تقنية لرصد النانوبلاستيك: منخل بصري منخفض التكلفة يكشف تلوث البلاستيك غير المرئي
تقنية لرصد النانوبلاستيك: منخل بصري منخفض التكلفة يكشف تلوث البلاستيك غير المرئي
في ظل تزايد التحذيرات البيئية والصحية من مخاطر تلوث البلاستيك، وجد العالم نفسه يواجه هذه المخاطر في صورتها المتخفية، وهي جزيئات النانوبلاستيك؛ مما جعل هذه المواجهة أكثر صعوبةً وتعقيدًا؛ فهذه الجسيمات متناهية الصغر تنتج من تحلل البلاستيك في الطبيعة، وهي صغيرة إلى درجة تسمح لها باختراق الأنسجة والخلايا، بل الوصول إلى الدماغ؛ مما يعني التسبب في تأثيرات وخيمة على صحة الإنسان والبيئة، والحيلولة دون تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة.
في هذا السياق، تمكّن باحثون من جامعة شتوتجارت الألمانية -بالتعاون مع فريق بحثي أسترالي- من تطوير طريقة بسيطة ودقيقة للكشف عن هذه الجسيمات، وهو ما مثَّل اختراقًا علميًا جديدًا وواعدًا.
وتعتمد هذه التقنية الجديدة على ما يُعرف بـ “المنخل البصري – Optical Sieve“، وهو شريط اختبار يمكنه إظهار الجسيمات النانوية عبر تغيّر لونيّ مرئيّ تحت المجهر الضوئي.
ما النانوبلاستيك؟ ولمَ هو خطير؟
النانوبلاستيك هو جسيم بلاستيكي دقيق يقل قطره عن 1000 نانومتر (1 ميكرومتر)، وغالبًا ما يتولد نتيجة تحلل جزيئات البلاستيك الأكبر حجمًا في البيئة، مثل الأكياس، الزجاجات، الأقمشة الصناعية، وغيرها، وتكمن خطورة هذه الجزيئات الدقيقة في:
- صغر حجمها، الأمر الذي يسمح لها باختراق الحواجز البيولوجية، مثل الجلد، الرئتين، وحتى الحاجز الدموي الدماغي.
- قدرتها على حمل مواد كيميائية سامة أو بقايا ملوثة ترتبط بأسطحها.
- صعوبة رصدها أو قياسها باستخدام أدوات التحليل التقليدية.
وحتى وقتنا الحالي لم تكن هناك أي أدوات عملية وسهلة الاستخدام لرصد هذه الجزيئات الدقيقة بدقة عالية وبتكلفة معقولة، لكن هذا الأمر -لحسن الحظ- قد تغير الآن مع هذا الكشف العلمي الجديد، الذي سنتناوله بقدر من التفصيل في العنوان التالي.
ما تقنية “المنخل البصري”؟
ابتكار الفريق البحثي هو عبارة عن شريط اختبار دقيق البنية يحتوي على ثقوب مجهرية محفورة باستخدام تقنيات النانو. وهذه الثقوب تُعرف علميًا باسم “Mie voids” أو فراغات مي، وترجع هذه التسمية إلى “نظرية”Mie ، وهي نظرية فيزيائية تشرح كيفية تفاعل الضوء مع الجسيمات الصغيرة التي تكون ذات حجم قريب من طول موجة الضوء.
هذه الثقوب المجهرية مصمّمة بأحجام متناهية الصغر تتفاعل مع الضوء بشكل مميز، ويمكن إيجاز هذا التفاعل في النقاط التالية:
- عند تعرض الثقوب للإضاءة تظهر بلون معين نتيجة تداخل الضوء.
- عند دخول جسيم نانوي إلى الثقب يتغير هذا التداخل؛ بالتالي يتغير اللون الظاهر.
- يمكن رؤية هذا التغير تحت مجهر ضوئي عادي؛ مما يعني عدم الحاجة إلى أجهزة باهظة أو معقدة مثل المجهر الإلكتروني.
وملخص ما سبق، هو أنَّ هذا التغيير اللوني يمكن استخدامه كـ “إشارة بصرية” على وجود جسيمات النانوبلاستيك.
الجدول الآتي يوضح مزايا التقنية الجديدة مقارنة بالطرق التقليدية:
المنخل البصري | التقنيات التقليدية مثل TEM, SEM, NMR |
التقنية منخفضة التكلفة | التكلفة العالية للأجهزة |
يمكن استخدامها بسهولة في المختبرات العامة | الحاجة لخبرة تشغيل عالية |
أسرع وأبسط | الوقت الطويل في التحضير والتحليل |
قابلة للتطوير للاستخدام الميداني | صعوبة العمل في البيئات الميدانية |
ليس هذا فقط، بل يمكن أيضًا ضبط أبعاد ثقوب المنخل الضوئي بحسب حجم الجزيئات التي يُراد الكشف عنها؛ مما يسمح بتحديد التنوع في أحجام جزيئات النانو بلاستيك وأشكالها بدقة لم يسمع بها المجتمع العلمي من قبل.
في التجارب الأولية قام الباحثون بإضافة جسيمات النانوبلاستيك إلى عينات مياه ملوثة (تحاكي بيئة واقعية)، ثم قاموا باستخدام المنخل البصري، وكانت النتيجة مبهرة؛ فقد تم الكشف عن الجزيئات بسهولة عبر المجهر، حيث ظهرت ألوان مختلفة بحسب حجم الجزيئات، كما تم حساب عدد الجزيئات وتوزيعها بدقة؛ بالتالي أثبتت التقنية نجاحها في التحليل الكمي والنوعي للنانوبلاستيك في العينات البيئية.
تطبيقات تواجه تلوث البلاستيك
يتطلع الباحثون إلى تطوير هذه الأداة لتكون قابلة للاستخدام في:
- تحليل عينات الدم أو الأنسجة البشرية للكشف عن تسرّب النانوبلاستيك داخل الجسم.
- تمييز أنواع البلاستيك المختلفة بناءً على التفاعلات اللونية.
- المراقبة البيئية المستمرة في الأنهار، البحيرات، والمحيطات.
- الاستخدام الصناعي لرصد التلوث في خطوط الإنتاج أو المعالجة.
كما يُمكن ربط الأداة بتطبيقات ذكية أو مجسات بصرية للحصول على نتائج رقمية فورية، وعلى الرغم النجاح المبدئي لهذا الاختراع الثوري، نجد أنَّ هناك عدة تحديات يجب التغلب عليها لتوسيع الاستخدام العملي مثل:
- وجود ملوثات عضوية أو شوائب قد تؤثر في دقة الكشف.
- تنوّع أشكال الجسيمات غير الكروية قد يتطلب تطوير ثقوب متعددة الأنماط.
- الحاجة إلى تحسين استقرار المواد الحساسة للضوء في مختلف الظروف.
وتفتح التحديات السابقة مجالًا إلى مزيد من التطوير على هذه التقنية الثورية، التي بفضلها لن يستمر النانوبلاستيك في كونه تهديدًا “غير مرئي”؛ لأنَّ المنخل البصري سيفتح آفاقًا جديدة لرصد الجزيئات البلاستيكية المتناهية الصغر بطريقة ذكية، فعالة، وقابلة للتطبيق الميداني.
ومع تقدم الأبحاث يمكن أنْ تصبح هذه الأداة أداة قياسية في المختبرات البيئية والطبية، وحتى الصناعية؛ من أجل تقديم إسهام حقيقي في مكافحة تلوث البلاستيك، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ولا شك أنه من الواجب علينا ألا ننظر إلى تلوث البلاستيك على أنه مشكلة نفايات فقط، بل أزمة تمتد إلى أعمق نقطة في نسيج حياتنا؛ فحين تصبح الجزيئات النانوية -التي لا تُرى بالعين المجردة- قادرة على اختراق دمائنا وخلايانا، فإننا لم نعد نلوِّث الأرض فقط، بل أنفسنا أيضًا!
إنجاز تقني على طريق الاستدامة
إنَّ ما نحن بصدده من ابتكار علمي ثوري لا يُعتبر مجرد إنجاز تقني، بل مرآة نحملها أمام أعيننا لنرى ما كنا نتجاهله: عالم خفي من الجزيئات السامة التي نطلقها بلا حساب، ثم نستنشقها ونشربها ونأكلها دون وعي.
إن القدرة على “رؤية ما لا يُرى” ليست غاية في ذاتها، بل دعوة عاجلة لإعادة النظر في علاقتنا بالمواد التي نصنعها، وبالبيئة التي تحتضننا؛ فكل خطوة نخطوها نحو أدوات كشف أدق يجب أنْ يقابلها وعي أعمق، والتزام أقوى بتغيير سلوكنا الاستهلاكي، ووقف تدفق تلوث البلاستيك إلى كوكبنا الهش.
ونحن في مؤسسة حماة الأرض نؤمن بأنَّ كل جهد علمي يجب أنْ يُترجم إلى فعل مستدام، وكل اكتشاف يجب أنْ يُصبح معرفة تُنير الطريق للناس، وللمجتمع، والأجيال القادمة، ولعل هذا الاختراق العلمي الجديد -المنخل البصري- ليس مجرد أداة علمية فحسب، بل عدسة ضمير ننظر بها إلى ما صنعناه في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، وما يمكن أن نصنعه إذا اخترنا طريق الاستدامة!