علوم مستدامة

هل تتحول العواصف الترابية إلى أزمة تنموية كبرى؟

العواصف الترابية

هل تتحول العواصف الترابية إلى أزمة تنموية كبرى؟

يتجدّد النداء العالمي في السنوات القليلة الماضية بضرورة مواجهة التحديات المناخية، التي من أبرزها خفاءً وأشدها تأثيرًا: العواصف الترابية والرملية. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة تبدو مألوفة في بعض المناطق، فإن آثارها العميقة والمتراكمة في الصحة والزراعة والاقتصاد، تجعلها أزمة بيئية تستحق التعامل الجاد.

تتشابك أسباب تفاقم هذه الظاهرة ما بين تغير المناخ، وتدهور الأراضي، والممارسات الزراعية غير المستدامة؛ فالجفاف المتكرر، إلى جانب الاستخدام المفرط للمياه والرعي الجائر، يؤدي إلى تعرية التربة وفقدان غطائها النباتي، وهذا ما يُسهّل تحرك الرمال ويزيد من تكرار العواصف الترابية، ولا تحظى هذه الأزمة بالاهتمام العالمي الكافي، بالرغم من آثارها الوخيمة في الدول والمجتمعات المحلية، خاصة في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا.

الرعي الجائر

تنوع آثار العواصف الترابية

ما يزيد من صعوبة التعامل مع العواصف الترابية هو تنوّع آثارها؛ فهي لا تقتصر على الخسائر البيئية، وإنما تمتد إلى النقل، والطاقة، والصحة العامة، وتُشكّل عبئًا ثقيلًا على أنظمة الرعاية الصحية، وتحدّ من الإنتاج الزراعي، وتتسبب في تعطيل سلاسل التوريد الحيوية، واستمرار تجاهل هذا التهديد يُنذر بمزيد من الاضطرابات في المستقبل، ما لم تُعتمد استجابات قائمة على المعرفة والابتكار والسياسات المستدامة.

من هنا، تنبع أهمية المبادرات الدولية والإقليمية، مثل عقد الأمم المتحدة لمكافحة العواصف الرملية والترابية (2025–2034)، الذي يهدف إلى توحيد الجهود من أجل التخفيف من آثار العواصف الترابية، وتعزيز قدرة المجتمعات على التكيّف؛ لأنَّ التحرك المنسَّق المدعوم بالبيانات والمشاركة المجتمعية، هو السبيل الوحيد لحماية الأرض ومَن يعيشون عليها.

 الرعي والتغيرات المناخية

في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، لطالما كان الرعاة جزءًا من التوازن الاجتماعي والبيئي، حيث كانوا يتنقلون بمواشيهم بين المراعي الموسمية والبِرك الطبيعية، في انسجام مع تقلبات الطبيعة، غير أن هذا النظام الدقيق بدأ يتعرض لضغوط هائلة مع تزايد الجفاف واشتداد العواصف الترابية؛ فاختلال دورة التنقل، وندرة المياه، وتدهور الغطاء النباتي، كلها عوامل تُجبر الرعاة على خوض معارك يومية في سبيل البقاء.

الرعي والتغيرات المناخية والنباتات

وفي الوقت الذي يحاول فيه الرعاة التأقلم مع الواقع المناخي المتدهور، ظهر عامل آخر يزيد من تعقيد الوضع، يتمثل في توسّع الزراعة الحديثة إلى مناطق الرعي التقليدية؛ فقد أدّت مشروعات الاستصلاح الزراعي إلى استخدام مشترك للأراضي والمياه، ما أدى إلى توترات بين الرعاة والمزارعين، خاصة حين تُتلف الماشية المحاصيل أو تتناقص الموارد المائية، وهذه النزاعات تُهدّد السلم المجتمعي وتُفاقم من هشاشة البيئة.

وإدراكًا لهذا الواقع المتداخل، أطلقت الأمم المتحدة “السنة الدولية للمراعي والرعاة” لعام 2026؛ لتسليط الضوء على المجتمعات الرعوية وأهمية إشراكها في خطط إدارة الموارد؛ فالرعاة يمكن أن يكونوا حلفاء حقيقيين في استعادة التوازن البيئي، إذا ما حصلوا على الأدوات والدعم المناسبين، وتمّ الاعتراف بدورهم باعتبارهم محافظين على النظم البيئية. وتتجسد هذه التحديات والحلول بشكل كبير في تجارب دول مثل السودان وموريتانيا، حيث تكشف المبادرات المحلية كيف يمكن تحويل التكيّف البيئي إلى مسار تنموي شامل.

السودان نموذج للتكيّف المجتمعي مع العواصف

في السودان يشكل الرعاة نسبة كبيرة من السكان، وكان التحدي المناخي دائمًا جزءًا من الحياة اليومية، غير أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدًا حادًّا في آثار العواصف الترابية، وهو ما دفع المجتمعات -بدعم من منظمة الأغذية والزراعة- إلى اعتماد استراتيجيات ذكية للتكيّف مع هذا الواقع، وتبرز هنا مبادرة “الأصماغ” باعتبارها واحدة من أبرز النماذج الناجحة، حيث ربطت بين الاقتصاد البيئي والمرونة المجتمعية.

فمن خلال أكثر من 500 جمعية منتجة، تم تدريب المجتمعات المحلية على تعزيز إنتاج الصمغ العربي بطريقة مستدامة، وإعادة تأهيل ممرات الرعي، وتحسين الوصول إلى المياه؛ فتجديد النظم البيئية أصبح وسيلة جيدة لتحسين سبل العيش، ودعم الأسواق، وتقوية الروابط بين الإنسان والطبيعة، وتمثل زراعة أشجار الصمغ درعًا حيويًّا في وجه التصحر، حيث تُخزّن الكربون وتُبطئ حركة الرمال.

الرعي والزراعة

إدارة الموارد وبناء مجتمعات مرنة

في الوقت نفسه، تعمل مشروعات منظمة الأغذية والزراعة -على طول نهر النيل- على إدارة المحميات بطريقة تراعي التوازن بين حماية التنوع البيولوجي ودعم الأنشطة المجتمعية؛ ففي 33 محمية يتم تطبيق خطط لاستخدام الأراضي لتقليل عمليات الرعي الجائر والزراعة غير المستدامة؛ مما يعزز من قدرة المجتمعات على التعايش مع الظروف البيئية القاسية.

أما في المناطق الزراعية، فيستفيد صغار المنتجين من برامج الإدارة المتكاملة لموارد المياه، حيث تُعتمد تقنيات زراعية أنظف، ويُشجَّع على تنويع الإنتاج. ومن خلال إشراك النساء والشباب في مشروعات ريادية، تُبنى شبكات دعم اجتماعي واقتصادي تُحصّن المجتمعات من تقلبات المناخ، وتُمكّنها من مواجهة العواصف الترابية.

حلول قائمة على الطبيعة في موريتانيا لمواجهة التصحر

وفي الجنوب الشرقي لموريتانيا، بدأت مشروعات منظمة الأغذية والزراعة في تحقيق تحولات ملموسة؛ فقد أصبح العمل على مستوى مستجمعات المياه نهجًا رئيسيًّا لتعزيز التكيّف مع الجفاف والحد من التعرية، من خلال تطبيق تقنيات مثل التسوية المحيطية للتربة (تعديل سطح الأرض لجعلها مستوية أو ذات انحدار منتظم)، وحصاد المياه، والغرس المحلي للأشجار المقاومة.

هذه الحلول القائمة على الطبيعة أسهمت في تحسين جودة المراعي، وتنشيط الاقتصاد المحلي المرتبط بالثروة الحيوانية والزراعة الحراجية؛ فبفضل تدخلات بسيطة مدروسة، استعادت الأرض قدرتها على الاحتفاظ بالمياه، وزاد إنتاج الأعلاف، وهذا ما وفّر قاعدة بيئية أكثر استقرارًا للمجتمعات التي تعتمد على المراعي باعتبارها مصدر رزق رئيسي.

الزراعة الحراجية

مشروعات موريتانيا لمواجهة التحديات المناخية

في المقابل، لعبت مبادرة “السور الأخضر العظيم” دورًا في إدماج موريتانيا ضمن مشروع إقليمي واسع لمكافحة التصحر وتعزيز الأمن الغذائي. وباستخدام تقييمات دقيقة للموارد الحرجية غير الخشبية، أصبح بإمكان المجتمعات إدارة هذه الموارد بشكل مستدام، وتحويلها إلى منتجات قابلة للتسويق، تدعم التنوع البيولوجي وتوفر فرص عمل جديدة.

كما أسهم مشروع “أوكار” في مواءمة السياسات الوطنية مع الابتكار البيئي، من خلال إدخال أنظمة استشراف مبكر للجفاف والتصحر، وتدريب المنتجين على أساليب إنتاج مقاومة للمناخ، وهذا التكامل بين المعرفة المحلية والتخطيط الاستراتيجي يُمهّد الطريق نحو مجتمعات أكثر صمودًا، قادرة على تحويل التحديات المناخية إلى فرص تنموية.

السور الأخضر العظيم

نحو رؤية إقليمية شاملة لمواجهة العواصف الترابية

هذه النجاحات المحلية -رغم أهميتها- تكشف في الوقت نفسه حاجة المنطقة إلى مظلة إقليمية تنسّق الجهود وتحوّل التجارب المتفرقة إلى سياسات شاملة. ومن هنا تبرز أهمية اللقاءات الإقليمية التي تجمع الخبراء وصناع القرار، وفي مقدمتها الاجتماع المرتقب في مدينة “أبها” السعودية لاستضافة الدورة السابعة والعشرين لهيئة الغابات والمراعي في الشرق الأدنى، حيث يتجدد الأمل في تحويل هذه التجارب إلى رؤية إقليمية موحدة تضع مكافحة العواصف الترابية في قلب الأولويات.

وبالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي، يجمع الحدث نخبة من صناع القرار والخبراء والشباب، في أسبوعٍ بيئي يحتفي بالابتكار والحلول الخضراء. ومن خلال تسليط الضوء على التقنيات البيئية الحديثة، وريادة الشباب، والحوارات بين القطاعات، يُرسَّخ مفهوم التشاركية باعتباره مدخلًا رئيسيًّا لإدارة الموارد.

كما أنَّ الاحتفاء بسبعة عقود من التعاون الإقليمي يشكل نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من التكيّف البيئي؛ فالانتقال من الحلول الطارئة إلى الاستراتيجيات الطويلة الأمد يتطلب استثمارًا في المعرفة، وتمكينًا للمجتمعات، وبناء شراكات تُلائم السياقات المحلية وتعزز من قدرة الأراضي على الصمود.

وختامًا تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن مواجهة العواصف الترابية اختبار حقيقي لقدرة المجتمعات والدول على بناء نماذج تنموية تستند إلى المعرفة وتكامل الموارد؛ فهذه الظاهرة -بما تحمله من آثار متداخلة على الصحة والاقتصاد والزراعة- تكشف أن التنمية المستدامة لا يمكن أن تنفصل عن إدارة النظم البيئية وصون الأراضي. وتجارب السودان وموريتانيا تبرهن أن الحلول القائمة على الطبيعة، حين تتقاطع مع الحوكمة وتمكين الفئات المحلية، يمكن أن تحوّل التحديات المناخية إلى فرص لبناء اقتصاديات خضراء أكثر صمودًا.

ولذلك فإنَّ الاستثمار في استعادة التربة والمراعي، وإدماج الرعاة والمزارعين في خطط التكيّف، هو مسار استراتيجي لحماية الأمن الغذائي وتعزيز استقرار المجتمعات، ومن هنا تدعو حماة الأرض إلى تبني سياسات إقليمية جريئة تضع مكافحة العواصف الترابية في قلب أجندة التنمية، باعتبارها قضية إنسانية وتنموية تتجاوز حدود البيئة؛ لتلامس مستقبل الأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى