مسجد “أبُو ستِيت” بمُحافظةِ سُوهاج… تُحْفَةٌ مِعماريَّةٌ مُستدامَة
المسجدُ يُقدِّمُ نَموذجًا فَريدًا على العِمارةِ المُستدامةِ للمَساجِد
مسجد «أبُو ستِيت» بمُحافظةِ سُوهاج… تُحْفَةٌ مِعماريَّةٌ مُستدامَة
المسجد يُقدِّمُ نَموذجًا فَريدًا على العِمارةِ المُستدامةِ للمَساجِد
على مدَى العُقودِ المُتعاقِبَة، كانَ «أبو ستيت» هو المسجدُ الرئيسيُّ بقرية «بَاصُونة» بمركزِ المَرَاغَةِ في مُحافظةِ سُوهاج. المسجدُ الذي بُنيَتْ جُدرانُه في البدايةِ مِنَ الطُّوبِ اللبن، وكسَى سقفَهُ جُذوعُ وجَرِيدُ النخلِ وفُرِشَتِ الحُصُرُ في أرضِه، وكانَ يَحتوي آنَ ذاكَ على بِئر، كانَ قدْ تمَّ إعادةُ بنائِه وتجديدِه بالجُهودِ الذاتيةِ منْ قِبلِ أهالي القريةِ في منتصفِ القرنِ الماضي.
يقعُ في وسطِ القريَة، بجوارِ المَقبرةِ الخاصَّةِ بالأهالي، وكانَ بِمَثابِةِ مسجدُ الجُمعةِ الرئيسي، ومسجدُ الجنائزِ الوحيدُ في القريةِ بأكملِها، إلَّا إنَّه تعرَّضَ لأضرارٍ هَيكليَّةٍ كبيرةٍ نَتجَتْ عَنِ انخفاضِ منسوبِ التربة؛ بسببِ السيول، جعلَته غيرَ آمنٍ على المُصلِّين، ولذلكَ كانَ لا بُدَّ منْ إعادةِ بنائِه، وهو المشروعُ الذي بدأَ في العام 2016 وتمَّ الانتهاءُ منه في العالم 2019.
المسجد الجديدُ والذي يأتِي على مساحةِ 480 مترٍ مربع (كان 140 متر مربع قبل التجديد)، يُعتبرُ تُحفةً معماريَّةً فريدَة، تثيرُ تفاصيلُه الإعجابَ والدهشةَ ليسَ فقط بمَظهرِها الرائعِ وإنَّما أيضًا بسببِ التفاصيلِ الكثيرةِ خلالَ عمليَّةِ إنشائِه، وتطبيقِهِ للعديدِ منْ مبادِئِ التنميةِ المُستدامة.
التحدِّياتُ في التصميمِ والإنشاء
موقعُ مسجد «أبو ستيت بقرية بَاصُونة» بمحافظةِ سوهاج، صَعيدِ مصر، يتميزُ بالمناخِ الجافِّ شديدِ الحرارة، أضِفْ إلى ذلكَ المقبرةَ التي بجوارِه وضيقِ المساحة، كمَا أنَّ الشارعَ أمامه تمرُّ عليه الماشيةُ طَوالَ أيامِ الأسبوع، هذا بخلافِ السوقِ الصغيرِ الذي يُقامُ أمامه كلَّ أُسبوع.
خصائصُ البِيئةِ المحيطةِ به بدورِها متمثلةٌ في الرَّوائحِ والأَتربةِ أضافَتْ تحدِّياتٍ جديدةٍ في تصميمه، لذلكَ كانَ لا بدَّ مِنِ ابتكارِ حلولٍ جريئةٍ ومبتكرة، تَدمجُ ما بينَ عمارةِ المساجدِ التراثيةِ والحديثةِ معَ الحفاظِ على الشخصيةِ المعماريةِ المستقلةِ للمسجد.
كلُّ هذه الأمورِ شكَّلَتْ عائِقًا صعبًا عندَ تصميمه، حيثُ يجبُ أن يُوفِّرَ المَبنَى الجديدُ السلامَ والهدوءَ لمستخدمِيه، وبِناءً على ذلكَ يجبُ مراعاةُ عددٍ مِنَ الأمورِ تتلخصُ في جودةِ الهواءِ داخلَ المسجد؛ لمنعِ الأتربةِ والروائحِ مِنَ الدُّخول، عزلِ الضَّوضاءِ الخارجيَّة، التخفيفِ من درجاتِ الحرارة، أضِفْ إلى ذلك مراعاةَ التكلفةِ المخصصةِ لإعادةِ البناء، وإمكانيةِ الوصولِ المحدودةِ للمُعدَّاتِ نظرًا لضِيقِ المنطقة.
الفوائدُ الكبيرةُ للتصميمِ المُستدَام
مِنَ الخارجِ يبدُو للناظرِ أنَّ هيكلَ المسجدِ والمكسوَّ بالأحجارِ المحليَّةِ مَحمِيًّا من نفاذِ أيِّ شيءٍ من الخارج، عدَا 4 مداخلَ للمصلِّين، اثنانِ مِنها يمكنُ الوصولُ إليها للمصلِّينَ من ذوِي الاحتياجاتِ الخاصَّة.
هيكلُ المسجد هو هيكلٌ هَجين، يَتضمَّنُ أجزاءٌ خرسانيَّةٌ بسيطةٌ معَ سقفٍ يضمُّ قُبَّتَيْنِ فريدتَين، كما تمَّ تقليلُ الفتحاتِ الجانبيةِ إلى أقلِّ حدٍّ ممكنٍ لحمايةِ المصلينَ من الضوضاءِ والأتربةِ والرَّوائح، وتمَّ تعويضُ ذلكَ بسقفٍ مبتكرٍ يَسمحُ بدخولِ الهواءِ النقيِّ من اتجاهِ الشمال، وكذلكَ ضوءُ الشمسِ والوهجِ غيرِ المباشر؛ ليمنحه إضاءةً طبيعيَّةً تُغني عَنِ استخدامِ الإنارةِ سوى في الليل.
السقفُ المبتكرُ يَحتوِي على 108 فتحةٍ مُربَّعة، تُقسَّمُ كلُّ فتحةٍ إلى مُثلثَيْن، أحدُهما شفافٌ مُغَطَّى بالزُّجاج، والآخرُ يَتتبعُ شعاعَ الشمس؛ ليحميَ المسجدَ منْ شعاعِ الشمسِ المباشر، ويَسمحُ بدخولِ الضوءِ الهادِئ، وعبرَ مجموعاتٍ من الفتحاتِ الرأسيَّة، يمكنُ للهواءِ النقيِّ أنْ يَدخلَ لتقديمِ التَّهوِيَةِ الطبيعيَّة.
يتكوَّنُ المسجدُ من 3 طوابق، وقدْ تمَّ مراعاةُ أن يتمَّ استغلالُ المساحاتِ الاستغلالَ الأَمثل؛ لذا تمَّ تصميمُ صحنه ليكونَ متعددَ الاستخداماتِ لاستيعابِ الزياداتِ المَوْسميةِ في أعدادِ المصلِّين، من كِلا الجِنسيْن، خلالَ أيَّامِ الجمعةِ وشهرِ رمضانَ المبارك، بالإضافةِ إلى خدمةِ مجموعةٍ مِنَ الأغراضِ على مدارِ السنةِ مثلَ العياداتِ الطبيَّةِ المؤقتة، ودُروسِ مَحوِ الأُميَّة وغيرِها، وهوَ ما يُعيدُ إلى الأذهانِ الوظيفةَ الشاملةَ الأصليةَ للمسجد، ليسَ فقطْ كمكانٍ للعبادةِ الشعائريةِ ولكنْ كمركزِ خدمةٍ لكلٍّ مِنَ المسلمِينَ وغيرِ المسلمينَ على حدٍّ سواء.
إبداع وجَمالُ تَصميمِ
توجدُ تشكيلاتٌ جماليةٌ خارجيةٌ في تصميمِ المسجد، تَظهرُ في الأعمدةِ المتداخلة، والتي تبدأُ منْ أحدِ أركانِه، لتَفصلَ بينَ ساحتِه الخارجيةِ والمقبرةِ المُجاوِرَة. أمَّا عَنِ الرُّكنِ المقابلِ مِنه، نجدُ مِئْذَنَةً مُربعةً ملتويةَ الأركان، لتُشكِّلَ بذلكَ أحدَ العناصرِ المعماريةِ المُبتكرة، والتي صُمِّمَتْ على نسقِ شكلِ حرفِ الألفِ بالخطِّ المَنسوبِ عندَ ابنِ مُقْلَة، الوزيرِ العباسيِّ الشَّهير.
وعبرَ ساحةٍ أماميةٍ تُقدَّرُ مساحتُها بمائةِ مترٍ مربع، يتوافدُ المصلونَ إلى مدخله الرئيسيِّ والذي تعلُوهُ قبةُ المَدخل، وهي قبةٌ مُستوحَاةٌ مِنَ القبةِ التاريخيةِ للجامع الكبيرِ بقُرْطَبَة، ولكنْ معَ بعضِ التعديلاتِ البسيطَة، بعدَها يَتوجَّهُ المصلونَ يَمينًا إلى صحنِ الصلاةِ الرئيسيِّ بمساحةِ 170 مترٍ مربع، ليَجدُوا واجهةَ المِحرابِ المبتكرة، والتي وُضعَ عليها 99 مُربَّعًا تَحِوي أسماءَ اللهِ الحُسنَى، في حينٍ يَحتوي الطابقُ الأرضيُّ على مساحةٍ متعددةِ الأغراضِ تبلغُ 150 مترًا مُرَبَّعًا.
لا شكَّ أنَّ باصونة يَحتوي على العديدِ مِنَ العناصرِ التقليديَّةِ للعمارةِ في تصميمِ عمارةِ المساجد، كالقُبةِ والمِئْذَنَةِ والمِحرَاب، إلَّا إنَّه تمكَّنَ منْ صياغةِ كلِّ هذهِ العناصرِ بشكلٍ عصريٍّ مُستدامٍ ومُبتكر، يُمهِّدُ الطريقَ أمامَ عمارةِ مساجدَ مستدامةٍ ليسَ فقط في باصونة، ولكنْ أيضًا في كلِّ رُبوعِ الوطن.
وبكلِّ تأكيد، لفَتَ المسجدُ انتباهَ المعماريِّينَ حولَ العالم، كمَا شاركَ في عددٍ مِنَ المسابقاتِ الخاصةِ بالعمارةِ والبناءِ المُستدام، ولعلَّ أبرزَ هذهِ المُسابقات، هي الجائزةُ التي يَرعَاها أميرُ المدينةِ المنورة، الأمير «فيصل بن سلمان»، والتي يُطلقُ عليها «جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد»، حيثُ فازَ في الدورةِ الثالثةِ مِنَ المسابقةِ في ديسمبر الماضي ضمنَ 7 مساجدَ أخرى تمَّ اختيارُها مِنْ بين 201 مسجدٍ مشاركٍ حولَ العالمِ تمثِّلُ 43 دولة. كمَا تَرشَّحَ لعددٍ مِنَ الجوائزِ العالميةِ الأخرى، أهمُّها جائزةُ المِهرجانِ العالميِّ للعمارة.