خطى مستدامة

السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية.. خريطة طريق مصر نحو النمو المستدام

السردية الوطنية

السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية.. خريطة طريق مصر نحو النمو المستدام

لم يكن السابع من سبتمبر 2025 يومًا عاديًا في مسيرة الاقتصاد المصري؛ ففي هذا التاريخ أعلنت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي عن إطلاق «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية»، باعتبارها الوثيقة الأولى من نوعها في تاريخ الاقتصاد الوطني.

هذه السردية لم تكن مجرد ورقة سياسات تقليدية، بل جاءت باعتبارها إطارا شاملا يجمع بين إنجازات عقد كامل من الإصلاحات الاقتصادية، وما ينتظر مصر من تحديات وفرص في العقدين القادمين. واللافت أن هذا الجهد تزامن مع طرح الحوار المجتمعي في الرابع عشر من سبتمبر 2025؛ حتى يكون المواطن شريكًا رئيسيا في رسم مستقبل الاقتصاد المصري.

إن السردية الوطنية لا تُختزل في كونها برنامجًا إصلاحيًا، بل هي تعبير عن وعي استراتيجي بضرورة إعادة تعريف دور الدولة، وتعزيز دور القطاع الخاص، وتوجيه الموارد نحو القطاعات القادرة على المنافسة عالميًا.

وهذه الرؤية تأتي في وقت يتسم فيه الاقتصاد العالمي بالتحولات الجذرية وعدم اليقين، وهو ما يجعل من التخطيط الاستراتيجي المستدام خيارًا لا غنى عنه؛ لذا سوف تتناول مؤسسة حماة الأرض في هذا المقال أبعاد هذه السردية التاريخية، وكيف يمكن أن تكون رافعة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتحويل مصر إلى نموذج إقليمي في التنمية الخضراء والشاملة.

نحو نموذج اقتصادي جديد

اعتمدت السردية الوطنية على ثلاث ركائز كبرى، هي:

  • الأولى – ترسيخ استقرار الاقتصاد الكلي باعتباره شرطًا أساسيًّا لتحقيق نمو مستدام.
  • الثانية – إعادة تعريف دور الدولة في النشاط الاقتصادي.
  • الثالثة – التحول نحو القطاعات القابلة للتداول التجاري، التي تتيح لمصر النفاذ بقوة إلى الأسواق العالمية.

هذه الركائز الثلاثة ليست مجرد مبادئ نظرية، بل تعكس قناعة بأن استدامة التنمية لا تتحقق إلا من خلال موازنة دقيقة بين الاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي.

وقد أعطت السردية أولوية لتنسيق السياسات المالية والنقدية، بما يضمن استقرار الأسعار، وتعزيز الثقة في الاقتصاد الوطني؛ فالاستقرار هنا ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتأمين بيئة ملائمة للإصلاحات الهيكلية، ولجذب الاستثمارات. كما أن إعادة تعريف دور الدولة لا يعني انسحابها من الساحة الاقتصادية، بل إعادة توجيه مواردها نحو القطاعات التي تخلق القيمة المضافة، وتدعم النمو الشامل.

أما التحول إلى القطاعات القابلة للتداول -مثل الصناعة، والسياحة، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة- فيشكل انتقالا نوعيا من اقتصاد يعتمد على القطاعات التقليدية إلى اقتصاد قادر على المنافسة عالميًا. وهذه القطاعات -تحديدًا- هي الأكثر ارتباطًا بالاستدامة؛ لأنها توفر فرص عمل لائقة، وتسهم في تحقيق الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بالنمو الاقتصادي الشامل، وتوفير العمل اللائق للجميع.

الاقتصاد الدائري

محاور السردية الوطنية

تتكون السردية من خمسة محاور رئيسية، هي:

  • استقرار الاقتصاد الكلي
  • الاستثمار الأجنبي المباشر
  • التنمية الصناعية والتجارة الخارجية
  • كفاءة سوق العمل
  • التخطيط الإقليمي

هذه المحاور تعكس وعيًا شاملًا بأن التنمية ليست مجرد زيادة في الناتج المحلي، بل بناء منظومة متكاملة تستند إلى العدالة المكانية والاجتماعية.

استقرار الاقتصاد الكلي

على صعيد الاستقرار الكلي، تؤكد السردية ضرورةَ الموازنة بين الإصلاحات الاقتصادية والحماية الاجتماعية، بما يضمن استدامة الاستقرار المالي دون الإضرار بالفئات الهشة.

الاستثمار الأجنبي المباشر

أما الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد جاء أداةً رئيسيةً لتعزيز تنافسية الاقتصاد المصري، وجذب رءوس الأموال نحو القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.

التنمية الصناعية والتجارة الخارجية

وفي ما يخص التنمية الصناعية والتجارة الخارجية فالهدف هو مضاعفة القدرة التصديرية لمصر بنسبة تصل إلى 20% سنويًا، بما يسهم في تعزيز موارد الدولة من العملة الصعبة، ويضع مصر على خريطة الإنتاج العالمي.

التنمية الصناعية والتجارة الخارجية

كفاءة سوق العمل

كما أن كفاءة سوق العمل ليست مجرد مطلب اقتصادي، بل هي أيضًا استحقاق اجتماعي؛ لأنها تتيح للشباب فرصًا حقيقية للتدريب والتوظيف؛ وهو ما يسهم في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالتعليم الجيد، والهدف الثامن الخاص بجهود توفير العمل اللائق.

التخطيط الإقليمي

وأما التخطيط الإقليمي فهو يعكس توجهًا استراتيجيًا نحو توطين التنمية في المحافظات، بما يحد من التفاوتات الجغرافية، ويعزز العدالة المكانية، وهو ما ينسجم مع الهدف العاشر من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بتقليص أوجه عدم المساواة.

إنجازات ملموسة

لم تأتِ السردية من فراغ، بل بُنيت على إنجازات ملموسة حققتها مصر خلال العقد الأخير؛ فقد ارتفع معدل النمو الاقتصادي إلى 4.2% في الأشهر التسعة الأولى من العام المالي 2024/2025، مقارنة بـ2.4% في العام السابق، وهو نمو مدفوع بالقطاعات الإنتاجية القابلة للتداول، مثل الصناعة، السياحة، الزراعة، وتكنولوجيا المعلومات.

كما حققت الموازنة العامة فائضًا أوليًا بنسبة 3.6% مع استهداف رفعه إلى 4%، وهو ما يعد من أعلى المعدلات عالميًا. وقد انخفض معدل التضخم -بشكل ملحوظ- من 25.7% في يوليو 2024 إلى 13.9% في يوليو 2025؛ مما يعكس نجاح السياسات النقدية في كبح جماح الأسعار. وأما الدين العام فتسعى الدولة إلى خفضه ليصبح عند أدنى معدلاته التاريخية، في خطوة جوهرية لضمان الاستدامة المالية.

ولا يقل أهمية عن ذلك تحقيق تحويلات المصريين العاملين بالخارج رقمًا قياسيًا تجاوز 36.5 مليار دولار في العام المالي الماضي، إلى جانب تراجع معدل البطالة إلى أدنى مستوياته خلال أربع سنوات. كما يُتوقع أن ترتفع الصادرات بنسبة 20% خلال العام الحالي؛ مما يعزز مكانة مصر باعتبارها قوة اقتصادية صاعدة في المنطقة.

وهذه المؤشرات تؤكد -بشكل أو بآخر- أن الإصلاحات الاقتصادية لم تقتصر على الأرقام فقط، بل انعكست على تحسين مستوى معيشة المواطنين، وهو جوهر أهداف التنمية المستدامة.

شراكات دولية

لقد جاء إطلاق السردية الوطنية بالتوازي مع تعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي؛ فقد بحثت الدكتورة/ رانيا المشاط “وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي” مع مسئولي البنك آفاق التعاون في مراجعة المالية العامة، وتمويل سياسات التنمية، إضافة إلى مشروعات مستدامة في مجالات النقل والطاقة المتجددة.

وأكدت المشاط أن السردية لا تقتصر على السياسات الداخلية، بل تمثل أيضًا أداة للترويج لمقومات الاقتصاد المصري أمام الشركاء الدوليين، وإبراز الفرص الواعدة في الاقتصاد الأخضر والقطاعات ذات الإنتاجية العالية.

كما شددت على أن إعادة تعريف دور الدولة يعد ركيزة أساسية لتعزيز مشاركة القطاع الخاص، بما ينسجم مع الهدف السابع عشر من أهداف التنمية المستدامة حول عقد الشراكات لتحقيق الأهداف.

وفي سياق متصل، عكست اللقاءات مع مؤسسات مثل «ستاندارد آند بورز» حرص مصر على تعزيز ثقة الأسواق الدولية في اقتصادها، وإبراز الإصلاحات التي جعلت الاستثمار الخاص يتجاوز الاستثمار العام للربع الثالث على التوالي، بنسبة 62.8% من إجمالي الاستثمارات.

وهذا التوجه يعكس انتقال مصر من اقتصاد تقوده الدولة إلى اقتصاد أكثر انفتاحًا يقوده القطاع الخاص، من غير أنَّ تتخلى عن البعد الاجتماعي.

استشراف المستقبل: من 2030 إلى 2050

لا تقتصر السردية الوطنية على أهداف قصيرة الأجل حتى 2030، بل تمتد إلى تصور ما يمكن أن تكون عليه مصر حتى عام 2050؛ فهي تسعى إلى بناء اقتصاد مرن، وقادر على مواجهة الأزمات العالمية، ويمكنه إتاحة فرص عمل مستدامة للأجيال القادمة.

اللافت أن الحوار المجتمعي الذي انطلق في سبتمبر 2025 يتيح للمواطنين والخبراء أنْ يشاركوا في صياغة تفاصيل السردية، بما يضمن ملكية مجتمعية للرؤية الاقتصادية. وهذه المشاركة تعد أحد أهم مقومات الاستدامة؛ لأنه لا يمكن لأي خطة تنموية أن تنجح دون قبول شعبي واسع.

ومن خلال التركيز على القطاعات الإنتاجية، والاستثمار في الابتكار والصناعات المعقدة، تسعى مصر إلى التحول من اقتصاد ناشئ إلى اقتصاد قادر على المنافسة عالميًا. وهذا الطموح يعكس انسجامًا مع أهداف التنمية المستدامة كافة، بدءًا بالقضاء على الفقر والجوع، ووصولًا إلى تعزيز النمو الشامل، وحماية البيئة.

السردية جسر نحو الاستدامة

تمثل «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» أكثر من مجرد خطة اقتصادية؛ فهي رؤية استراتيجية طويلة الأمد تُعيد رسم ملامح الاقتصاد المصري، وتفتح آفاقًا جديدة نحو الاستدامة. ومن خلال ربطها بالقطاعات الإنتاجية وبالشراكات الدولية -وكذلك من خلال دمج المواطن في صياغتها- تضع السردية أسس تحويل الاقتصاد المصري إلى نموذج إقليمي في التنمية المستدامة.

إن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية ليست نهاية المطاف، بل بداية لمسار طويل يتطلب التزامًا جماعيًا من الدولة والمجتمع والقطاع الخاص؛ ومن هنا فإن مؤسسة حماة الأرض ترى في هذه السردية خطوة مفصلية على طريق تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وصنع مستقبل أفضل لمصر ولأجيالها القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى