خطى مستدامة

تحالف عالمي جديد ضد التقادم المخطط من أجل استدامة المنتجات

التقادم المخطط

تحالف عالمي جديد ضد التقادم المخطط من أجل استدامة المنتجات

إننا اليوم أصبحنا في حاجة ماسة إلى إعادة نظرتنا إلى مفهوم الاستهلاك وطريقة تصميم المنتجات التي نستهلكها، ولذا تظهر في هذا المجال معضلة “التقادم المخطط” –إنتاج السلع بقصد أنْ تتلف سريعًا– وهي قضية تشكل تهديدًا حقيقيًّا للاستدامة البيئية وحقوق المستهلكين؛ ولهذا تأتي أهمية التحالفات الدولية التي تسعى إلى مواجهة هذا النهج الاستهلاكي الجائر، وتدعو إلى إنتاج سلع تدوم من خلال استخدام عقلاني ومستدام.

مِن هنا، سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال ظاهرة التقادم المخطط، وتقيس مدى تأثيرها في البيئة وحقوق المستهلك، مع استعراض التحرك العالمي الجديد بقيادة منظمة” أوقفوا التقادم المخطط” (بالإنجليزية: HOP – Stop Planned Obsolescence)، التي تسعى إلى مواجهة هذه الظاهرة الاستهلاكية. وذلك بالإضافة إلى عرض خطوات قانونية وتشريعية أوروبية ودولية لمحاربة هذا التوجّه الاستهلاكي الجائر؛ فتابعوا القراءة.

المخلفات

من أجل التنمية المستدامة

في سياق الإنتاج والتصنيع يُشير مفهوم التقادم المخطَّط (Planned Obsolescence) إلى نهج يُقصَد به تقليل عمر المنتجات عن عمد، سواء عبر إضعاف مكوناتها، أو جعلها عُرضة للعطل بعد فترة قصيرة، أو تصميمها بطريقة تجعلها تبدو قديمة أو غير ملائمة بسرعة. ويُستخدَم هذا الأسلوب لتسريع وتيرة الاستهلاك، من خلال تقصير دورة الاستبدال ودفع المستهلكين إلى شراء منتجات جديدة بشكل متكرر.

ومن منظور حماة الأرض يُعد هذا التوجّه واحدًا من أبرز التحديات أمام تحقيق العدالة البيئية؛ إذْ يُسهم في تراكم النفايات، واستنزاف الموارد، وزيادة البصمة الكربونية، وذلك كله على حساب صحة الكوكب وحقوق الأجيال المقبلة.

وفي خطوة جديدة لمواجهة هذه السلوك الإنتاجي السلبي، أعلنت “لاتيسيا فاسور” المديرة العامة لمنظمة (أوقفوا التقادم المخطط)، عن إطلاق “التحالف الدولي من أجل الاستدامة” (International alliance on durability) خلال مؤتمر (Plate) الدولي في الدنمارك، الذي عُقِد في يوليو الماضي.

النفايات الإلكترونية

هذا التحالف الجديد يأتي نتيجة لتعاون بين منظمة “أوقفوا التقادم المخطط” وجامعة آلبورج، ومنظمة (Repair Café Danmark)؛ بهدف توحيد الجهود العالمية لمكافحة التقادم المخطط وتعزيز استدامة المنتجات في مختلف أنحاء العالم.

ويمثل هذا الإعلان خطوة مهمة للمهتمين بقضايا البيئة وحماية حقوق المستهلكين؛ إذ يهدف التحالف إلى تعزيز الابتكارات وتنفيذ إصلاحات بيئية فعّالة من خلال تبادل الخبرات والبيانات البحثية وتنظيم الندوات واللقاءات العلمية، ومن المتوقع أن تسهم هذه الجهود المشتركة في دعم المبادرات المحلية وإضفاء طابع دولي عليها، بما يعزز تأثيرها على مستوى السياسات والتشريعات.

ومن الأفكار الطموحة التي يأمل التحالف في تعميمها عالميًّا، مؤشر الإصلاح الفرنسي، الذي يُظهر مدى قابلية المنتجات للإصلاح، إضافة إلى “مكافأة الإصلاح” التي تشجع المستهلكين على اختيار منتجات قابلة للصيانة بدلًا من الاستهلاك السريع، وهذه المبادرات ليست فقط أدوات تقنية، وإنما رسائل سياسية تُعيد الاعتبار للمنتج المُستدام كمكون أساسي في الاقتصاد الدائري.

هذه الخطوة تتوافق مع الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة “الاستهلاك والإنتاج المسئولان”، حيث إن التصدي لتقادم المنتجات يسهم في تقليل النفايات الإلكترونية، وتوفير الموارد، وتقليل البصمة الكربونية للقطاع الصناعي.

من المعارك المحلية إلى جبهة دولية

ورغم أن التحالف لا يزال في مراحله الأولى، فإن الاستعدادات تمضي قدمًا لتفعيله على أرض الواقع، حيث تؤكد منظمة “HOP” أن الأشهر المقبلة ستشهد تكثيفًا للجهود لضم المزيد من الأعضاء، على أن تُعقد أول جلسة رسمية في أقرب وقت ممكن، وهو ما يُبشر بولادة شبكة دولية حقيقية تضع الاستدامة على رأس أولوياتها.

في هذا الوقت لا تقف منظمة “HOP” مكتوفة الأيدي، وإنما تلعب دورًا محوريًّا على مستوى الاتحاد الأوروبي، من خلال قيادتها لمجموعة عمل ضمن برنامج الأمم المتحدة البيئي المعني بإطالة عمر المنتجات، وقد أصبح مصطلح (Right to Repair) أو “الحق في الإصلاح” شعارًا لهذه المرحلة، حيث تُطالب المنظمات المدنية بمنح المستهلكين القدرة على إصلاح أجهزتهم بسهولة وكفاءة.

المتقدم المخطط

يعني هذا الحق في جوهره مقاومة الاستهلاك المفرط، وتمكين المجتمعات من التحرر من نموذج “الشراء ثم الرمي”، الذي يرهق الموارد البيئية وينتج أزمات نفايات ضخمة. كما يضع هذا الحق ضغوطًا على المصنعين لتبني نماذج إنتاج أكثر شفافية وعدالة بيئية، في توافق مع الهدف (9) من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالصناعة والابتكار والهياكل الأساسية.

يُمثّل التحالف الدولي حراكًا ثقافيًّا جديدًا يربط بين العدالة البيئية وحقوق المستهلكين؛ ففي زمن يُهيمن فيه منطق الربح السريع، يظهر هذا التحالف باعتباره دعوة إلى العودة للمنطق الأخلاقي في الإنتاج والاستهلاك، حيث لا تُقاس قيمة المنتج بعمره القصير، وإنما بمدى إسهامه في حماية الكوكب.

عقبة التقادم المخطط

منذ عشر سنوات كانت فرنسا أول دولة تُقِرُّ -قانونيًّا- بأنَّ التقادم المخطط جريمة يعاقب عليها القانون؛ فقد تم النَّصُّ على أنَّ التلاعب بعمر المنتجات عمدًا يُعد جنحة يُعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى عامين وغرامة تصل إلى 300 ألف يورو، ورغم الطابع الثوري لهذا القانون، فإن تطبيقه على أرض الواقع ظلّ محدودًا؛ إذ لم يُسجَّل حتى الآن أي حكم قضائي فعلي بهذا الشأن.

يعكس هذا التباين بين النصوص القانونية والتطبيق العملي وجود فجوة تشريعية وتنفيذية واضحة، وهذا ما يستدعي وضع قوانين أكثر تحديدًا وصرامة لضمان حماية المستهلك والبيئة؛ إذ إن غياب الإطار القانوني الملزم يحول الحق في الإصلاح إلى مجرد شعار، ويمنح الشركات مساحة للاستمرار في إنتاج سلع قصيرة العمر بهدف تعظيم الأرباح على حساب الاستدامة.

وفي ضوء ذلك، تمثل المبادرات الأوروبية، مثل التوجيه المتعلق بالحق في الإصلاح، خطوة متقدمة إلا أنها تحتاج إلى دعم بنظام رقابي فعال وآليات تطبيق صارمة، وهو ما يستلزم تنسيقًا دوليًّا لمواجهة أنماط الإنتاج التي تضر بالأجيال القادمة. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى سياسات وطنية ومحلية متسقة مع أهداف الاستدامة العالمية، وبخاصة الهدف (16) الذي يركز على بناء مؤسسات خاضعة للمساءلة؛ لأن غياب أدوات التنفيذ والقضاء البيئي العادل يترك المجال مفتوحًا لاستمرار الانتهاكات وتفاقم آثارها.

حماية المستهلك

معايير جديدة لمنتجات المستقبل

على مستوى الاتحاد الأوروبي، بدأت ملامح تغيير حقيقي في السياسات مع اعتماد “اللائحة الخاصة بالإيكو-تصميم” (ESPR)، التي تحدد معايير بيئية ملزمة للمنتجات المسموح بتداولها داخل السوق الأوروبية، وتشمل اشتراطات دقيقة تتعلق بمتانة الأجهزة، وسهولة إصلاحها، وإمكانية تحديثها بدل استبدالها بالكامل.

يمثل هذا التوجه خطوة جوهرية نحو بناء اقتصاد أوروبي أكثر استدامة، ويتقاطع بشكل مباشر مع الهدف (13) من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالعمل المناخي، لما يحمله من تأثير واضح في خفض الانبعاثات الناتجة عن الصناعات الإلكترونية، غير أن تحقيق هذه الأهداف مرهون بمدى التزام المصنعين بالتنفيذ ووعي المستهلكين بقيمة اقتناء منتجات طويلة العمر، وهو ما يبرز دور المبادرات الدولية، مثل التحالف الذي أطلقته منظمة “HOP” في توفير آليات لقياس الامتثال وتعزيز الرقابة على الأسواق العالمية.

في النهاية نجد أنَّ إطلاق التحالف الدولي من أجل الاستدامة يعكس تحوّلًا في فلسفة الإنتاج والاستهلاك على مستوى العالم، حيث تتقاطع حقوق المستهلك مع مسئولية حماية الموارد الطبيعية في إطار واحد متكامل. ومع بروز قضايا مثل التقادم المخطط والحق في الإصلاح باعتبارها عناوين رئيسية للنقاش العالمي، تتضح الحاجة إلى بناء منظومات تشريعية وتنفيذية تُعيد التوازن بين الاقتصاد والبيئة.

وفي هذا السياق، ترى مؤسسة حماة الأرض أن مثل هذه المبادرات تشكل فرصة لتوحيد الجهود الدولية في مواجهة أحد أخطر التحديات الاقتصادية والبيئية المعاصرة؛ إذ تضع استدامة المنتجات في قلب السياسات الصناعية وتفتح الباب أمام تحول ثقافي شامل يرسخ مفهوم العدالة البيئية بوصفه ركيزة لمستقبل أكثر أمانًا للأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى