الاستهلاك غير المستدام.. سلوك خفي وراء التغيرات المناخية التي يعيشها كوكبنا
الاستهلاك غير المستدام.. سلوك خفي وراء التغيرات المناخية التي يعيشها كوكبنا
في قلب الحضارة الأوروبية، حيث تزداد القدرة الشرائية ويتسارع نمط الحياة العصري، يتسلل خطر خفي إلا أنه هائل التأثير، وهو الاستهلاك غير المستدام؛ فالمشتريات اليومية التي تبدو بسيطة، من الطعام إلى الملابس والإلكترونيات، تحمل خلفها سلسلة طويلة من التأثيرات المرتبطة بالتنمية المستدامة والتلوث البيئي على الكوكب، تبدأ من استخراج الموارد وتنتهي في مكبات النفايات، وفي ظل هذه الدوامة المتسارعة، يصبح من المشروع طرح السؤال: هل عاداتنا الشرائية تفسد كل شيء من حولنا؟
لا يقتصر أثر الاستهلاك على تدهور الموارد الطبيعية فحسب، وإنما يمتد ليشمل التغيرات المناخية، وانقراض التنوع البيولوجي، وتلوث الهواء والماء، وحتى الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين؛ فكل منتج نستهلكه يحمل في طياته بصمة كربونية قد تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في رفع حرارة الأرض، وتفاقم آثار التغيرات المناخية وتأثيرها في البيئة مما يطرح أسئلة جوهرية عن التلوث البيئي ودور الأفراد في الحد منه، ضمن إطار أوسع يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة عالميًّا.
وفي ظل هذه التحديات المتفاقمة، تؤكد الوكالة الأوروبية للبيئة أن الاستهلاك بصيغته الحالية لم يعد ممكنًا دون كلفة بيئية واجتماعية عالية، داعية إلى تحول جذري في أنماط الشراء والسلوك اليومي، ومع تزايد الوعي بضرورة هذا التغيير، تطرح الوكالة، بالتعاون مع شركاء أوروبيين، رؤية جديدة لاستهلاك واعٍ ومستدام يحترم حدود الكوكب ويعزز مرونة المجتمعات، وسوف تستعرض حماة الأرض في هذا المقال أبرز ما جاء في هذه الدعوة الأوروبية الطموحة؛ فتابعوا القراءة.
دعوة أوروبية لتغيير أسلوب الاستهلاك
في إطار الجهود الأوروبية الرامية إلى تعزيز مفاهيم التنمية المستدامة، تبرز أهمية النقاشات المؤسسية التي تُعيد التفكير في علاقة الفرد بالمنتج، والمجتمع بالاقتصاد، والاقتصاد بالبيئة، مع التركيز على التحديات الناتجة عن أنماط الاستهلاك غير المستدامة، ومثل هذه الحوارات تُعدّ منصات ضرورية لفهم التأثيرات الاجتماعية والبيئية طويلة المدى للسلوك الاستهلاكي، وتسليط الضوء على سبل التحوّل نحو نماذج أكثر وعيًا.
وتشير مداخلات خبراء الوكالة الأوروبية للبيئة إلى أن الاستهلاك في شكله الحالي لم يعد قابلًا للاستمرار، وهو ما يستدعي تحوّلًا جوهريًّا في الطريقة التي تُنتج وتُستهلك بها الموارد، وتؤكد أصوات بارزة من داخل الوكالة، مثل المديرة التنفيذية “جاكلين ماكجلاد”، على ضرورة أن تقود أوروبا هذا التحول، من خلال نموذج استهلاكي أكثر عدالة بين الأجيال، وأكثر توافقًا مع الحدود البيئية للكوكب، ويتمثل هذا التحول في إعادة النظر في الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية بوصفها فرصًا لإعادة هيكلة الاقتصاد نحو مسارات أكثر خضرة واستدامة، بما يتفق مع الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة.
وتُفتح من خلال هذه الرؤى آفاقٌ جديدة لبناء اقتصاد منخفض الانبعاثات، يوازن بين الاحتياجات المجتمعية والضغوط البيئية، ويتوافق مع المبادئ التي وضعتها الاتفاقيات الدولية بشأن التنمية المستدامة، كما تؤكد هذه النقاشات المسئولية المشتركة التي تشمل الحكومات، والشركات، والمستهلكين، في صياغة منظومة استهلاكية تقلل من الأثر البيئي الناتج عن الإنتاج المفرط، والنقل طويل المسافات، والاستخدام غير الرشيد للطاقة.
ولا يمكن فصل قضايا الاستهلاك عن التحديات البيئية العالمية؛ إذ باتت خيارات المستهلكين تمثل محورًا رئيسيًّا في بناء مستقبل مستدام، ومن هنا، تأتي الدعوة إلى مراجعة جذرية لنمط الحياة الحديث، واستبداله بثقافة استهلاك تضع الاستدامة في صميم أولوياتها، وتعيد الاعتبار إلى التوازن بين الإنسان والطبيعة.
أرقام صادمة
وتشير مؤشرات التنمية المستدامة الحديثة وفق الوكالة الأوروبية للبيئة أن الاستهلاك إلى استمرار الفجوة في استهلاك الموارد بين دول الشمال والجنوب؛ إذ يستهلك المواطن الأوروبي في المتوسط نحو 14.8 طنًّا من المواد سنويًّا، تشمل المعادن والوقود الأحفوري والكتلة الحيوية، وهو ما يؤكد أن وتيرة الاستهلاك المرتفعة لا تزال تضغط بشدة على الأنظمة البيئية، وتوضح بيانات الوكالة الأوروبية للبيئة أن هذا المستوى من الاستهلاك لم يتغير بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير؛ مما يثير القلق بشأن قدرة الكوكب على تحمّل هذه الأنماط غير المستدامة.
أما فيما يتعلق بالنفايات، فقد سجّلت أوروبا في عام 2022 -على سبيل المثال- متوسطًا بلغ نحو 5 أطنان من النفايات للفرد الواحد، تشمل النفايات المنزلية والصناعية وسلاسل الإنتاج، وهو رقم يعكس تعقيد دورة حياة المنتجات في القارة، وتُعدّ النفايات البلدية أحد أبرز مظاهر هذا التراكم، حيث بلغ متوسطها 515 كيلوجرامًا لكل مواطن في السنة ذاتها، مع نسب تدوير وصلت إلى 48% فقط، في حين انتهى أكثر من 22% من هذه النفايات إلى المدافن، في وقت يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى تحسين قدرات التدوير والمعالجة.
وفي سياق متصل، لا يزال هدر الطعام يمثل تحديًا كبيرًا أمام جهود الاستدامة؛ إذ كشفت المفوضية الأوروبية أن مواطني الاتحاد يهدرون نحو 59 مليون طن من الطعام سنويًّا، أي ما يعادل 132 كيلوجرامًا للفرد، نصفها تقريبًا يأتي من المنازل، وتُعدّ هذه الظاهرة مصدرًا خطيرًا لانبعاثات غاز الميثان الناتج عن تحلل الطعام، إلى جانب الهدر الاقتصادي الذي يتجاوز 130 مليار يورو سنويًّا، وهي خسارة يصعب تبريرها في ظل تفاقم أزمات الغذاء عالميًّا.
ولا تقل النفايات الإلكترونية خطورة، فقد وصل إجمالي النفايات الناتجة عن الأجهزة الإلكترونية في أوروبا إلى أكثر من 16 كيلوجرامًا للفرد في عام 2022، بحسب تقرير “المراقبة العالمية للنفايات الإلكترونية 2024″؛ مما يجعل القارة من أكبر المنتجين لهذا النوع من النفايات عالميًّا. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لجمع هذه النفايات وإعادة تدويرها، فإن النسبة التي يتم معالجتها بشكل منظم لا تتجاوز 42%، وهو ما يعني أن كميات ضخمة منها لا تزال تذهب إلى مكبات أو يتم تصديرها إلى دول أخرى، غالبًا دون معالجة آمنة.
تكشف هذه الأرقام مجتمعة عن واقع استهلاكي يفتقر إلى التوازن، ويضع أوروبا أمام مسئوليات بيئية واجتماعية جسيمة؛ فرغم التقدم في السياسات البيئية والتكنولوجيا، لا تزال أنماط الاستهلاك والإنتاج تعكس نمطًا قائمًا على الهدر والاستنزاف، وهو ما يجعل من التحول نحو نماذج دائرية ومستدامة أمرًا غير قابل للتأجيل، إن أردنا الحد من التلوث البيئي ومواجهة تداعيات التغير المناخي المتسارعة.
ورغم وضوح الأرقام وارتفاع مؤشرات الهدر، فإن الجانب الأخطر يكمن في تفاصيل المنتجات التي نستهلكها يوميًّا دون إدراك لحجم الأثر البيئي المتراكم، وهنا تبرز أهمية النظر إلى الاستهلاك باعتباره خيارًا بيئيًّا يحمل في طياته تداعيات واسعة على المناخ والموارد، ويضع التنمية المستدامة في اختبار عملي.
الاستهلاك بين الأثر الخفي والوعي الغائب
وراء كل منتج نستهلكه قصة بيئية لا نراها، غير أن آثارها تتراكم على الكوكب بصمت؛ فعلى سبيل المثال، يتطلب إنتاج قطعة برجر واحدة 2400 لتر من الماء، ويخلف من انبعاثات الكربون ما يعادل قيادة سيارة كبيرة لمسافة 15 كم؛ مما يوضح العلاقة الوطيدة بين أنماط استهلاكنا والتغيرات المناخية.
ورغم أن السيارات في أوروبا أصبحت أكثر توفيرًا للوقود، والمساكن أكثر حداثة، فإن زيادة استخدام المساحات وقطع مسافات أطول بالسيارات قلل من الفائدة المتوقعة من التقدم التكنولوجي؛ مما أبقى معدلات التلوث الناتج عن النقل مرتفعة. وتزداد المشكلة مع تراكم النفايات وانتشار أسلوب الحياة السريعة المعتمد على الراحة والاستهلاك المستمر، وهو ما يوضح أن الحل لا يقتصر على تحسين التكنولوجيا، وإنما يتطلب تحولًا ثقافيًّا يتفق مع مبادئ التنمية المستدامة.
فالوعي المجتمعي يلعب دورًا محوريًّا، خصوصًا أن 87% من المواطنين الأوروبيين يقرّون بأن القارة لا تستخدم مواردها بكفاءة، فيما يرى 41% أن منازلهم تنتج نفايات أكثر من اللازم، وهذه النسبة تفتح الباب أمام سياسات تعليمية وتوعوية تستهدف تغيير السلوك من الجذور، والإجابة عن أبرز الأسئلة عن التلوث البيئي التي باتت تُطرح في المدارس والمجالس التشريعية.
من الاستهلاك المفرط إلى الاستهلاك المسئول
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الاستهلاك، باعتباره مسئولية بيئية واجتماعية؛ فالتحول إلى نمط استهلاك مستدام لا يعني التخلي عن الرفاهية، وإنما إعادة صياغتها بما يخدم الإنسان والكوكب في آن واحد، ويحد من أسباب التغيرات المناخية التي باتت تهدد أمن الغذاء والماء والطاقة.
وفي هذا السياق، تدعو مبادرات مثل الاقتصاد الدائري إلى كسر الحلقة المغلقة بين الإنتاج والاستهلاك والنفايات، وتحويل كل مرحلة من مراحل دورة المنتج إلى فرصة لإعادة الاستخدام والتدوير والكفاءة، وهذه المبادرات -إن طُبقت بجدية- يمكن أن تغيّر وجه السوق الأوروبي، وتفتح آفاقًا لاقتصاد أكثر توازنًا، يساعد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن معركة مواجهة التغيرات المناخية لا تبدأ من السياسات، وإنما من تفاصيل الحياة اليومية، ومن كل قرار استهلاكي يترك أثرًا بيئيًّا عميقًا؛ فالاستنزاف المتزايد للموارد، وتراكم النفايات، والانبعاثات غير المرئية، كلها نتائج مباشرة لنمط استهلاك لم يعد يتوافق مع قدرة الكوكب على الاحتمال؛ ولهذا فإن التحول نحو استهلاك أكثر وعيًا أصبح ضرورة تفرضها الأزمة البيئية العالمية.
ومع أن المسئولية موزعة بين الأفراد والحكومات والشركات، فإن جوهر التغيير يبدأ من إعادة النظر إلى الاستهلاك بوصفه سلوكًا أخلاقيًّا له أثر أبعد من لحظة الشراء، وأعمق من مبدأ الإشباع الفوري، وهذا ما يجعل من التحول نحو استهلاك مستدام ضرورة عالمية، ومسئولية جماعية، وخطوة حاسمة في طريق تحقيق التنمية المستدامة.