صناعات مستدامة

لمحات من التحول الأخضر في صناعة البناء والتشييد

التحول الأخضر في صناعة البناء والتشييد

لمحات من التحول الأخضر في صناعة البناء والتشييد

تُعَدُّ صناعةُ البناء والتشييد واحدةً من الصناعات الأكثر استهلاكًا للطاقة، مما يعني أنَّ تطبيقَ مفهوم الاستدامة في هذه الصناعة ربما كان غائبًا لعقود طويلة؛ نظرًا لما سيفرضه هذا من تحديات كبيرة لم تكن الصناعة على استعداد لمواجهتها.

تستهلك عملياتُ البناء والتشييد كمياتٍ ضخمةً من المواد الخام والموارد الطبيعية، كما أنها مسئولة عما يصل إلى 39% من انبعاثات الكربون العالمية، وهذا وفقًا لتقدير المجلس العالميّ للأبنية الخضراء؛ وهو تحالف مُكوَّنٌ من مجموعة مجالس منتشرة في أكثر من 80 بلدًا حول العالم، وله التأثير الأكبر في سوق البناء المستدام والأخضر.

ولكن، على ما يبدو -لحسن الحظ- أنَّ صناعةَ البناء والتشييد تتحول تدريجيًّا إلى الاستدامة، وهذا حسب دراسة استقصائية عالمية أجريت بواسطة شركة البرمجيات الألمانية SAP. وقد شملتِ الدراسةُ عديدًا من قطاعات هذه الصناعة، حيث أوضحتْ أنَّ نسبةً كبيرةً من المديرين التنفيذيين للشركات العاملة في صناعة البناء والتشييد استطاعتْ -بالفعل- التحول إلى الاستدامة فيما يخص عمليات التصميم، كما بينتِ الدراسةُ أنَّ نسبةَ 47% من المشاركين يعتبرون الاستدامة بالنسبة إليهم أولويةً قصوى، أو -على الأقل- عنصرًا مهمًّا.

تحديات الاستدامة في صناعة البناء

تمثل الاستدامةُ جانبًا واحدًا من جوانبِ صناعةِ البناء والتشييد المعقدة للغاية، وهذا بسبب ما تواجهه هذه الصناعة من لوائحَ صارمةٍ بشكل متزايد، ومواصفات قياسية وعالمية يجب اتباعها، فضلًا عن القيود الخاصة بالصحة والسلامة المهنية، أضفْ إلى ما سبق التحديات التنافسية التي تواجهها شركات البناء في أثناء محاولاتها في التحكم بتكاليف العمليات، والحفاظ على علاقات فعَّالة وممتدة مع موردينَ ومقاولينَ كثيرينَ، وفوق ذلك كله يظهر البُعد البيئيّ عن طريق محاولة تقليل تكاليف الطاقة والبصمة الكربونية في أثناء استخدام المعدات الثقيلة كثيفة الاستهلاك للطاقة.

في الوقت الحاليّ، تواجه صناعة البناء والتشييد -أيضًا- ضغوطًا عديدةً على المستويينِ المحليّ والعالميّ؛ لأجل تبني التصميم المستدام، وهذا عن طريق تطوير هياكل إنشائية ذات عُمْرٍ افتراضيّ أطول، وأكثر صحةً لقاطنيها، ومتقدمة -أيضًا- من الناحية التكنولوجية.

ورواد صناعة البناء والتشييد حول العالم على وعي -على ما يبدو- بهذه التحديات، التي تفرضها أهداف التنمية المستدامة، خاصةً داخل سلاسل التوريد. ووفقًا للاستطلاع الذي أشرنا إليه سابقًا، أفاد 59% أنَّه سيكون للتحول بسلاسل التوريد إلى الاستدامة دور كبير في دفع هذه الصناعة لتكون أكثر اخضرارًا، بالإضافة إلى توفير ميزة تنافسية للشركات العاملة، لكن زيادة التعقيد في العمليات نتيجةً لتبني الممارسات المستدامة سيمثل عقبةً كبرى يجب إيجاد حلول لها.

لا شك في أنَّ إدارةَ مشروعات البناء أمرٌ صعبٌ ومعقدٌ، ليس فقط في مرحلة البناء، وإنما طوال دورة حياة المشروع، بدءًا من منح الشركة المشروع، مرورًا بتوظيف الأشخاص المناسبين، وإيصال المواد والإمدادات والمعدات المناسبة إلى الموقع، حتى اكتمال البناء في الوقت المحدد، ثم عمليات التشغيل والصيانة المستمرة للمشروع بعد التسليم؛ مما يعني أنَّ دمجَ الممارسات المستدامة في كل هذه المراحل مهمةٌ ليستْ أبدًا يسيرةً.

التحدي الأكبر: انعدام الشفافية

على الرغم من أنَّ كثيرًا من شركات الهندسة والبناء قد وضع خططًا وأهدافًا خاصةً لتحقيق الاستدامة، فإنَّ الاستطلاعَ يُظهر أنَّ القليلَ من هذه الشركات قد اتخذ خطواتٍ ملموسةً لتحقيق هذه الأهداف؛ لأنَّ الافتقارَ إلى الشفافية اللازمة يمثل مشكلةً رئيسيةً عندما يتعلق الأمر بمراقبة الممارسات المستدامة في عمليات البناء والتشييد، حيث يجب أنْ تشملَ -أيضًا- أعمالَ المقاولينَ من الباطن وسلاسلَ التوريد على امتدادها.

ما نقصده هنا، هو أنَّ تبني الاستدامة لا يقتصر على إعلان شركة ما عن استراتيجية لتحقيق أهداف في إطار زمنيّ محدد، وإنما يجب أنْ يشمل تطبيقَ الممارسات المستدامة في العمليات خارج الإطار الرسميّ للشركة، مثل الأعمال التي تتم عن طريق المقاولين من الباطن، وكذا أعمال التوريد على طول سلاسل التوريد المختلفة؛ لذا يتوجب على الشركات أنْ تجعلَ ضمن سياساتها حصرَ التعامل مع المقاولين والموردين الذين يطبقون بدورهم ممارسات مستدامة في عملياتهم المختلفة.

ومع ذلك، فهناك بعض المجالات التي تحرز فيها صناعة البناء والتشييد تقدمًا؛ فقد أفادتْ -على سبيل المثال- نسبةُ 58% من شركات الهندسة والبناء المشارِكة في الاستطلاع أنها خفضتِ الاستهلاكَ الإجماليَّ للطاقة، في حين يعمل بعضُ الشركات المبتكرة على تطوير مواد بناء مستدامة تطلق انبعاثات كربون أقل، وتمتص ثاني أكسيد الكربون والحرارة من البيئة.

العوامل الثلاثة لصناعة بناء مستدامة

ما أشرنا إليه من عقباتٍ وتحدياتٍ لتحقيق التنمية المستدامة في صناعة البناء، ربما جعلت قطاعًا عريضًا من هذه الشركات يغض الطرف عن تبني الاستدامة -بشكل حقيقيّ- في عملياته، وهو ما يجعلنا أمام معضلة إيجاد عوامل دافعة تقود هذه الصناعة إلى الاستدامة على أرض الواقع. والآن، سنُجمِلُ هذه العوامل في ثلاث نقاط رئيسية.

أولًا- سن اللوائح والتشريعات الحكومية: عندما يتعلق الأمر بصناعة البناء والتشييد، فلا شك في أنَّ للقوانين واللوائح دورًا محوريًّا في تشكيل مستقبل هذه الصناعة؛ لذا يجب أنْ تشملَ اللوائحُ والمواصفاتُ القياسيةُ زيادةَ التدابير البيئية في تصميم المشروعات، بما في هذا عمليات إنشائها وصيانتها، وحينئذٍ لن يكون أمام الشركات العاملة في هذا القطاع سوى الانصياع لهذه اللوائح والاشتراطات.

يجب إلحاق تلك الأهداف الطموحة، ذات الصلة باستدامة قطاع البناء -وهي أهداف أعلنتْ عنها الأمم المتحدة- باللوائح والتشريعات المحلية المعنية بالبناء. ومن بين هذه الأهداف -على سبيل المثال- خفض كثافة الطاقة المستهلكة لكل متر مربع في المباني إلى نسبة 30% -تقريبًا- بحلول عام 2030، وهذا على النحو المحدد في اتفاقية باريس، وستدفع اللوائح والتشريعات المحلية شركات الهندسة والبناء إلى البحث عن حلول أكثر استدامة.

ثانيًا- التحكم في التكاليف: لا يمكننا إنكار أنَّ التكلفةَ تمثل أحدَ الاعتبارات الرئيسية بين معظم شركات الهندسة والبناء. ومع استمرار ارتفاع تكلفة المواد الخام، يحتاج قادة الأعمال إلى تخطيط وإدارة مشروعات البناء باستخدام المنتجات والمواد الخام الأكثر فاعليةً من حيث التكلفة، مع ضمان تحقيق أقصى استفادة من الأيدي العاملة والمعدات المستخدمة.

وبناء على سبق، إذا كانتِ الممارساتُ المستدامةُ في عمليات البناء ستؤدي إلى تحميل الشركات المزيد من التكاليف، فقد يختار صناع القرار في هذه الشركات عدمَ تبني هذه الممارسات من الأساس، وهو الأمر الذي أكده الاستطلاع المُشارُ إليه، حيث قال نصف مشاركيه: إنَّ خفضَ تكلفة المواد الصديقة للبيئة من شأنه أنْ يُحدث فرقًا كبيرًا في دعم صناعة التشييد والبناء، لتحقيق أهداف التنمية الاستدامة. كما أفاد جميع المشاركين بأنَّ خفضَ استهلاك الطاقة هدفٌ تسعى إلى تحقيقه الشركات جميعها؛ لتقليل التكاليف في المقام الأول، وهو ما يعني وجود أرض مشتركة بين الاستدامة وصناعة البناء تتمثل في كفاءة الطاقة، فاستهلاك طاقة أقل يعني تكلفة أقل، وملوثات بيئية أقل أيضًا.

ثالثًا- إدراك الأبعاد البيئية: المخاوف العالمية المتزايدة بسبب التغيرات المناخية دفعتْ قطاعًا عريضًا من المستهلكين إلى أخذ الاعتبارات البيئية في الحسبان عند أخذ قرار الشراء، وهو ما أدَّى بدوره إلى وضع ضغوط على شركات الهندسة والبناء لتصميم وبناء المزيد من المباني الصديقة للبيئة.

وما دام المستهلِكُ باحثًا -بطبيعة الحال- عن شيء ما، فلا أشك في أنَّ مقدمي الخدمة سيبذلون وسعهم لتلبية هذا الاحتياج، مما يعني أنَّ عددًا متزايدًا من المستثمرين -حتى الموظفون- سيكون واجبًا عليهم -أيضًا- إدراك الأبعاد البيئية، والبحث عن أساليب بناء ونماذج عمل أكثر استدامةً؛ لكسب رضاء العملاء.

التصميم المستدام

يُصمم المهندسون المعماريون مبانيَ أكثر كفاءةً في استخدام الطاقة بمساعدة التكنولوجيا، وهذا يفرض ضغوطًا متزايدةً على شركات البناء للتحول الرقميّ، وهو التحول الذي من شأنه دفع هذه الصناعة إلى الاستدامة بشكل كبير.

وعلى الرغم من أنَّ صناعةَ البناء والتشييد قد تكون متخلفةً عن الصناعات الأخرى عندما يتعلق الأمر بتبني الممارسات المستدامة؛ فإنَّ شركات الهندسة والبناء -في الواقع- أكثر تقدمًا، وهذا مقارنةً بصناعات أخرى عديدة، عندما يتعلق الأمر باستخدام التكنولوجيا في أثناء عملية التصميم.

فعن طريق تطويع التكنولوجيا الأكثر تقدمًا في صناعة التشييد والبناء -مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد- يمكن إنتاج العديد من الهياكل المبتكرة والمستدامة، التي لم يكن ممكنًا تصميمها وتنفيذها من قبل؛ مما يعطي هذه الصناعة ميزةً تكنولوجيةً مقارنةً بغيرها من الصناعات.

إنَّ التحولَ بصناعة البناء والتشييد إلى الاستدامة لبنةٌ أساسيةٌ في ضمان الاستهلاك الأمثل للموارد، وتحقيق الاقتصاد الدائريّ، ولعل الخطوات التي تتخذها هذه الصناعة في الوقت الحالي تعطي لمحات إيجابية عن الاتجاه الذي تسير فيه نحو مستقبل مستدام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى