خطى مستدامةUncategorized

مؤتمر شرم الشيخ للمناخ.. كواليس الساعات الأخيرة

مؤتمر شرم الشيخ للمناخ.. كواليس الساعات الأخيرة

كان الحدثُ الأبرزُ في مؤتمر شرم الشيخ للمناخ -نوفمبر الماضي- نجاحَ السياسةِ المصريةِ في إدراج بند الخسائر والأضرار ضمن القرارات، وعليه سيصبح البندُ حاضرًا في القمم القادمة، في تعبير صريح عن طموح الدول النامية الساعية إلى التنمية، وضرورة تدبير موارد مالية تمكنها من مجابهة تبعات تغير المناخ.

لم تكن المفاوضاتُ سهلةً قطُّ، تنازعت أعضاءَ فريق التفاوض المصري رغبةٌ مُلحةٌ في إحداث فارق في مسار مؤتمرات الأطراف. سئمت الدول النامية شلالات قرارات تعجز عن تحويل الأمنيات إلى واقع، وانقسم تقييم موقف إدراج بند الخسائر والأضرار بين نجاح مُدَوٍّ -حال تمريره- وإخفاق مُريع حال رفضه.

أوضح مسار المفاوضات في خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من مؤتمر شرم الشيخ صعوبة الوصول إلى اتفاق بحلول ختام المؤتمر – الجمعة 18 نوفمبر. سرت همهمات عن احتمالات تأجيل جلسة الختام، وأُعيد تقييم الموقف، وكان السؤال الحاضر: هل نضع بند الخسائر والأضرار على الطاولة الآن؟

دعونا نستعرض معًا عدة مشاهد تخيلية للساعات الحاسمة قبيل إعلان البيان الختامي.

مساء الثامن عشر من نوفمبر دعا الوفد المصري ممثلي الدول الصناعية إلى اجتماع صباح اليوم التالي، على التوازي عكفت مجموعة إعداد القرارات على إعداد صياغة المسودة متضمنة -بعد نقاشات مطولة- بند الخسائر والأضرار. انتهت المجموعة من عملها وسط أجواء ترقب وقلق شديدينِ قرابة الرابعة فجرًا. بحسابات الوقت يتعذر عليهم الذهاب إلى الفندق لنيل قسط من الراحة، ثم العودة مرَّةً أخرى لبدء الاجتماع المرتقب في الثامنة صباحًا.

نظر رئيس المجموعة في ساعته، ومسح بعينيه الوجوه الـمُتعبة من حوله، ثم طلب منهم أنْ يخلدوا إلى النوم. خلع ربطة عنقه وحذاءه، ووقف في الشرفة بالجورب يحتسي فنجان قهوة فرنسية، ينفث دخان سيجارته في بطء، وينظر إلى السماء متوسلًا! كان القمر في كامل استدارته، حانت منه التفاتة من خلف الباب الزجاجي إلى فريق عمله، ابتسم متذكرًا مواقفهم الطريفة وتعليقاتهم المطعَّمة بالنِّكَاتِ علَى الرغم من التعب والإجهاد. الآن سكنوا، هدهم التعب، توزعوا في أنحاء القاعة بعد ما تخففوا من ربطات عنقهم، وفتحوا الأزرار العلوية لقمصانهم، تمدد بعضهم على الأرض جاعلينَ الحقائبَ الصغيرةَ وسائدَ، حينما تناثرت الأحذية من حولهم.

أمامهم ثلاث ساعات فقط للراحة قبل الاستعداد للاجتماع المرتقب. سريعًا تناثروا في القاعة، ألقى ثلاثةٌ منهم بأجسادهم المنهكة على الفوتيهات، عقد الباقون سواعدهم على طاولات الاجتماعات ودفنوا رؤوسهم، بالرغم من قضاء أكثر من 24 ساعة في العمل تحت ضغوط وتوتر؛ بدا النوم صعب المنال.

عندما يتخطى الجسم المنطقة الفاصلة من الإجهاد البالغ والأرق يصبح النومُ أمرًا محل شك. يلفظ عقلك الفكرة، ويذهب بعيدًا ليسترجع تفاصيل اليوم، يعيد شريط الأحداث، وتتعجب كيف أفلتت تلك التفاصيل في وقتها، وكيف سجلتها ذاكرتك؟! يتسلى بها عقلك الباطن ريثما يخطفه النوم؛ شيئًا فشيئًا ارتفعت أصوات بعضهم لتؤكد استغراقهم في النوم.

في السابعة وأربعين دقيقة غادروا القاعة الخاصة إلى غرفة الاجتماعات، لم تخف عيونهم أرقهم وسهادهم وتعبهم، ومع هذا بدوا متماسكين. توافد ممثلو الدول الصناعية، فعلت عبارات الترحيب مع مداعبات خفيفة، جلسوا في أماكنهم، وُزِّعَتْ مسودة القرارات مع مهلة نصف ساعة للاطلاع وإبداء الآراء. تبادل أعضاء الوفد الحديث بعيونهم، يترقبون ملامح الوجوه التي راحت تتغير متناسيةً أول دروس الدبلوماسية؛ حافظ على وجهك المحايد.

«هذه مسودة القرارات، يمكنكم حذف بند الخسائر والأضرار إذا كنتم ترفضونه، ولكن عليكم أن توضحوا أسباب هذا للعالم. عليكم تفسير التناقض بين صيحات الدفاع عن البيئة -أمام شاشات الفضائيات والمؤتمرات- والتخلي عنها عند اتخاذ قرار»؛ قال الرجل ذو الطول الفارع، الجالس على رأس الطاولة، فتجمد الجميع، ثم أردف: «أمامنا نصف ساعة للحاق بالجلسة العامة، إما أن تساعدوا على إعلان هذه القرارات وإما أنْ تبرروا موقفكم للعالم».

بدا واضحًا أنه أَلقى بآخر سهم لديه، وبقي يفتش عن ردود الفعل في الوجوه الواجمة، بينما تعلو دقات قلوب فريق التفاوض المصري، حتى ظنوا أن الجميع يسمع ضجيجها. تبادل ممثلو الدول الصناعية الأحاديث الجانبية، هزوا الرؤوس يأسًا، آخر احتمال كانوا يتصورونه قبل عقد القمة، بل لم يتخيلوا تحقيقه.

عندما لَمَّحَ أحدهم لنظرائه من الدول الصناعية في أحد الاجتماعات التمهيدية قبل عقد القمة، قائلًا: «أتصور أنَّ مصر تريد أنْ تصنع من القمة فرقًا.. فهل تغامر وتفعلها؟». بادره أحدهم: «لن يكون هذا مغامرةً، بل سيكون انتحارًا سياسيًّا يا عزيزي!»، فعقب الأول وهو ينظر في عيونهم: «وماذا سنفعل إذا فعلتها مصر؟»، أجاب رجل كثيف شعر الرأس والحاجبين، وهو يضغط على مخارج الحروف: «ببساطة لن نقبل، سوف نحوله إلى مؤتمر محلي بلا قيمة، سوف يندمون!».

«نطلب إرجاء إعلان البيان الختامي»، قال ذو الشَّعر الكثيف. تلقى الرجل الفارع الجالس على رأس الطاولة الخبر بهدوء، علمته أعوام الخبرة الطويلة لجوء الطرف الأضعف إلى مد مهلة التفاوض، وبخبرته أيضًا عليه أنْ يحصل على نقطة إضافية لصالحه إذا وافق على الطلب: «لا أستطيع أنْ أعلن هذا من جانبي، نحن جاهزون للإعلان النهائي». فَطنَ ذو الشَّعر الكثيف للحيلة، فخروج أحد ممثلي الدول الكبرى وإعلان تأجيل عقد الجلسة العامة، ومن ثَمَّ تأجيل ختام مؤتمر شرم الشيخ يعني إقرارهم بالمسئولية؛ فاستأذن لجلسة تشاور جانبية بين ممثلي الدول الصناعية، امتدت لنحو أربعين دقيقة.

ما إنْ لمح رئيسُ جلسة التفاوض الرجلَ عائدًا نحوه أيقن أنه كسب الجولة، أخبرته لغة الجسد قبل اللسان أنهم قبلوا إدراج البند، سار ذو الشَّعر الكثيف نحوه بكتفينِ متهدلتينِ، وعينينِ تهربانِ من المواجهة، ورأس مائل إلى اليسار قليلًا. اقترب منه وهز رأسه، وقال: «نطلب تأجيل مؤتمر شرم الشيخ ليومينِ مع إدراج بند الخسائر والأضرار»، فردَّ الآخرُ بحسم: «لا أستطيع، يوم واحد لا أكثر وإدراج البند»، هز الرجل رأسه في استسلام واتجه إلى مقعده ومن حوله ممثلو باقي الدول.

مؤتمر شرم الشيخ للمناخ.. كواليس الساعات الأخيرة

كان الجميع يعلم أنَّ الساعات القادمة لن تكون سهلةً، وستلعب فيها مهارات اللغة والتفاوض الجانب الأكبر في إخراج المشهد، وبالفعل أُعلن تمديد مؤتمر شرم الشيخ، ومضت الساعات المضنية طويلةً حينًا وسريعةً حينًا آخر، بذل فيها كل طرف أقصى ما يملك من مهارات تراكمت لأعوام؛ كرٌّ وفرٌّ إقبالٌ وإدبارٌ دون توقف أو راحة. تناولوا وجباتهم على المقاعد ذاتها حتى انتصف ليل السبت واقترب فجر الأحد، ليقف السيد وزير الخارجية يلقي البيان الختامي، مُعلنًا ختام مؤتمر شرم الشيخ ومتمنيًا للجولة القادمة بدولة الإمارات كل التوفيق والنجاح، ليدوي التصفيق ويتبادل الجميع التهاني.

في أحد الصفوف وقف رجل فارع الطول يصفق مبتسمًا، هرع إليه مساعدوه واندمجوا في عناق ودموع وتهانٍ، وبينما الرجل يربت عليهم بحنو أبوي وثقة قائد كان يعلم أنهم لن يخذلوه، أدى كل منهم دوره بدقة، وبذل كل منهم جهدًا خارقًا وآنَ لهم أنْ يرتاحوا ويستعدوا لجولات جديدة في ملفات جديدة، فليس للتحديات نهاية في عمل عنوانه «لا توجد نهايات.. إنما هي بدايات متعاقبة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى