تغير المناخ: قضية صحة
تغير المناخ: قضية صحة
في ظل المحنة المناخية التي نعيشها الآن، يبدو جليًّا أننا نحتاج إلى بذل جهود متضافرة؛ لإنشاء أنظمة صحية قادرة على التكيف مع تبعات تغير المناخ، بحيث تكون الأنظمة قادرةً على الإعداد والوقاية والاستجابة والتعافي السريع من الأخطار.
لا شكَّ في أنَّ صحةَ الإنسان هي أحد أهم العوامل التي تؤثر في التنمية الاقتصادية لأي بلد؛ وبالتالي فإنَّ العواقب المباشرة للتدهور البيئـيّ -التـي تضر بصحة الإنسان- تؤثر سلبًا في دول العالم كله.
ولفهم التأثيـرات الصحية لتغيـر المناخ، يمكننا تقسيمها إلى فئتيـن: مباشرة وغيـر مباشرة. تشمل التأثيرات المباشرة الإجهاد الحراريّ، الوفاة، الإصابات الناتجة عن الكوارث البيئية، مثل الجفاف والفيضانات وأمواج التسونامي والأعاصيـر. وعلى النقيض من ذلك، تشمل العوامل غيـر المباشرة التغيـرات في جودة الهواء؛ مما يؤدي إلى الأمراض المنقولة بواسطة النواقل، والأمراض المنقولة بالمياه، والإسهال، وسوء التغذية.
لقد أثبتت الابتكارات في مجال الصحة البيئية أنَّ عناصرَ الخطر -مثل التلوث والتعرض للمواد الكيميائية والأشعة فوق البنفسـجية- يمكن أنْ تُسبب أكثـر من 100 نوعٍ من الأمراض والإصابات. وفي حيـن يمكن أنْ يُسبب تلوث الهواء أمراض الجهاز التنفسيّ، فإنَّ ترسبات المعادن الثقيلة يمكن أنْ تؤدي إلى السمية العصبية، كما من المرجح أنْ يؤدي تغيـر المناخ العالميّ إلى انتشار عددٍ من الأمراض المعدية.
في هذا السياق، تحضرني مقولة الدكتورة/ «مارجريت تشان» «المديرة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية»: «الكوكب المدمر لا يستطيع أنْ يحافظ على حياة قاطنيه بصحة جيدة؛ فصحة الأرض وصحة البشر وجهانِ لعملة واحدة». ونظرًا إلى أنَّ خلقَ بيئات أكثـر صحةً والحفاظَ عليها يمكن أنْ يقلل -بشكل كبيـر- من الآثار الضارة، يجب على الحكومات اتخاذ إجراءات قوية لتحسين البيئة وصحتها.
الانزلاق أبعد وأسرع
على الرغم من أنَّ أنظمةَ الإنذار المبكر وجهودَ إدارة الكوارث قد أدَّت إلى انخفاض الوفيات -بسبب الكوارث المرتبطة بالمناخ- فإنه لا يزال علينا أنْ نبذل مزيدًا من الجهد والوقت في هذا الملف الخطيـر.
تُظهر بيانات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) المتعلقة بتغيـر المناخ، أنَّ عددَ الوفيات بسبب الكوارث المرتبطة بالمناخ انخفض -بشكل كبيـر- من 50 ألفًا في سبعينيات القرن الماضي إلى 20 ألفًا فقط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ وهو رقمٌ ظلَّ آخذًا في الانخفاض في الأعوام التالية لذلك. لكن، على جانبٍ آخرَ ظهر قاتلٌ خفيٌّ تسبب في وفاة مئات الآلاف من البشر؛ إنه الاحتـرار!
أشارت التقارير إلى أنه بيـن عامَي 2000 و2019 -عندما ارتفعت درجة الحرارة العالمية بمقدار 0.26 درجة مئوية لكل عقد- بلغ عدد الوفيات المقدرة بسبب الحرارة حوالي 489 ألفًا سنويًّا، مع كون النسبة الكبـرى من الوفيات في آسيا (45٪) وأوروبا (36٪). كما تسببت الحرارة الشديدة خلال صيف 2022 في وفاة أكثـر من 60 ألف إنسان في 35 دولةً أوروبيةً.
تُشير الدراسة الشاملة للموقف إلى أنَّ الاحتباس الحراريّ سيزيد من معدل الوفيات المرتبطة بالحرارة؛ ما يعنـي أنَّ تغيـر المناخ أصبح في ذاته أحد أكثـر الأزمات الصحية صعوبةً، التي تواجهها الشعوب على مستوى العالم.
إنَّ ارتفاعَ درجات الحرارة وتغيـرَ أنماط الطقس يمكن أن يؤديَا إلى تدهور جودة الهواء؛ مما يسبب التهابات الجهاز التنفسيّ، والانسداد الرئويّ المزمن، وانكماش الرئتيـن، والحساسية، ونوبات الربو، وارتفاع حرارة الجسم، فضلًا عن التأثيـرات الخطيـرة على القلب والأوعية الدموية.
ومن المتوقع -مع تغيـر المناخ- أنْ تزداد حرائق الغابات في العدد والشدة؛ وبالتالي سيزداد ما يصدر عن هذه الحرائق من انبعاثات صحية. بالإضافة إلى ما سبق، يظهر تغيـر المناخ في صورة ارتفاع حرارة سطح البحر، وتأثيـرات الجريان السطحيّ على جودة المياه الساحلية، وزيادة الملوحة والرطوبة، والتعرض للبكتيريا المسببة لمرض «لايم».
لقد حان الوقت للالتزام
إنَّ التأثيـرات المتعددة الجوانب لتغير المناخ على صحة الإنسان لا يمكن إنكار أنها تمثل تحديًا هائلًا؛ نظرًا إلى التفاعل المعقد بيـن التغيـرات البيئية والصحة العامة، ما يتطلب نهجًا استباقيًّا متعدد الجوانب، يشمل استراتيجيات التخفيف والتكيف. لقد حان الوقت لتسخير الرؤى العلمية والنماذج الشاملة لابتكار حلول قوية تحمي صحة الإنسان، وتضمن قدرة المجتمعات على الصمود في مواجهة التبعات الحتمية لتغير المناخ.
وهنا أؤكد على أنَّ الحفاظَ على البيئة وتحقيقَ الاستدامة لا مناص أنْ يكونَا في صميم الأجندة السياسية العالمية؛ لذا يتعيـن على الدول أنْ تضمن تخصيص نسبة من إجمالي مساحة أراضيها للغطاء الأخضر، ليكون بمثابة حجر الأساس للوصول إلى الحياد الكربونيّ.
خلاصة القول، يجب علينا أنْ نعي ضرورة العمل على وجه السرعة، وبشكل جمعيّ؛ لحماية قدسية الحياة، وسلامة البيئة على كوكب الأرض، فالأمر لم يعد مجرد مسئولية، وإنما ضرورة أخلاقية؛ فالاختيارات التي نأخذها اليوم ستحدد رفاهة الأجيال القادمة. وأختتم مقالي إليكم بعبارة قد راقَتْنِي: «لا يمكن فهم الحياة إلا بالعودة إلى الوراء، لكنها يجب أن تُعاش بالمضيّ نحو الأمام».
للاطلاع على النسخة الإنجليزية: https://earthsguards.com/pc6s