الألبانِ هيَ صحةُ العظامِ نظرًا لقُدرتِها على الوقايةِ من هشاشةِ العظامِ إلى جانبِ أمراضِ العظامِ الأخرى، حيثُ يؤثرُ الكالسيومُ الموجودُ في الحليبِ بشكلٍ إيجابيٍّ على كتلةِ العظامِ لَدى الأطفال.

تأثيرُ صناعة الألبان على البِيئة

شهدَ سطحُ الأرضِ ارتفاعاتٍ هائلةً في درجاتِ الحرارة، خاصَّةً في العقودِ الثلاثةِ الماضية، وشَهدْنَا في الثلاثينَ عامًا الماضيةِ أشدَّ الفتراتِ حرارةً على الإطلاق. بالإضافةِ إلى هذِه الزيادةِ في درجاتِ الحرارة، كانَتْ هناكَ تغييراتٌ كبيرةٌ أخرى في المناخ، بمَا في ذلكَ زيادةُ درجةِ حرارةِ المحيط، وارتفاعُ مستوى سطحِ البحر، بالإضافةِ إلى زيادةٍ كبيرةٍ في انبعاثاتِ غازاتِ الاحتباسِ الحراري.

أشارَتِ العديدُ مِنَ الدراساتِ إلى أنَّ إنتاجَ الثروةِ الحيوانية، بما في ذلكَ مراحلُ النموِّ والنقلِ والمعالجةِ والاستهلاكِ له تأثيرٌ كبيرٌ نسبيًّا على تغيُّرِ المناخ. تبيَّنَ أنَّ أبقارَ الألبانِ على وجهِ الخصوصِ تُؤثرُ على البيئةِ من خلالِ مساهماتِها السلبيةِ المحتملةِ في الهواءِ والماءِ والأرض.

وعلى الرغمِ مِنَ التطورِ المستمرِّ لهذِه الصناعة، إلَّا إنَّ أنظمةَ إنتاجِ الألبانِ لا تزالُ تؤثرُ سلبًا على البيئة، وذلكَ منْ خلالِ انبعاثاتِ الغازات الدفيئة التي تنتجُ مِنَ التخمرِ المعوي، والسمادِ الطبيعي (الروث) الناتجِ عنِ الأبقار، وعملياتِ إنتاجِ العَلف، أضِفْ إلى ذلكِ المياهَ المستخدمةَ في عملياتِ إنتاجِ الأعلافِ ومعالجةِ الألبان، وأخيرًا، المياهُ الملوثةُ بالنيتروجين (N) والفوسفور (P) الناتجينَ عنِ الروث.

يمكنُ لرَوثِ الأبقارِ أنْ يوثرَ بالسلبِ على البِيئة، فالنيتروجينُ الذي لا يحتفظُ بِه الحيوانُ أوْ يُفرزُ في الحليبِ سوفَ يخرجُ معَ البولِ والروث، لذا تعتبرُ نُفاياتُ صناعة الألبان مصدرًا مهمًّا للنيتروجينِ والفوسفور، كما يمكنُ أنْ يَتسببَ استخدامُ الأراضي بما يزيدُ عن مُتطلباتِ المحاصيلِ في تلوثِ المياهِ السطحية، كمَا يمكنُ أنْ يؤدِّيَ هذا الفائضُ من النيتروجينِ والفوسفورِ في الماءِ إلى ازدهارٍ سريعٍ في نموِّ تجمُّعاتِ الطحالبِ التي تستهلكُ الأكسجينَ المُذابَ في الماء؛ ممَّا يقللُ مِنَ الأكسجينِ المذابِ اللازمِ لنموِّ الحياةِ المائية.

يمكنُ أنْ يُؤديَ الفائضُ في النيتروجينِ أيضًا إلى تلويثِ المياه، وهذا يُشكِّلُ مُشكلةً بالنسبةِ لصحةِ الإنسانِ والحيوانِ حيثُ يتمُّ تحويلُ النتراتِ المستهلكةِ في مياهِ الشربِ إلى نتريت في الجهازِ الهضمي، والذي يحلُّ محلَّ الأكسجينِ في الهيموغلوبين؛ ويؤدي إلى نقصِ نسبةِ الأكسجينِ في الدم.

تأثيرُ صناعة الألبان على جَودةِ الهَواء

تُؤثِّرُ جودةُ الهواءِ أيضًا على صحةِ الإنسانِ والحيوانِ فضلًا عَنِ البيئة، ومِنَ المعروفِ أنَّ أبقارَ الألبانِ تُساهِمُ في تلويثِ الهواء، حيثُ إنَّها تنتجُ أحدَ المُركباتِ التي تُوثرُ على جودةِ الهواءِ وهوَ الأمونيا NH3. يتمُّ إنتاجُ الأمونيا عندمَا يتفاعلُ النيتروجينُ في اليوريا منْ بَولِ الحيوانِ معَ اليورياز الموجودِ في البراز، كمَا تُؤثرُ استراتيجياتُ إدارةِ نُفاياتِ الألبانِ بشكلٍ كبيرٍ على انبعاثاتِ NH3 في الهواء.

يمكنُ أنْ يُساهِمَ النيتروجينُ الموجودُ في النُّفاياتِ أيضًا في إنتاجِ الغازات الدفيئة منْ خلالِ تَكوينِ وتَطايُرِ أكسيدِ النيتروز (N2O)، حيثُ يمكنُ أنْ يسهمَ الرَّوث في أراضي المحاصيل، وكذلكَ الذي يَتسلَّلُ منه إلى البُحيراتِ في انبعاثاتِ أكسيدِ النيتروز.

مِنَ الغازات الدفيئة الكبيرةِ الأخرى التي تنتجُها نُفاياتُ الأبقارِ الحلوبِ هوَ الميثان (CH4). تعتمدُ كميةُ الميثانِ المنبعثةِ منْ نُفاياتِ صناعة الألبان على كميةِ الكربونِ والهيدروجينِ والأكسجينِ الموجودِ في النفايات، ممَّا يجعلُ تخزينَ الرَّوْثِ (السماد) والنظامَ الغذائيَّ واستخداماتِ الأرضي عَواملَ مساهِمةٍ أساسيةٍ في إجمالي إنتاجِ الميثان.

يتمُّ أيضًا إنتاجُ نسبةٍ أصغرَ مِنَ الميثانِ في أمعاءِ الحيوانِ عنْ طريقِ عمليةِ الهضمِ والتَّخمير، حيثُ يتمُّ امتصاصُ هذَا الميثانِ في الغالبِ في الأمعاءِ بنسبة (89٪) وفي النهايةِ يتمُّ التخلُّصُ مِنَ النسبةِ المتبقيةِ في صورةِ الغازاتِ والروث.

تأثيرُ التغذيةِ على الانبعاثاتِ منْ أبقارِ الألبان

تؤثرُ النظمُ الغذائيةُ للماشيةِ الحلوبِ بشكلٍ كبيرٍ على  نسبةِ الانبعاثاتِ المعويةِ وخُصوصًا غازَ الميثان، ونظرًا لوجودِ تبايُنٍ كبيرٍ في المُكوناتِ والتركيبِ الكيميائيِّ للوجباتِ الغذائيةِ التي يتمُّ تغذيتُها للأبقارِ الحَلوب، فإنَّ استراتيجياتِ التغذيةِ لديها أكبرُ إمكانيةٍ في تقليلِ انبعاثاتِ الميثان، معَ انخفاضاتٍ محتملةٍ بينَ 2.5 وحتى 15٪.

تعتمدُ كميةُ الميثانِ الناتجةُ على العديدِ مِنَ العوامل، بما في ذلكَ نوعُ التغذيةِ والتركيبُ الكيميائيُّ للكربوهيدرات، ووقتُ الاحتفاظِ بالغذاءِ في البطن، ومعدَّلُ تخمُّرِ الأعلافِ المختلفة، وكذلكَ مُعدَّلُ تكوينِ الميثان.

يُمكنُ تحقيقُ خفضٍ إجمالي في انبعاثاتِ الميثانِ منْ خلالِ مجموعةٍ متنوعةٍ من استراتيجياتِ التغذيةِ المتغيرة. ينتجُ عنْ زيادةِ كثافةِ الطاقةِ أوْ زيادةِ الأعلافِ القابلةِ للهضمِ طاقةً إضافيةً متاحةً للحيوانِ وتوليدَ كمياتٍ أقلَّ من الميثانِ الناتجِ عن التخمرِ المعوي، كمَا تُؤدي زيادةُ نسبةِ النِّشَا في النظامِ الغذائي، على سبيلِ المثالِ من خلالِ زيادةِ مستوياتِ التركيز، إلى تخميرٍ أسرعَ لهذِه الموادِّ العلفيةِ وبالتالي يتمُّ انخفاضِ إنتاجِ الميثان.

وبكلِّ تأكيدٍ ستَتطلَّبُ الأنظمةُ الغذائيةُ التي تَحتوي على نسبةٍ عاليةٍ من النشا إلى الزيادةِ في إنتاجِ الحبوب، ممَّا قد يؤدي إلى استهلاكٍ إضافيٍّ للوَقودِ الأحفوريِّ والأسمدة، وهو ما سيُؤدي في النهايةِ إلى زيادةِ أكسيدِ النيتروزِ وثاني أكسيدِ الكربون؛ ومعَ ذلك، فإنَّ هذَا النظامَ الغذائيَّ عادةً ما يُقابلُه انخفاضٌ كبيرٌ في إجمالي انبعاثاتِ الميثان.

تتأثرُ الانبعاثاتُ الناتجةُ عنِ الرَّوثِ أيضًا بشكلٍ كبيرٍ منْ خلالِ استراتيجياتِ تغذيةِ الأبقارِ الحلوبِ المختلفة، حيثُ ثَبُتَ أنَّ التغذيةَ التي تَحتوي على نِسبٍ عاليةٍ مِنَ الأليافِ تُخفِّفُ مِنَ الانبعاثاتِ المعوية، وكذلكَ تلكَ الناتجةُ مِنَ الرَّوث. على جانبٍ آخر، تقللُ الأعلافُ التي تَحتوي على نِسبِ السكرِ المرتفعةِ منْ إفرازاتِ النيتروجين، وأيضًا لديها القدرةُ على الحدِّ مِنَ النيتروجينِ المُتاحِ للتطايُرِ كانبعاثاتٍ غازية، وبشكلٍ عام، يُمكنُ استخدامُ مجموعةٍ متنوعةٍ من استراتيجياتِ التغذيةِ للمساعدةِ في تخفيفِ الانبعاثاتِ مِنَ المصادرِ المعويةِ والنفاياتِ الناتجةِ عنْ حيواناتِ إنتاجِ الألبان.

استراتيجياتُ التخفيفِ مِنَ الآثارِ البِيئيَّة

بالإضافةِ إلى التغييراتِ في تركيبةِ مُكوِّناتِ النظامِ الغذائي، هناكَ أيضًا إضافاتٌ للوجباتِ الغذائيةِ قدْ تُخفِّفُ مِنَ الانبعاثاتِ المعويةِ وخصوصًا الميثان. إحدى الاستراتيجياتِ الواعدةِ لخفضِ الميثانِ هيَ عنْ طريقِ المكملاتِ الغذائيةِ التي تَقومُ بتثبيطِ نشاطِ بعضِ الإنزيماتِ التي تُساعِدُ على تكوُّنِ الميثان في أمعاءِ المَاشية.

تُقدِّمُ النتراتُ أحدَ الحُلولِ الواعدةِ للتخفيفِ من انبعاثاتِ غازِ الميثان، وقدْ تمَّتْ دراستُها جيدًا لاستخدامِها في غذاءِ الأبقارِ معَ المزيدِ مِنَ الأبحاثِ الحديثةِ التي تُركِّزُ على إمكانيةِ استخدامِها في أبقارِ الألبان. تَعملُ النتراتُ في النظامِ الغذائيِّ كمصدرٍ غيرِ بروتيني للنيتروجين؛ ممَّا يؤدِّي إلى تقليلِ الفعاليةِ وثابتِ الانبعاثاتِ المعوية.

على جانبٍ آخر، يُمثِّلُ إعادةُ تدويرِ المياهِ أحدَ العناصرِ الأساسيةِ لتحويلِ هذِه الصناعةِ إلى الاستدامة، فكَمَا نعلمُ أنَّ اللبنَ يَتكوَّنُ من 87% ماء، وبالتالي وبمساعدةِ التكنولوجيا الحديثة، فمِنَ الممكنِ استعادةُ الماءِ مِنَ الألبانِ المستخدمةِ في صناعاتِ الأجبانِ واللبنِ المُجففِ وإعادةِ استخدامِهِ مرَّةً أخرى.

الاستدامةُ في صناعة الألبان تمتدُ إلى مزارعِ إنتاجِ العَلف، حيثُ يُعتبرُ تبنِّي الاستدامةِ بِها عُنصرًا أساسيًّا يَتحوَّلُ بصناعة الألبان إلى الاستدامة، وذلكَ عنْ طريقِ استخدامِ وتطبيقِ أساليبِ الزراعةِ الحديثةِ التي تَضعُ في الاعتبارِ صحةَ الأراضي الزراعيةِ والاقتصادِ في استهلاكِ المياهِ والطاقة، والحفاظِ على صحةِ الأرضِ الزراعية.

على جانبٍ آخر، يُعتبرُ الحفاظُ على صحةِ الحيواناتِ المُستخدمةِ في إنتاجِ الألبانِ أمرًا هامًّا بكلِّ تأكيد، فمِنْ ناحيةٍ سيَتمكَّنُ الحيوانُ منْ إعطاءِ إنتاجيَّةٍ أعلى بجودةٍ جيدة، ومن ناحيةٍ أخرى سيَكونُ أقلَّ تكلفةً سواءً مِنَ الناحيةِ البِيئيةِ أوِ الاقتصاديَّة، ولبرامجِ التطعيمِ دَورٌ حاسمٌ في تحقيقِ ذلك؛ لتقليلِ مَخاطرِ الإصابةِ بمُختلفِ الأمراض.

وفي نفسِ السياق، يُعدُّ الاعتمادُ على مصادرِ الطاقةِ المتجددةِ أمرًأ آخرَ يُمكنُ لمزارعِ الألبانِ اللجوءُ إليه لتوفيرِ احتياجاتِها مِنَ الطاقةِ دونَ أنْ تُؤثِّرَ بشكلٍ سلبيٍّ على البِيئة، أضِفْ إلى ذلكَ الصياناتِ الدوريةَ لمرافقِ المزرعة؛ بهدفِ زيادةِ الكفاءةِ في استهلاكاتِ المِياهِ والطاقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى