كيفَ تُقَوِّضُ الحروب التنميةَ المُستدامة
الحربُ الروسيَّةُ الأوكرانيةُ نموذج
لَطالَما مثَّلَ السلامُ البيئةَ الخِصبةَ المناسِبةَ لنُموِّ وازدهارِ الشُّعوب، فبِتحقُّقِهِ يَتحوَّلُ تركيزُ الحُكوماتِ والقِياداتِ والشعوبِ إلى ملفاتٍ أخرى هامَّةٍ وحيويَّةٍ لم يكنِ النظَرُ فيها أوِ التفكُّرُ بها متاحًا خلالَ أوقاتِ الحروب والاضطرابات. جَودةُ التعليم، الصحة، القضاءُ على الفقر، التغذيةُ السليمة، الحفاظُ على البيئة، العدالةُ الاجتماعية، وغيرُها مِنَ القضايا، كلُّها تَتوارَى في ظُلماتِ الحروب والصِّراعات، وتتوارَى مَعَها طموحاتٌ وآمالُ أجيالٍ ناشِئة، وأجيالٌ أخرى لم ترَ النورَ بَعد.
الأزمةُ الإنسانيةُ نتيجةُ الحربِ في اليمن، دمارُ المَحاصيلِ والأراضي نتيجةُ الحربِ في أوكرانيا، تَشرُّدُ الآلافِ نتيجةُ النِّزاعِ الإثيوبي الإريتري، وغيرُها الكثير، أمثلةٌ جَليَّةٌ تدقُّ نَاقوسَ الخطرِ يومًا بعدَ يوم، وتصرُخُ في آذانِنا لحظةً بلحظة مُنذِرةً بالآثارِ المُدمِّرةِ الجَسيمةِ الناتجةِ عنْ هذهِ الحروب على كلِّ عناصرِ البيئةِ منْ إنسانٍ وحيوانٍ وتُربةٍ وماءٍ وهَواء.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عالَمَنا الحاليَّ يمُرُّ بواحدةٍ مِنْ أصعبِ الأوقاتِ عبرَ تاريخِه المُعاصِر، في ظِلِّ عددٍ مِنَ التحدياتِ والأزماتِ والحروب التي تَعصِفُ بالسلامِ العالميِّ وكلِّ ما يَحوِيهِ منْ مُقوِّمات، فما لَبِثَ العالَمُ أن يَستفيقَ منْ تداعِياتِ جائحةِ فيروسِ كورونا حتى وجدَ نفسَه أمامَ أزمةٍ جديدةٍ مُتمثلةٍ في الحربِ الروسيةِ الأوكرانية، والتي ألقَتْ بظِلالِها على جَميعِ بُلدانِ العالَم المتقدِّمةِ أوِ الناميَة.
مَا بينَ القوَّةِ والضعفِ في النظامِ العالمي
إنَّ مَا عاشَهُ عالمُنا المعاصرُ من فتراتٍ للسلامِ الطويلة -نسبيًّا- عَقِبَ انتهاءِ الحروب مثل الحربِ العالميةِ الثانية، ومنْ بعدِ ذلكَ انتهاءِ الحربِ الباردةِ وتفكُّكِ الاتحادِ السوفيتي، كانَ لهُ بالغُ الأثرِ في ظهورِ قوى اقتصاديةٍ جديدة، وتحالفاتٍ سياسيةٍ ربَّما لم تكنْ مُمكنةً قبلَ ذلك؛ لذَا أَطَلقَتِ العديدُ مِنَ الدُّولِ العِنانَ لحركةٍ مُتسارعةٍ مِنَ البحثِ والتطوير، والتبادلِ العمليِّ والتِّجاريِّ في جميعِ المجالات؛ ليَتحوَّلَ العالمُ بحقٍّ إلى قريةٍ صغيرة.
وكمَا نعلمُ فلكلِّ بُقعةٍ جغرافيةٍ ما تَتميَّزُ به مِنْ مواردَ وظروفٍ بيئيةٍ وسياسيةٍ وطبوغرافيَّة، وهو ما نتجَ عنه ازدهارُ صناعاتٍ محددةٍ في دُولٍ بعينِها، أوْ وجودُ فائضٍ منَ الموادِّ الخامِ يمكنُ تصديرُهُ لدولٍ أخرى، أو إمكانيةُ البحثِ والتطويرِ بشكلٍ مكثَّفٍ في مجالٍ معيَّن، لتحظَى بعضُ الدولِ بمرتبةِ الرِّيادةِ في مجالاتٍ مثلَ تصنيعِ الإلكترونيات، التعدينِ وتكريرِ البترول، النقلِ والمواصلات، زراعةِ المحاصيل، وغيرِها؛ لِيَزيدَ معَ الوقتِ اعتمادُ العالمِ على بعضِه البعض، لدرجةِ أنَّ فيروسًا يظهرُ في الصينِ يَتسبَّبُ في وفاةِ الملايينِ في أمريكا، وتغزُو روسيا أوكرانيا فيتأثرُ رغيفُ الخُبزِ في القاهرة.
هذا الاعتمادُ والتبادُلُ الكبيرُ بينَ الدولِ وبعضِها قادَ العالمَ -في مجملِه- إلى نهضةٍ حضاريةٍ وتِقنيةٍ مَهولةٍ بلا شك، إلَّا إنَّهُ في نفسِ الوقتِ خلقَ العديدَ مِنْ نِقَاطِ الضعفِ في النظامِ العالمي، وأعطَى بعضَ القوى القدرةَ علـى التحكُّمِ في غيرِها؛ ممَّا نتجَ عن ذلك تَغليبُ المَصلحةِ الخاصَّةِ للدولِ العُظمَى على كلِّ شيءٍ آخر.
هذهِ النَّهضةُ التنمويَّةُ والسلامُ المُنتشرُ في مُعظمِ بِقاعِ الأرض، كانَ لهُمَا نتيجةٌ حَتميةٌ وهي الانفجارُ السُّكاني، وفي يومِ الثلاثاءِ 15 نوفمبر 2022 أعلنتِ الأممُ المُتحدةُ أنَّ تِعدادَ السكانِ العالميِّ كسرَ حاجزَ 8 مليار نَسمَة.
التنميةُ المُستدامةُ مَا بينَ الواقعِ والمَأمُول
الزيادةُ السُّكانيةُ المُضطردةُ حَملَتْ معَها العديدَ مِنَ التحدِّيات، على رأسِها الارتفاعُ المستمرُّ لمُعدلاتِ الطلبِ على جميعِ السِّلعِ والخَدمَات؛ وهو ما أدَّى إلى اتساعِ رُقعةِ الصناعةِ والزراعة، وزيادةِ معدلاتِ الإنتاجِ والتنمية؛ ونتيجةً لذلكَ تمَّ استنزافُ العديدِ مِنَ المواردِ مِنَ الموادِّ الخامِ والتنوُّعِ البيولوجي، بالإضافةِ إلى زيادةِ معدلاتِ التلوثِ وانبعاثاتِ الغازاتِ إلى الغلافِ الجوِّي؛ لتَعلُوَ الأصواتُ بِالحَديثِ عنْ ظاهرةِ الاحترارِ العالميِّ وتغيُّرِ المناخ، ومدَى تأثيرِ النشاطِ البشريِّ في ذلك.
إنَّ تغيرَ المناخِ وما نتجَ عنه منْ ظواهرَ مثلَ ذوبانِ الجليدِ في القُطبين، وارتفاعِ مَنسوبِ البِحار، وتأثُّرِ العديدِ مِنَ الأنواعِ مِنْ حيوانٍ ونَبات، أَضِفْ إلى ذلكَ الجَفَاف، واحتراقَ الغابَات، والفيضَانَات، كلُّ ذلكَ رَسَمَ صورةً خطيرةً للوضْعِ الذي نعيشُهُ والخطرِ الوُجوديِّ الذي يُهدِّدُ البشريةَ جمعاء؛ ليَظهرَ على الساحةِ وبقُوةٍ مصطلح «التنميةُ المُستدامَة».
يُمثِّلُ مصطلحُ التنميةِ المستدامةِ رُمَّانةَ المِيزانِ بينَ تَلبيةِ احتياجاتِ الحاضرِ مِنَ التنميةِ وبينَ الحِفاظِ على حظوظِ وفُرصِ الأجيالِ القادمةِ في تحقيقِ تطلُّعَاتِها، في ظِلِّ الحفاظِ على البِيئةِ بكلِّ عناصرِها، هذَا المصطلحُ أصبحَ محلَّ حديثِ العالمِ حولَ كيفيَّةِ تطبيقِهِ وتحقيقِ أهدافِهِ (السبعَة عشر) التي تَوافَقَتْ عليها الدُّول.
وعلى الرَّغمِ مِنْ أناقةِ المصطلحات، وبريقِ الألفاظ، وجَزالةِ العِبارات، تَأبَى القُوى العظمَى إلَّا أنْ تُغَلِّبَ مَصالِحَها الخاصَّة، وتأمينَ الأمانِ والرَّخاءِ لشُعوبِها حتَّى ولَوْ على حِسابِ الشعوبِ الأخرى، في ظلِّ نظامٍ رأسماليٍّ عالميٍّ لا يَعترفُ إلَّا بِالأربَاحِ والأرقام؛ لِتتطورَ الصناعاتُ والخدماتُ بشكلٍ كبيرٍ معَ تشجيعٍ للسلوكيَّاتِ الاستهلاكيةِ في شتَّى المجالات، حتى في تجارةِ المَوتِ وصناعةِ الحروب.
ربَّما لنْ يَكونَ مُستغرَبًا إذَا علِمْنا أنَّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ هيَ المُصدرُ رقْمَ (1) للأسلحةِ والمعداتِ العسكريةِ على مستوى العالم، كما تُمثِّلُ هذهِ الصناعةُ عُنصرًا أساسيًّا في اقتصادياتِ عددٍ كبيرٍ مِنَ الدولِ مثلَ روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وَفقًا لدراسةٍ حديثةٍ من جامعةِ براون، فإنَّ وزارةَ الدفاعِ الأمريكية -بما تُنتجُه وتَستخدمُه مِنْ أسلحة- وحدَهَا لدَيْها بَصمةٌ كربونيةٌ سنويةً أكبرَ منْ معظمِ البلدانِ في جميعِ أنحاءِ العالم، كما أنَّها أكبرُ مُنتجٍ مُنفردٍ لغازاتِ الاحتباسِ الحراريِّ في العالمِ وأكبرُ مستخدمٍ مؤسسيٍّ للبترولِ في العالم.
معَ بدايةِ غزو أفغانستان في عام 2001، هل يُمكنُكَ تَخمينُ مَقدارِ الانبعاثاتِ التي أطلقَها الجيشُ الأمريكيُّ في الغلافِ الجوي؟ الجوابُ هو «1.2 مليار» طنٍّ مِنَ الكربون، ولأغراضِ المقارنَة، يُقدَّرُ إجمالي انبعاثاتِ الكربونِ السنويةِ في المملكةِ المتحدةِ بحوالي «360 مليون» طن.
وما بينَ اختلافِ الأعراقِ والقبائل، وتبايُنِ الرُّؤى الدينيةِ والعَقَدية، وتضارُبِ المَصالحِ الاستراتيجيةِ والسياسية، لم يَسلمْ ثوبُ السلامِ العالميِّ منْ أنْ يَتلطَّخَ بدِماءِ الحروب وتسلط وجشع بعضِ الدول، ولعَلَّ أبرزَها في العُقودِ الأخيرةِ الغزوُ الأمريكيُّ للعراقِ ومنْ قَبلِه أفغانستان، التطهيرُ العِرقيُّ في حربِ البوسنةِ والهرسك، تصارعُ القوى عنْ طريقِ الحربِ في سوريا وليبيا، ومُؤخَّرًا الغزوُ الروسيُّ لأوكرانيا، وغيرُ ذلكَ الكثير.
ربَّما لم يكنْ معظمَنا يظنُّ أو يتخيَّلُ أنَّ حربًا تقعُ بينَ روسيا وأوكرانيا ستَعْني تهديدَ الأمنِ الغذائيِّ العالمي، بالإضافةِ إلى تحريكِ أسعارِ الطاقةِ إلى مستوياتٍ قياسية، وخلقِ حالةٍ من عدمِ اليقينِ ألقَتْ بظلالِها على الاقتصادِ العالمي، سواءً للدولِ الناميةِ أوِ الدُّولِ المتقدمة، معَ مخاوِفَ من تِكرارِ الأزمةِ الماليةِ العالميةِ في العام 2008.
إنَّ الحربَ بين روسيا وأوكرانيا أثَّرَتْ ولا تَزالُ تؤثِّرُ بشكلٍ كبيرٍ على سلاسلِ التوريدِ العالميَّة، ممَّا يعيقُ تدفُّقَ السِّلع، ويزيدُ مِنَ التَّكلِفةِ بشكلٍ هائِل، كما يُؤدي إلى نقصِ المُنتجاتِ المُختلفةِ بشكلٍ عام، ونقصٍ كارثيٍّ في الغذاءِ حولَ العالمِ بشكلٍ خاص.
الأكثرُ تأثُّرًا مِنَ الأزمة
تَرافقَتِ الحَربُ ضدَّ أوكرانيا معَ ارتفاعٍ حادٍّ في مُعدلاتِ التضخُّمِ تحتَ ضغطِ الغذاءِ والطاقةِ وأسعارِ السِّلعِ الأساسيَّة. كانَ التضخمُ يَرتفعُ بالفعلِ طَوالَ عام 2021 نتيجةً لزيادةِ الطلبِ الناجمِ عنِ الانتعاشِ الاقتصاديِّ والاضطرابِ المستمرِّ للعَديدِ منْ سلاسلِ التوريدِ نتيجةً لجائحةِ كورونا، لكنَّ الحربَ عجَّلَتْ ذلك، ولعَلَّ هذا التأثيرَ كانَ أكثرَ وضوحًا في البلدانِ الناشئةِ والنامية، والتي يؤثرُ التضخمُ فيها على معظمِ الشرائحِ والفِئات.
هذا الارتفاعُ في التضخمِ أدَّى إلى زياداتٍ كبيرةٍ في أسعارِ الفَائدةِ منْ قِبلِ البنوكِ المركزيةِ وتشديدِ الأوضاعِ النقدية، ومرةً أخرى، تأثرَتْ بشكلٍ كبيرٍ البلدانُ الناشئةُ والنامية، ويأتي ذلكَ في سِياقٍ تَضاعَفَ فيه الدَّيْنُ الخارجيُّ لهذهِ البلدانِ مرةً أخرى في السنواتِ الأخيرة. لسُوءِ الحظِّ أنَّ البلدانَ الناميةَ لا تَحظَى إلا بحَيِّزٍ ماليٍّ هامِشيٍّ لمُكافحةِ الأزماتِ والتخفيفِ منْ تأثيرِها على مواطِنيها بالمقارنةِ معَ الدولِ المتقدمة، وهو الأمرُ الذي أصبحَ أشدَّ وضوحًا بعدَ بَدءِ الحربِ الروسيةِ الأوكرانية.
إذا نظَرْنا بشكلٍ أكثرَ تحديدًا إلى المناطقِ المختلفةِ من العالم، في الشرقِ الأوسطِ مثلًا، فإنَّ البلدانَ غيرَ المُنتِجةِ للطاقةِ والمستورِدةِ للغذاءِ مثلَ مصرَ تأثرَتْ بشكلٍ واضح، كما يَتوقَّعُ صُندوقُ النقدِ الدوليِّ أيضًا تباطُؤًا حادًّا في دُولِ شمالِ إفريقيا، وكذا البلدانُ التي كانَتْ تُعاني بالفعلِ مِنْ أزماتٍ كبيرةٍ مثلَ لبنان، بلْ وأكثرُ من ذلك في اليمنِ وسوريا وأفغانستان.
ومنْ ناحيةٍ أخرى في الخَريطة، نجدُ منطقةَ القوقاز وآسيا الوسطى الأكثرَ تضرُّرًا بسببِ علاقاتِهِمَا الوَثيقَةِ معَ روسيا وأوكرانيا، أمَّا عَنِ الدُّولِ غيرِ المُنتجةِ للطاقة -ولا سِيَّما أرمينيا وجورجيا- فإنَّها بكلِّ تأكيدٍ الأكثرُ عُرضَةً للخَطر. في أمريكا اللاتينية، تسبَّبَتْ جائحةُ كورونا في فوضَى في العَديدِ مِنَ البُلدان؛ ما أدَّى إلى ارتفاعٍ حادٍّ في الفقرِ وعدمِ المساواة، وبالإضافةِ إلى ذلك، فمِنَ المُفترضِ أن تَشهدَ القارَّةُ تباطُؤًا اقتصاديًّا حادًّا هذا العام، لا سِيَّما في البرازيل وتشيلي.
هذهِ الحربُ التي مثَّلَتِ القَشَّةَ التي قَسَمَتْ ظَهْرَ البعيرِ بالنسبةِ للعديدِ مِنَ الدول قَوضَّتْ جُهودَ العَديدِ مِنَ الحكوماتِ في تحقيقِ أجنداتِ التنميةِ المستدامة. وكلُّ ذلكَ مَا هوَ إلَّا نتيجةٌ مباشرةٌ للحربِ الروسيةِ على أوكرانيا، ونُسلِّطُ الضَّوْءَ في السطورِ القادمةِ على دَورِ ومساهمةِ كلٍّ مِنَ الدولتيْنِ في الاقتصادِ العالمي، وخصوصًا أمنَ الغذاءِ والطَّاقَة.
مَاذا تُمثِّلُ روسيا للاقتصادِ العالمي؟
ترتبطُ أهميةُ روسيا في الاقتصادِ العالميِّ لكونِها مُنتِجةً ومُصَدرًا رئيسيًّا للطاقةِ والحُبوب. خارجُ أسواقِ السلعِ الأساسيَّة، لَطالَما كانَتْ روسيا ذاتَ تأثيرٍ اقتصاديٍّ ضئيلٍ نسبيًّا، على الرَّغمِ ممَّا تَتمتَّعُ بهِ منْ مساحةٍ ضخمةٍ وعددٍ سكانيٍّ كبير. الاقتصادُ الروسيُّ يأتي في المرتبةِ (الحاديةَ عشر) حيثُ إنَّها منْ بينِ أكبرِ الاقتصادياتِ على مُستوى العالَم، حيثُ مثَّلَ «1.7٪» من إجمالي الناتجِ العالميِّ في عام 2021، وعلى الرغمِ مِنَ الرَّغبةِ المُعلنةِ في تنويعِ اقتصادِها لعقودٍ مِنَ الزمان، هَيمنَ النفطُ والغازُ على البضائعِ الروسية، حيثُ تمثِّلُ صادراتُ الطاقةِ حِصةً كبيرةً منْ إيراداتِ الميزانيةِ الحكوميَّة.
التجارةُ تُعَدُّ مَصدرًا هامًّا للاقتصادِ الروسي، وتَبلغُ نسبةُ تجارةِ السِّلعِ الروسية (الصادرات زائد الواردات) إلى الناتجِ المحلي الإجمالي لديها متوسط حوالي 40٪ في السنواتِ الأخيرة، مُقارنةً بـ 20٪ في الولاياتِ المتحدة. في عام 2020، احتلَّتْ روسيا المرتبةَ «16» على مستوى العالمِ بينَ مُصدِّري البضائعِ والمرتبة «21» بين المستوردين، وقد بلغَ إجمالي صادرتِها «492 مليار» دولارٍ في عام 2021، بزيادةٍ قدرها 46٪ عن عام 2020.
المعادن، بما في ذلكَ النفطُ والغاز، شكَّلَتْ ما يقرُبُ من 45٪ من هذهِ الصادرات، في حينِ زَادتِ الوارداتِ بنسبة 27٪ لتصل إلى «294 مليار» دولارٍ في عام 2021، وتأتي الأجهزةُ الميكانيكيةُ في المرتبةِ الأولى بينَ البضائعِ المستوردة، حيثُ مثَّلَتْ ما يقرُبُ من ثُلثِ وارداتِ السلعِ الروسية.
وجديرٌ بالذكرِ أنَّ روسيا هي واحدةٌ من أكبرِ منتجي ومُصدِّري بعضِ الحبوبِ والمعادنِ الاستراتيجيةِ على مستوى العالم، على سبيلِ المثال، تُعتبرُ الدولةُ مصدرًا رئيسيًّا لعنصرِ النيون المستخدمِ في أشباهِ الموصلات، وعنصرِ البلاديوم المستخدمِ في المحولاتِ الحفَّازة، ومعدنِ التيتانيوم المستخدمِ في صناعةِ الطائرات، كما تَحصلُ أوروبا على ما يقرُبُ من 40 في المائةِ من غازِها الطبيعي و25 في المائةِ من نفطِها من روسيا.
وبشكلٍ عام، فإنَّ روسيا تُعتبرُ أكبرَ مُصدِّرٍ للغازِ الطبيعيِّ في العالم، وثاني أكبرِ مُصدرٍ للنفط، وثالثَ أكبرِ مُصدرٍ للفحم بنسبة 20٪ و11٪ و15٪ من الصادراتِ العالميةِ على التوالي في عام 2019 (طبقًا لبياناتِ الوكالةِ الدوليةِ للطاقة)، كما تُعدُّ روسيا أيضًا أكبرَ مُصدرٍ في العالم للأسمدةِ النيتروجينية، والمُوردَ الثاني والثالثَ للأسمدةِ البوتاسيةِ والفوسفوريةِ على التوالي (طبقًا لمنظمةِ الأغذيةِ والزراعة)، حيثُ مثَّلَتْ أكثرَ من 15٪ من صادراتِ الأسمدةِ العالميةِ في عام 2020.
تُساهمُ روسيا بشكلٍ حاسمٍ في الأمنِ الغذائيِّ العالَمَي؛ وذلكَ لكونِها أكبرَ مُصدِّرٍ للقمحَ في العالم، حيثُ صدَّرَتْ كميَّاتٍ مِنَ القمحِ تزيدُ عن «7.3 مليار» دولارٍ في عام 2021. وَجْهاتُ التصديرِ الرئيسيةِ كانَتْ مصرُ وتركيا ونيجيريا وإيرانُ وليبيا، وفيما يخصُّ مَوسِم 2022/2023، تقدرُ وزارةُ الزراعةِ الأمريكيةُ أنَّ روسيا ستُحافظُ على مكانتِها كأكبرِ مُصَدرٍ للقمح، معَ توقُّعِ وصولِ صادرتِها مِنَ القمحِ إلى «39 مليون» طن، بزيادة 18.2٪ على أساسِ سَنوي.
الدَّورُ الروسيُّ الحيويُّ لا يتوقَّفُ فقطْ على تصديرِ القمحِ والأسمدة، حيثُ تعتبرُ روسيا أيضًا مُورِّدًا رئيسيًّا للشعيرِ والذرةِ وفولِ الصويا واللفت، بالإضافةِ إلى الزيوتِ الغذائيةِ مثلَ زيتِ عبَّادِ الشمس، وزيتِ بذورِ اللفتِ وغيرِها.
ماذا تُمثِّلُ أوكرانيا للاقتصادِ العالمي؟
على عكسِ ما قدْ يَعتقدُهُ الكثيرون، تَتميَّزُ أوكرانيا بخُصوبةِ أراضيها الزراعيةِ والتي يَعتبرُها عددٌ منَ المتخصصينَ الأعلى جودةً في العالم، حيثُ تحتلُّ الأراضي الزراعيةُ في هذا البلدِ الأوروبي نسبة 71%، وهو ما أَهَّلَها لِتَكونَ دولةً زراعيةً بامتياز، تُغطِّي احتياجاتِ شعبِها وتصدِّرُ كمياتٍ ضخمةً من الحُبوبِ المختلفةِ إلى دولِ العالم.
تُعدُّ أوكرانيا أكبرَ مُصَدرٍ لزيوتِ البذورِ المستخدمةِ بشكلٍ أساسيٍّ في الطهي، حيثُ تُمثِّلُ نسبة 40% من الإنتاجِ العالمي، كما أنَّها أيضًا رابعُ أكبرِ مُصَدِّرٍ للذرة، حيثُ تُمثلُ 13% من الصادراتِ العالمية. تنتجُ أوكرانيا أيضًا ما يصلُ إلى 50% من الإنتاجِ العالمي لغازِ النيون وهو عنصرٌ حاسمٌ يُستخدَمُ في صناعةِ الرقائقِ الإلكترونية.
لنْ نُبالغَ إذا قلْنَا أنَّ أوكرانيا هي مَنبعُ غذاءِ العالم، حيثُ تُنتِجُ حوالي نصفَ زيتِ عبادِ الشمسِ في العالم، ووَفقًا لوزارةِ الزراعةِ الأمريكية، تمثلُ أوكرانيا 15٪ من التجارةِ العالميةِ في الذرةِ، و10٪ من تجارةِ القمحِ العالمية، إلَّا إنَّ الصِّراعَ الجاري أدَّى إلى قَطْعِ مثلَ هذهِ الصادرات، معَ استمرارِ روسيا في حِصارِ الحبوبِ في موانئِ أوكرانيا على البحرِ الأسود.
تُعدُّ أوكرانيا أيضًا سُوقًا لتصديرِ اللحومِ والدواجن، بالإضافةِ إلى منتجاتِ الألبانِ والجبنِ والبيض، كما أنَّ لها حصةً كبيرةً في سوقِ عسلِ النحلِ العالمي، حيثُ تحتلُّ المركزَ الثالث، والأولَ على الصعيدِ الأوروبي.
الأهميةُ الأوكرانيةُ للاقتصادِ العالميِّ لا تقتصر على الحُبوبِ والحَاصلاتِ الزراعيةِ فقط، حيثُ إنَّ أوكرانيا أحدُ أكبرِ مصدري الصُّلبِ على مستوى العالم حيثُ تأتي في المرتبةِ الثامنة، ولعلَّ الحربَ الروسيةَ الأوكرانيةَ مثَّلَتْ صدمةً حقيقةً لسوقِ الصلبِ العالمي؛ ما أدَّى لارتفاعِ أسعارِهِ بشكلٍ ملحوظ.
علاوةً على ما سبق، تُعدُّ أوكرانيا أحدَ الدولِ الرائدةِ في صناعةِ الفضاء، فمع 16000 موظف، تُضَاهِي وكالةُ الفضاءُ الأوكرانيةُ حجمَ وكالةِ ناسا تقريبًا، تلكَ المؤسسةُ المَوْرُوثَةُ مِنَ الحِقبةِ السوفيتية، تُسيطرُ على «20 شركة» تَعملُ في صناعةِ الفضاءِ والأقمارِ الصناعية.
تَذخُرُ أوكرانيا باحتياطيَّاتٍ كبيرةٍ مِنَ الغازِ في شطرِها الشرقي، بالإضافةِ إلى ثَروةٍ مَعدنيةٍ ضَخمة، حيثُ تَأوِي بعضًا منْ أكبرِ احتياطيَّاتِ العالمِ مِنَ التيتانيومِ والحديدِ الخام، وحقولِ الليثيومِ غيرِ المُستغلةِ ورواسبَ ضخمةٍ مِنَ الفحمِ، جميعُها تبلغُ قِيمتُها حوالي «عشرات التريليونات» مِنَ الدولارات.
كيفَ تؤثرُ الحربُ الروسيةُ على البيئةِ في أوكرانيا؟
تسبَّبَتِ الحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ في حدوثِ صدماتٍ كبيرةٍ أثَّرَتْ بشكلٍ خطيرٍ على الاقتصادِ العالميِّ والجغرافيا السياسيةِ والأمنِ الغذائي، إلَّا إنَّهُ بسببِ الحالةِ الإنسانيةِ المأساويةِ التي تَعيشُها هذهِ البُقعةُ مِنَ العالم، تَمَّ التَّغَاضي عنِ الآثارِ على البيئة، ومعَ ذلك، وبسببِ القِتالِ والمَعاركِ العَنيفة، ستكونُ الآثارُ مأساويةً وستؤدِّي إلى كارثةٍ بيئيةٍ بكلِّ تأكيد.
تؤثرُ الحربُ بالفعلِ على مناطقَ خارجَ أوكرانيا، فعلى الرغمِ أنَّ الحربَ لا تَزالُ مُستمرة، إلَّا إنَّ هناكَ أدلةً كثيرةً على تلوُّثِ الهواءِ الشديدِ وانبعاثاتِ غازاتِ الاحتباسِ الحراريِّ الناتجةِ عَنِ المَعاركِ بكميَّاتٍ ضَخمَة، أَضِفْ إلى ذلكَ الأنشطةَ الحَربيةَ التي أُجرِيَتْ بالقُربِ مِنْ محطةِ الطاقةِ النوويةِ بزاباروجيا (المحطة النووية الأكبر في أوروبا)؛ ممَّا أثارَ المخَاوفَ مِنَ التسرُّبِ الإشعاعي، وأعادَ إلى الأذهانِ كارثةَ تشيرنوبل.
يتأثرُ التنوُّعُ البيولوجيُّ بشكلٍ كبيرٍ بسببِ الإزالةِ الشديدةِ للغاباتِ وتدميرِ الموائلِ معَ العديدِ مِنَ الآثارِ الخَطيرةِ المُحتملةِ على الحَياةِ البريَّة. مِنَ المُحتملِ أنْ تُؤدِّيَ أعمالُ القَصفِ وحفرُ الخنادقِ والأنفاقِ إلى تدهورِ التربةِ والمساحاتِ الخضراء، وهو أمرٌ ذو أهميةٍ شديدة؛ لأنَّ أوكرانيا لديها مساحاتٌ كبيرةٌ مِنَ التربةِ الأكثرِ خُصوبةً على مستوى العالم؛ ممَّا سيؤثرُ على إنتاجِ الغذاءِ بكلِّ تأكيد.
مِنَ المُحتملِ أنْ تتأثرَ جَودةُ المياهِ وتوافُرُها؛ بسببِ تدميرِ البِنيةِ التحتيةِ ونقلِ الملوثاتِ إلى احتياطيَّاتِ المياه، كما أنَّه مِنَ المُحتملِ أنْ تَتضرَّرَ خدماتُ النظامِ البيئيِّ المقدمةِ بشدةٍ لأنَّ إزالةَ الغاباتِ ستُقلِّلُ منْ قُدرةِ النُّظمِ البِيئيةِ على تنظيمِ تلوثِ الهواءِ أوِ المناخ.
سيُؤدي تدهورُ التربةِ إلى إعاقةِ إنتاجِ الغذاء، كما أنَّ التأثيرَ على جماليَّاتِ المَناظرِ الطبيعيةِ والتراثِ الثقافيِّ وتدميرِ التماسُكِ الاجتماعيِّ يُهددُ بشكلٍ كبيرٍ الشعبَ الأوكراني. أخيرًا، فإنَّ التأثيراتِ على صحةِ الإنسانِ ضخمةٌ بالفعل، لكنَّها ستَكونُ أضخمَ بسببِ التعرُّضِ لمستوياتٍ عاليةٍ مِنَ التلوثِ وتدهورِ الظروفِ الصحية.
كيفَ تُؤثرُ الحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ على سُوقِ الطاقة؟
يَلعبُ إنتاجُ الطاقةِ وتصديرُ البضائعِ دَورًا كبيرًا في الاقتصادِ الروسي، وعلى نفسِ المِنوال، تُعتبرُ روسيا لاعبًا كبيرًا في أسواقِ الطاقةِ العالمية -ليسَ فقطْ في النفط- ولكنْ أيضًا في الغازِ الطبيعيِّ والفحمِ معَ كونِ أوروبا مُعرَّضةً بشكلٍ خاصٍّ للتغيراتِ في إمداداتِ الطاقةِ الروسية.
توتَّرَتْ أسواقُ النفطِ والغازِ منذُ الغزوِ الروسيِّ لأوكرانيا؛ ممَّا ساهمَ في ارتفاعِ الأسعارِ والتضخُّمِ في جميعِ أنحاءِ العالم، بينما يُحاولُ الغربُ إيجادَ طرقٍ للابتعادِ عنْ إمداداتِ الطاقةِ الروسيةِ لتُصبِحَ روسيا أكثرَ عُزلةً عَنِ الاقتصادِ العالمي.
ولتوضيحِ الصُّورةِ لكم، فلسنواتٍ عديدةٍ اعتمدَتْ دُولُ أوروبا على روسيا للحُصولِ على نسبةٍ كبيرةٍ منْ احتياجاتِها مِنَ الغازِ الطبيعيِّ المستورد؛ هذهِ النسبةُ التي زادَتْ بشكلٍ كبيرٍ في السنواتِ الأخيرةِ نظرًا لسياساتِ الطاقةِ التي تتبعُها دُولُ الاتحادِ الأوروبي، والتي تَشملُ التخلُّصَ التدريجيَّ من الطاقةِ النووية، وتقليلَ استهلاكِ الفحم؛ بهدفِ خَفضِ انبعاثاتِ غازاتِ الاحتباسِ الحراري.
ولترجمةِ ما سبقَ للأرقام، غطَّى الغازُ الروسيُّ احتياجاتِ الغازِ الطبيعيِّ بنسبة 94% لفنلندا، 49% لألمانيا، 46% لإيطاليا، 40% لبولندا، 24% لفرنسا، 11% لهولندا، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الدُّول، لذا لم يكنْ مستغرَبًا أن يتحوَّلَ الغازُ الطبيعيُّ إلى ورقةِ لعبٍ في أيدي روسيا للردِّ على العُقوباتِ القاسيةِ التي فرضْتَها أمريكا والاتحادُ الأوروبي؛ لتُصبحَ أوروبا أمامَ خطرِ مواجهةِ شتاءٍ قارصٍ في ظلِّ وجودِ عجزٍ في إمدادِ الغازِ الروسيِّ والذي يُستخدمُ على نطاقٍ واسعٍ في التدفِئَة.
أوقَفَتْ روسيا تسليمَ الغازِ الطبيعيِّ إلى العديدِ مِنَ دُولِ الأعضاءِ في الاتحادِ الأوروبي، الأمرُ الذي مثَّلَ صفعةً قَويَّةً للقارةِ العجوز، كما وضعَ العَديدَ مِنَ الحكوماتِ أمامَ مُعضلةٍ أخلاقيةٍ بين التخلِّي عَنِ الخُنوعِ للغازِ الروسيِّ أوِ العودةِ مرةً أخرى للفحم؛ لتلبيةِ الاحتياجِ المتزايدِ على الطاقةِ خلالَ فصلِ الشتاء، دونَ الاكتراثِ بأيِّ اعتباراتٍ أو تأثيراتٍ على البيئةِ والمناخ.
وعلى الرغمِ أنَّها ملتزمةٌ رسميًّا بخُطتِها للتوقُّفِ تمامًا عنِ استخدامِ الغاز الأحفوري بحلولِ عام 2030، إلا إنَّ ألمانيا غيَّرَتْ مسارَها منذُ غَزَتْ روسيا أوكرانيا في فبراير الماضي، ومِنَ المفارقاتِ أنَّ نائبَ المستشارِ الألمانيِّ ووزيرَ الشؤونِ الاقتصاديةِ والعملِ المناخي «روبرت هابيك» أعلنَ أنَّ الحكومةَ تُعِيدُ تَشغيلَ محطاتِ الفحمِ المتقاعدةِ مرةً أخرى لِتَعويضِ الغازِ الروسي.
في نهايةِ شهر يونيو الماضي، أعطى تَحالفُ المستشارِ الألماني «أولاف شولتس» الضَّوْءَ الأخضرَ لإعادةِ تشغيلِ «27 محطة طاقة» تَعملُ بالفحمِ حتى مارس 2024. الحكومةُ الألمانيةُ ليسَتِ الوحيدةَ التي اتخذَتْ هذَا القرارَ داخلَ الاتحادِ الأوروبي، حيثُ أعلنَتْ بعضُ الدُّول -النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا- عن نِيَّتِها في تمديدِ أو إعادةِ تشغيلِ محطاتِ الطاقةِ التي تمَّ إغلاقُها، في محاولةٍ لتجاوُزِ الأشهرِ القليلةِ المقبلةِ بأمان، كما أجَّلَتِ المملكةُ المتحدةُ كلَّ خططِ العامِ الحالي الخاصَّةِ بإغلاقِ محطاتِ الطاقةِ العاملةِ بالفحم.
ولكنْ ماذَا يَعني عودةُ العديدِ من دُولِ أوروبا للاعتمادِ على الفحمِ بشكلٍ رئيسٍ كمصدرٍ للطاقة؟
العودةُ للفحمِ وأثرُها على المناخ
لا شكَّ أنَّ أوروبا تُعتبرُ عِملاقًا صِناعيًّا ضخمًا، وما دامَ ذَكَرْنَا «صناعة» فلا بُدَّ منْ ذِكْرِ «طاقة» بشكلٍ مُترافق، حيثُ ازدادَتِ احتياجاتُ القارةِ العجوزِ مِنَ الطاقةِ بشكلٍ كبيرٍ في العُقودِ الأخيرةِ نظرًا للتقدُّمِ الصناعيِّ والتِّقنيِّ الكبير، وخصوصًا الطلبَ على الغازِ الطبيعيِّ نظرًا لكونِهِ أقلَّ مصادرِ الوَقودِ الأحفوريِّ ضررًا بالبيئةِ والمناخ، ما يَتماشَى معَ سياساتِ الاستدامةِ المُتبنَّاةِ مِنْ قِبلِ هذهِ الدُّول.
العودةُ إلى الفحمِ كشفَتْ الوجهَ الحقيقيَّ للغربِ في تغليبِ المصلحةِ الخاصَّةِ وقتَ الأزماتِ ومدَى فراغِ شِعاراتِها في الحفاظِ على البيئةِ والحدِّ من تغيُّرِ المناخ، وبالحديثِ عَنِ الأخير، فإنَّ العودةَ للاعتمادِ على الفحمِ بشكلٍ واسعٍ سيُمثِّلُ عَقبةً جديدةً أمامَ تحقيقِ أهدافِ اتفاقيةِ باريس في الحدِّ مِنَ الاحترارِ العالميِّ عندَ «1,5 درجة مئوية».
تغيرُ المناخِ هو أخطرُ تأثيرٍ عالميٍّ طويلِ الأجلِ للعودةِ لاستخدامِ الفحم. كيميائيًّا يتكونُ الفحمُ في معظمِهِ من عُنصرِ الكربون، والذي عندَ حرقِهِ يتفاعلُ معَ الأكسجينِ الموجودِ في الهواءِ لإنتاجِ غازِ ثاني أكسيدِ الكربون، وهو أهمُّ غازاتِ الاحتباسِ الحَراري، والذي عندَ إطلاقِهِ في الغُلافِ الجوي، يَعملُ بمثابةِ الغِطاءُ الذي يلتفُّ حولَ الكُرةِ الأرضيَّة، مِمَّا يُؤدِّي إلى ارتفاعِ درجةِ حرارةِ الأرضِ فوقَ الحُدودِ الطبيعية.
تَشمَلُ عواقِبُ الاحترارِ العالميِّ الجفافَ، وارتفاعَ مستوى سطحِ البحرِ، والفيضانات، والطقسَ القاسيَّ وفقدانَ الأنواع. ترتبطُ شدةُ هذهِ التأثيراتِ مباشرةً بكميةِ ثاني أكسيدِ الكربون التي نطلقُها، بما في ذلكَ منْ محطاتِ الطاقةِ العاملةِ بالفحم، في الولاياتِ المتحدةِ على سبيلِ المِثال، يُمثِّلُ الفحمُ ما يقرُبُ منْ رُبعِ جميعِ انبعاثاتِ الكربونِ المرتبطةِ بالطاقة.
لذا، فنقصانُ إمداداتِ الغازِ الطبيعيِّ بسببِ الحربِ يَعني عجزًا في الطاقةِ لدَى العديدِ منْ دُولِ أوروبا؛ ما أدَّى إلى عودةِ العديدِ مِنَ الدُّولِ إلى حرقِ الفحمِ لتوليدِ الطاقة، والذي يَعني بدورِهِ زيادةَ انبعاثاتِ ثاني أكسيدِ الكربون؛ لِتَكونَ النتيجةُ تعزيزَ الاحترارِ العالميِّ وظاهرةِ تغيُّرِ المناخ، ليدفعَ ثمنَ ذلك دُولٌ أُخرُ ليسَتْ طرفًا في كلِّ هذهِ الصراعات.
ولعلَّ المِثالَ الأبرزَ على الآثارِ المدمرةِ لتغيُّرِ المناخِ على الدُّولِ البعيدةِ عنْ مناطقِ الصراع هو المَجاعةُ الحاليةُ في جزيرةِ مدغشقر، هذا البلدُ الزراعيُّ البسيطُ الذي يُعاني من أسوءِ جفافٍ منذُ عقود، ما أدَّى إلى تدميرِ المجتمعاتِ الزراعية، وهي المجاعةُ الأولى منْ نَوْعِها التي يَتسبَّبُ بها تغيرُ المناخ؛ لينعدمَ الأمنُ الغذائيُّ في أكثرَ من بُقعةٍ في البلد.
كيفَ تُؤثِّرُ الحربُ على الأمنِ الغذائي؟
على الرغمِ مِنْ موقعِهِمَا المحدودِ في الاقتصادِ العالمي، معَ ما يقرُبُ من 2٪ فقطْ مِنَ الناتجِ المحلي الإجمالي العالمي، تُعتبرُ روسيا وأوكرانيا «سلَّتَيْنِ لغذاءِ العالم» وهما مُنتجانِ ومُصدِّرانِ مُهمَّانِ للسِّلعِ الزراعيةِ الحيويةِ والحبوب.
ونظرًا لكونِ الحربِ الجاريةِ بينَ قوتَيْنِ زراعيتَيْنِ رئيسيتين، فإنَّ الحربَ الروسيةَ الأوكرانيةَ لهَا تأثيراتٌ اجتماعيةٌ واقتصاديةٌ سلبيةٌ مختلفةٌ يتمُّ الشعورُ بها الآن على المستوى الدوليِّ وقدْ تَتَفَاقَم، لا سِيَّما بالنسبةِ للأمنِ الغذائيِّ العالمي، ممَّا يُشكِّلُ تحدِّيًا للعديدِ من البلدان، خاصَّةً تلكَ التي تعتمدُ على الوارداتِ الغذائية.
في الوقتِ نفسه، جاءَتِ الحربُ في وقتٍ سَيِّئٍ لأسواقِ الغذاءِ العالميَّةِ نظرًا لأنَّ أسعارَ الموادِّ الغذائيةِ كانَتْ مُرتفعةً بالفعل؛ بسببِ الاضطراباتِ في سلسلةِ التوريدِ الناجمةِ عنْ جائحةِ كورونا، والطلبِ العالميِّ القوي، وضعفِ المحاصيلِ في بعضِ البُلدان.
وصلَتْ أسعارُ المُدْخلاتِ الأساسيةِ للزراعة، مثلَ الأسمدة، إلى مستوياتٍ قياسيَّةٍ نظرًا لارتفاعِ أسعارِ الطاقةِ اللازمةِ للإنتاج، وبالتالي، فإنَّ العديدَ مِنَ المزارعينَ في العديدِ مِنْ أنحاءِ العالمِ يَستبدلونَ المحاصيلَ عاليةَ التكلِفةِ التي تتطلبُ الأسمدة، مثلَ القمحِ والذرة، بمحاصيلَ تتطلبُ القليلَ مِنَ الأسمدة، مثلَ فول الصويا؛ ما قد يُؤدِّي ذلكَ إلى تفاقُمِ النقصِ الحالي في الإمداداتِ ورفعِ أسعارِ الخبزِ والحبوبِ والموادِّ الغذائيةِ الهامَّةِ الأخرى.
طبَّقَتِ العديدُ مِنَ البلدانِ قُيودًا على صادراتِها لتأمينِ الإمداداتِ الغذائيةِ المحليةِ وتخفيفِ التضخُّم، فعلى سبيلِ المثالِ خفَّضَتِ الهندُ مِنْ تصديرِ القمح، وخفَّضَت صريبا من تصديرِ الحُبوبِ والزيوتِ النباتية؛ ممَّا أدَّى إلى تفاقُمِ الوضع، وعلى الرَّغمِ أنَّ هذهِ القيودَ قد تكونُ جذَّابةً محليًّا، إلَّا إنَّ لها آثارًا بعيدةَ المدى على تَسعيرِ الغذاءِ العالميِّ والأمنِ الغذائيِّ بشكلٍ حاد.
قد تُؤدِّي الأعمالُ العسكريةُ إلى عواقِبَ قصيرةٍ وطويلةِ المدى على قدرةِ أوكرانيا على نقلِ المنتجاتِ الزراعيةِ داخلَ حُدودِها وخارجها، خاصَّةً إذا تمَّ تدميرُ مرافقِ الموانئِ والسككِ الحديدية. علاوةً على ذلك، ففي أبريل 2022، تعهَّدَتْ روسيا بالحدِّ مِنَ الصادراتِ الزراعيةِ والغذائيةِ لتكونَ «للدول الصديقة» فقطْ ردًّا على العقوباتِ الغربيةِ المفروضة، كلُّ ذلكَ سيُؤدِّي إلى تفاقُمِ النقصِ العالميِّ في الإمداداتِ الغذائيةِ ورفعِ الأسعارِ وإضعافِ الأمنِ الغذائيِّ لمئاتِ الملايينِ مِنَ الناس.
كيفَ تُؤثرُ الحربُ على تحقيقِ أهدافِ التنميةِ المُستدامة؟
يعتبرُ النزاعُ الروسيُّ الأوكرانيُّ حدثًا عالميًّا مأساويًّا، فبصرفِ النظرِ عَنِ الخسائرِ في الأرواح، فإنَّ الصراعَ الحاليَّ لهُ تأثيراتٌ هائلةٌ على البيئةِ والاقتصادِ والمجتمع، كما أثارَ الصراعُ سلسلةً مِنَ الأحداثِ ذاتِ التداعياتِ على المستوى العالمي، وخاصَّةً في الطاقةِ والغذاء.
يَفرِضُ تصعيدُ هذا الصراعِ تهديداتٍ خطيرةً نحوَ تحقيقِ أهدافِ الأممِ المتحدةِ للتنميةِ المستدامة، ليسَ فقطْ على البُلدانِ المتورطةِ بشكلٍ مباشرٍ في النزاعِ ولكنْ أيضًا على البلدانِ الأخرى، لا سِيَّما البُلدانُ الناميةُ الأكثرُ عُرضةً للخطرِ الاقتصادي.
يَتباينُ تأثيرُ النزاعِ الروسيِّ الأوكرانيِّ على أهدافِ التنميةِ المستدامة، حيثُ تتأثَّرُ أهدافُ التنميةِ المستدامةِ للتنوُّعِ البيولوجي بشكلٍ أساسيٍّ على المستوى الإقليمي (روسيا وأوكرانيا والدول المحيطة ودول الاتحاد الأوروبي)، كما تَتأثَّرُ أهدافُ التنميةِ المستدامةِ على المستويات المحليَّةِ للدُّولِ التي لديها أطرافٌ في الحرب، على سبيلِ المثال، الهدفُ الثالثُ منْ أهدافِ التنميةِ المستدامة (الصحة الجيدة والرفاهة)، والهدفُ الرابع (التعليم الجيد).
الحربُ الجاريةُ بينَ روسيا وأوكرانيا تَضَعُ أيضًا العديدَ منْ أهدافِ التنميةِ المستدامة (SDGs) في مَهَبِّ الريحِ بالنسبةِ لعددٍ مِنَ الدُّولِ الأخرى خارجَ نطاقِ الصراع، ولا سِيَّمَا الهدفُ الأول (القضاء على الفقر)، والهدفُ الثاني (القضاء على الجوع)، والهدفُ الثاني عشر (الاستهلاك والإنتاج المسؤولان)، ومعَ ذلك، فإنَّ عواقِبَ الحربِ على الأمنِ الغذائيِّ تَتَفَاقَمَ بسببِ مجموعةٍ متنوعةٍ مِنْ جوانبِ الجُمودِ الكامنةِ ونقاطِ الضعفِ وعدمِ الكفاءةِ في النظمِ الغذائيةِ العالميَّة.
أدَّى ارتفاعُ الأسعارِ إلى الضغطِ على الاحتياطيَّاتِ الأجنبيةِ للدُّولِ المستوردةِ للغَذاء، ونتيجةً لذلك، تأثَّرَتْ أسعارُ الصرفِ في عديدٍ مِنَ الدُّول، ما وضَعَها تحتَ ضُغوطٍ اقتصاديةٍ هائِلة، أعَاقَتْ خِططَ التَّعَافي منْ تبعاتِ جائحةِ كورونا، كمَا عطَّلَتْ تطبيقَ الخططِ والاستراتيجياتِ الخاصَّةِ بالتنميةِ المستدامة.
مِنَ المُتوقعِ أن يُؤثرَ انخفاضُ قيمةِ العُملةِ بالسلبِ في مُواجهةِ الضغوطِ التضخُّمِيَّةِ وتَرويضِ أسعارِ الموادِّ الغذائيةِ والسِّلعِ والخدماتِ الأخرى؛ مِمِّا سَيُقلِّلُ مِنَ القوةِ الشرائيةِ للمستهلكينَ ويزيدُ مِنَ العِبءِ على الميزانيَّاتِ الحكومية.
ستُؤخرُ الحربُ التحوُّلَ المُستدامَ للعَديدِ مِنَ البُلدانِ فيما يَخُصُّ النُّظمُ الغذائية، فعلى سبيلِ المثال، تضغطُ عدةُ دولٍ على أوروبا لتأجيلِ السياساتِ المستدامةِ الخاصَّةِ بـ «الانتقالِ إلى الزراعةِ الأكثرِ اخضرارًا» والتركيزِ على زيادةِ الإنتاجِ الزراعيِّ استجابةً للحربِ دونَ النظرِ لأيِّ اعتبارٍ آخر.
وفي واقعِ الأمر، وكمَا لُوحِظَ أثناءَ جائحةِ كورونا، قدْ يَكونُ للحربِ تأثيرٌ خطيرٌ على التقدُّمِ نحوَ تحقيقِ أهدافِ التنميةِ المستدامة؛ وذلكَ بسببِ خَلْقِ أزمةٍ غذائيةٍ عالميةٍ قدْ تُعرِّضُ أجنداتِ تنفيذِ أهدافِ التنميةِ المستدامةِ لدَى العديدِ مِنَ الحكوماتِ للتأجيلِ وحتَّى الفشل.
بالإضافةِ إلى ما سَبَق، دَفعَتْ تكاليفُ الطاقةِ المرتفعةِ العديدَ مِنَ الحكوماتِ إلى زيادةِ الإنتاج «الاعتماد على الوقود الأحفوري»؛ وبالتالي تأخيرُ التحوُّلِ إلى الطاقةِ المتجددة، ما يَعني الاستمرارَ في زيادةِ انبعاثاتِ غازاتِ الاحتباسِ الحراريِّ وتغيرِ المناخ، أضفْ إلى ذلكَ تخلِّي الحكوماتِ عَنِ الجهودِ المبذولةِ للتخلُّصِ التدريجيِّ مِنْ استخدامِ الفحم؛ ليُصبحَ الهدفُ السابع (طاقةٌ نظيفةٌ بأسعارٍ مَعقُولة) في مَهبِّ الريحِ أيضًا.
وبدلًا مِنَ الإنفاقِ على محطاتِ الطاقةِ الجديدةِ والمتجددة، تُسارِعُ الدُّولُ المتقدمةُ للحصولِ على المزيدِ مِنَ البترول، كما يُخصصونَ ملياراتِ الدولاراتِ لبناءِ منشآتِ الغازِ الطبيعيِّ المُسَال، علاوةً على ذلك، يُؤدِّي ارتفاعُ أسعارِ المعادنِ إلى زيادةِ تكاليفِ الطاقةِ المتجددة، والتي تَعتمدُ على المَعادنِ مثلَ الألومنيوم والنيكل.
وكمَا نَرى، فإنَّ الحربَ الروسيةَ على أوكرانيا التي لا يَزالُ العالمُ يَكْتَوي بنيرانِها حتى اللحظةِ تُعطي مثالًا صارخًا على تأثيرِ الحروب على الاستراتيجيَّاتِ العالميَّة، بمَا في ذلكَ تحويلُ مساراتِ التنميةِ المستدامةِ إلى مساراتٍ وقتيةٍ أخرى لا تَرى إلا مواجهةَ الأزمةِ دونَ النظرِ في أيِّ اعتبارات، معَ تغليبِ المصلحةِ الخاصَّةِ لكلِّ دولةٍ على حسابِ غيرِها.
الغزوُ الروسيُّ لأوكرانيا يَجلِبُ حقيقةً صارخةً أخرى إلى الواجهة: بدونِ سَلام، فإنَّ جُهودَنا لبناءِ مستقبلٍ مستدامٍ مَحكُومٌ عليها بالفشل، كما أنَّ عواقِبَ هذا الفشلِ وَخِيمَة. في مارس مِنَ العام 2022، أعلنَتِ الهيئةُ الحكوميةُ الدوليةُ المَعنيَّةُ بتغيُّرِ المناخ (IPCC) بعباراتٍ لا لَبْسَ فيها أنَّنا في مُنعطفٍ حَرِج، وأنَّه فقطْ منْ خلالِ العملِ الفَوْريِّ يُمكنُنا تجنُّبُ كارثةٍ مناخيَّة.
الحربُ الروسيَّةُ الأوكرانيَّةُ في قِمَّةِ المناخ
علـى الرغمِ مِنْ أنَّ الموضوعَ الرئيسي فـي COP27 بشرم الشيخ في مصر، كانَ حولَ كيفَ يُمكنُ للدُّولِ الأكثرِ ثراءً والأكثرِ تلويثًا تقديمُ الدعمِ الماليِّ للدولِ الأكثرِ فقرًا والأكبرِ عُرضةً للتضرُّرِ مِنَ التغيراتِ المناخية، إلَّا إنَّ الحربَ الروسيةَ على أوكرانيا كانَتْ على شفاهِ الجميع، حيثُ ركَّزَتِ العديدُ مِنَ المناقشاتِ علـى الآثارِ السلبيةِ للحربِ على المناخِ والطاقةِ والغذاء.
لمْ تُعَلِّقْ روسيا رسميًّا على الحربِ فـي COP27، باستثناءِ انتقادِ العقوباتِ الموقعةِ عليها، والمتعلقةِ بالحربِ لإلحاقِ الضررِ بالتكنولوجياتِ منخفضةِ الكربونِ في البلادِ والتمويلِ الأخضرِ وتقييدِ سلاسلِ التوريد.
ومِنْ مدينةِ السلام، شرم الشيخ، أطلقَ السيدُ الرئيس «عبد الفتاح السيسي» خلالَ خطابِهِ الافتتاحيِّ في قمةِ قادةِ العالم COP27 في 7 نوفمبر دعوةً إلى رؤساءِ الدولِ للانضمامِ إليهِ في مُناشدتِهِ لإنهاءِ الصراعِ الروسيِّ الأوكراني.
وبعباراتٍ صادقة، قالَ السيدُ الرئيس: «هذهِ الحربُ يجبُ أن تنتهي…، ليسَ الأمرُ أنَّني أريدُ أنْ ألعبَ دَورًا مُعينًا في هذهِ القضية، لكنَّني مِثلُ كثيرينَ آخرين، على استعدادٍ للتحرُّكِ لنرَى نهايةً لهذهِ الحرب». كمَا أَوضحَ السيدُ الرئيسُ كيفَ سَاهمَ عدمُ الاستقرارِ الدوليِّ أيضًا في إلحاقِ الضررِ بمصرَ واقتصادِها حيثُ عبَّرَ عنْ ذلكَ بقولِه: «أرجُو أنْ تَسمحُوا لي أنْ أقولَ ما يَلي: إنَّ بَلدِي ليسَ مِنْ أَقوَى الدُّول اقتصاديًّا». «لقدْ عَانَيْنَا بشدةٍ مِنْ جائحةِ كورونا على مَدَى عاميْن، واليومَ نُعاني مرةً أخرى بسببِ هذهِ الحربِ غيرِ الضروريَّة. أتَخيَّلُ أنَّ العالمَ بأسرِهِ يُعانِي بسببِ الحربِ بينَ روسيا وأوكرانيا».
وتُمثِّلُ دعوةُ السيدِ الرئيس «عبد الفتاح السيسي» في قمةِ المناخِ دعوةً إيجابية، نأملُ في أن تستجيبَ لها القوى العالميةُ لوضعِ حلٍّ عاجلٍ وفَوريٍّ لإنهاءِ الصراعِ في أوكرانيا، بما يَحفظُ السِّلمَ العالمي، ويُخففُ مِنَ الضغوطاتِ على الأممِ والشعوبِ في شتَّى البِقاع.
خَاتمةُ الملفِّ الخاص
لا جدالَ أنَّ الحروب تَحصُدُ أرواحَ البشر، وتُدمِّرُ البِنيةَ التحتيةَ الحيويَّة، وتُخرِجُ النشاطَ الاقتصاديَّ عنْ مَسَارِه، وتَتَسبَّبُ في مجموعةٍ مِنَ الأضرارِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ الأخرى في المنطقةِ المتأثرةِ بشكلٍ مباشر، ومعَ ذلك، يُظهرُ لنَا التاريخُ أنَّ التأثيرَ التخريبيَّ للحربِ أعمقُ بكثيرٍ ويَتجاوزُ الحدودَ الجغرافيةَ للقِتال.
في العُقود الأخيرة، وَثَّقَ المؤرخونَ بتفاصيلَ مضنيةٍ كيفَ ألقَتِ الحروب الماضيةُ بظلالِها على عَلاقتِنا الدقيقةِ بالطبيعة، وفي الواقع، فإنَّ مجردَ التهديدِ بالحرب -كما حدثَ خلالَ الأيامِ الأكثرِ توترًا في الحربِ الباردة- كانَ لهُ بالغُ الأثرِ على كيفيةِ التعاملِ معَ المواردِ وبناءِ التحالفات، ويُمكنُ الشعورُ بمثلِ هذا التأثيرِ بشكلٍ مضاعفٍ اليومَ أيضًا، حيثُ تَسببَتِ الحربُ في أوكرانيا في ارتفاعِ أسعارِ الموادِّ الغذائيةِ والطاقةِ بشكلٍ سريعٍ في جميعِ بقاعِ الأرض.
وعلى ما يبدُو، فإنَّ العالمَ لم يكنْ يَنعمُ بالسلامِ في السنواتِ التي سَبقَتِ الغزوَ الروسيَّ لأوكرانيا، حيثُ وصفَ الكثيرونَ ردَّ الفعلِ الغربيِّ الهائلِ على الغزوِ الروسيِّ مقارنةً بالصراعاتِ الأخرى في جنوبِ الكرةِ الأرضيةِ بأنَّه في أحسنِ الأحوال «معيارٌ أخلاقيٌّ مزدوج»، وفي أسوأِ الأحوال «عنصري».
وعلى كلِّ حال، فإنَّ ردَّ الفعلِ الغربيِّ الهائلِ يُشيرُ إلى أنَّ هذهِ الحرب -أكثر من غيرها من الحروب الماضية- سيَكونُ لها عواقبُ بعيدةُ المَدى على الاستدامة.
وفي حينٍ أنَّ العواقبَ طويلةَ المَدى للغزوِ الروسيِّ لأوكرانيا على النظامِ الدوليِّ لا تزالُ غيرَ واضحة، إلَّا إنَّ هناكَ بعضَ القلقِ أنْ تكونَ هذهِ الحربُ نَذيرَ حِقبةٍ جديدةٍ مِنَ الصراعِ العالمي، وإعادةِ تشكُّلِ القوى، خصوصًا بالتوازي معَ الصعودِ المستمرِّ للصينِ وفكِّ ارتباطِها بالغرب، وبكلِّ تأكيدٍ سيكونُ لذلكَ تأثيرٌ سلبيٌّ على جهودِ الاستدامة.
تؤدِّي الأزمةُ الحاليةُ إلى إعاقةِ الإرادةِ السياسيةِ وتهميشِ أزمةِ المناخِ مِنَ العناوينِ الرئيسية، حيثُ تقومُ أوروبا والولاياتُ المتحدةُ ومناطقُ أخرى بإعادةِ توجيهِ المواردِ البشريةِ والماليةِ اللازمةِ لإعادةِ التسلُّح، كما أنَّ الحربَ الباردةَ الجديدةَ مِنْ شأنِها أن تَقطعَ الروابطَ الدوليةَ متعددةَ الطبقاتِ التي تُعتبرُ أساسيَّةً لبذْلِ جُهدٍ منسَّقٍ لمعالجةِ الدوافعِ العالميةِ لتغيرِ المناخِ وعدمِ المساواة، وأخيرًا، وتمامًا كما كانَ الحالُ أثناءَ الحربِ الباردة، قد يُصبحُ الدعمُ الماليُّ والتكنولوجيُّ للاقتصاداتِ الناشئةِ مَرهونًا بالتوافُقِ الأيديولوجيِّ بدلًا مِنَ الالتزامِ بحفظِ البِيئةِ أو رعايةِ المواطنين.
منذُ إنشائِها في عام 2015، كان يُنظرُ إلى أهدافِ التنميةِ المستدامةِ على أنَّها مترابطةٌ بشكلٍ وَثيق، وكمَا قالَتِ الكاتبةُ الأمريكية «كريستين سميث» عَنِ الهدفِ رقْم 16 (السلامُ والعدلُ والمؤسساتُ القويَّة): «يُمكنُ القولُ بأنَّ تحقيقَ هذَا الهدفِ الواحد [السلام] هو شرطٌ مُسبَقٌ لنجاحِ الأهدافِ الأخرى»، ولَرُبَّمَا كانَ هذَا الطرحُ يبدُو مبالغًا فيهِ قبلَ عِدَّةِ أشهر، إلَّا إنَّنا أصبحْنَا نعيشُهُ الآن.
وفي الخِتام، لا يَسعُنا إلَّا أنْ نقول: إنَّ عالمَنا الآنَ يمرُّ بفترةٍ عَصِيبة، تبدَّلَتْ فيها المَفاهِيم، وتغيَّرَتْ فيها الأَولويَّات، وسَيَطرَتْ فيها المصالحُ والاعتباراتُ الخاصَّةُ لبعضِ الدُّولِ على المصالحِ والاعتباراتِ الخاصَّةِ بالبشريةِ جَمعَاءَ في ظلِّ تهافُتِ بعضِ الحكوماتِ لحمايةِ رفاهيَّةِ الأجيالِ الحاليةِ من شُعوبِها فقط، دونَ النظرِ لِمَا هو أبعدُ من ذلك.
إنَّ الوقتَ قَدْ حَان، والمسؤوليةَ قدْ وَجَبَت، والتاريخَ قد فتحَ صفحاتِه، ليُسَطِّرَ في ثَنايَاهُ كيفَ تعامَلَتِ البشريةُ معَ الخطرِ المُحْدِقِ الذي يُهدِّدُها ويُهددُ الأرضَ التي نسكنُها، وهل كنَّا حُماةً لمصالحِنا الأنانيةِ وتطلُّعاتِنا الفردية، أو أنَّنا كنَّا بحقٍّ… حُماةً للأرض.