علوم مستدامة

خفض الانبعاثات الكربونية.. السبيل الوحيد أمام العالم لمواجهة حدة التغير المناخي؟

الانبعاثات

خفض الانبعاثات الكربونية.. السبيل الوحيد أمام العالم لمواجهة حدة التغير المناخي؟

في الوقت الذي يواصل العالم فيه مواجهة الآثار المتفاقمة لتغير المناخ، يبدو أن خفض الانبعاثات الكربونية أصبح السبيل الوحيد لكبح هذا التدهور البيئي؛ فحرارة الأرض ترتفع نتيجة لتراكم غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، وهي الغازات التي تُطلقها مصادر عدة مثل محطات توليد الكهرباء، والمصانع، والسيارات، وحتى الأنشطة الزراعية. ومع أن أوروبا قد حققت تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال، فإن التحديات لا تزال جسيمة، والطريق نحو الحياد المناخي بحلول عام 2050 يتطلب تغييرًا جذريًّا في أساليب الإنتاج والاستهلاك.

ولم تعد الإجراءات التقليدية كافية، فقد بات من الضروري إعادة تشكيل النظم الاقتصادية بالكامل: كيف نُنتج الطاقة؟ كيف نزرع غذاءنا؟ كيف نسافر ونتنقل؟ وكيف نستهلك الموارد؟ كل ذلك يجب أن يُعاد النظر فيه؛ فالأمر لا يقتصر على تقليص الانبعاثات فقط، وإنما يشمل أيضًا تعزيز قدرة النُظم البيئية الطبيعية مثل الغابات والمحيطات والتربة على امتصاص الكربون.

أوروبا تخفّض انبعاثاتها بنسبة 37%

وفي خضم هذا المشهد العالمي المقلق، تبرز بعض التجارب التي أثبتت أن خفض الانبعاثات ممكن متى توفرت الإرادة السياسية والالتزام المجتمعي، ويُعد الاتحاد الأوروبي مثالًا بارزًا في هذا السياق؛ فرغم أنه لا يُسهم سوى بـ6% من الانبعاثات العالمية، فإنه يقدّم نموذجًا عمليًّا في السعي نحو تحقيق أهداف المناخ.

وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الوكالة الأوروبية للبيئة إلى أن إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة في الاتحاد الأوروبي انخفض بنسبة 37% في عام 2023 مقارنة بمستويات عام 1990، وهو إنجاز لافت يُحسب للقارة العجوز. ويعود الفضل في ذلك إلى التحول التدريجي نحو مصادر الطاقة المتجددة، وتراجع الاعتماد على الوقود الأحفوري، إلى جانب تحسين كفاءة استخدام الطاقة وتغيرات هيكلية في الاقتصاد الأوروبي

تحديات مستمرة رغم التقدّم الأوروبي

غير أن هذه الإنجازات ليست كافية للوصول إلى الهدف الأكبر، وهو: خفض الانبعاثات بنسبة 55% بحلول عام 2030، ثم بلوغ الحياد المناخي التام بحلول 2050، ويتطلب ذلك مضاعفة الجهود، خصوصًا عبر تسريع الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة، ووقف إزالة الغابات، واستعادة الطبيعة، وضمان الاستخدام المستدام للأراضي، في إطار الاستجابة للتغير المناخي.

ومع أن الطريق لا يزال طويلًا، فإن الاتحاد الأوروبي بدأ يُحقق تقدمًا ملموسًا؛ فقد أظهر تقرير “الاتجاهات والتوقعات” الصادر حديثًا عن الوكالة الأوروبية للبيئة أن انبعاثات الغازات الصافية انخفضت بنسبة 8% في عام واحد فقط، وهو ما يعكس تسارع وتيرة التقدم، بعد فترة من التباطؤ نتيجة جائحة كورونا وأزمة الطاقة.

الطاقة المتجددة

إنذار بيئي يستدعي مواجهة التغير المناخي

هذا التقدم لا يُخفي التحديات التي ما زالت تُهدد المسار المناخي الأوروبي، وفي مقدمتها تراجع قدرة البيئة الطبيعية على أداء دورها في امتصاص الكربون؛ فقد أظهرت بيانات جديدة أن قدرة أراضي الاتحاد الأوروبي على امتصاص الكربون تراجعت بنسبة 30% خلال الفترة بين 2014 و2023، مقارنة بالعقد السابق؛ مما يُهدد تحقيق أهداف إزالة الكربون بحلول عام 2030، ويُعقّد مواجهة التغير المناخي.

ويُعد هذا الانخفاض مؤشرًا خطيرًا؛ لأن الغابات والأراضي الزراعية والتربة تُعتبر الحليف الطبيعي الأبرز في معركة المناخ؛ فهي تمتص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون من الجو، وهو ما يساعد على تقليل تأثيرات التغير المناخي، وإذا لم يتم عكس هذا الاتجاه بسرعة، فإن قدرة أوروبا على الوصول إلى الحياد المناخي ستتضاءل بشكل كبير.

ومع ذلك فإن قطاع استخدام الأراضي والغابات لا يزال يحمل إمكانيات هائلة لتعزيز العمل المناخي؛ فالسياسات الذكية والبيانات الدقيقة يمكن أن تُعيد التوازن، وتُعزز من قدرة الأرض على الامتصاص، خصوصًا إذا ما ترافقت مع جهود ترميم النظم البيئية المُتدهورة وزيادة الغطاء النباتي.

برنامج “كوبرنيكوس” الأوروبي

في خضم المعركة ضد التغير المناخي، تُعتبر البيانات أداة لا غنى عنها لتوجيه القرارات والسياسات، وهنا يبرز دور برنامج “كوبرنيكوس” الأوروبي، وتحديدًا خدمة رصد الأراضي، التي توفّر معلومات دقيقة عن الغطاء النباتي واستخدام الأراضي، وهو ما يُساعد على حساب الانبعاثات الكلية الصافية لغازات الدفيئة.

البرنامج يُقدم حزمة من البيانات المرتبطة بالنباتات، مثل مؤشرات إنتاجية الغطاء النباتي، وبيانات عالية الدقة لرصد الغابات؛ مما يُمكن الحكومات المحلية والوطنية من متابعة التغيرات في الغطاء النباتي، ورصد استخدام الأراضي بدقة، ومن ثم تعزيز قدرتها على تحقيق إسهاماتها الوطنية المحددة في التخفيف من التغير المناخي.

ويُعد فهم ما ينمو على الأرض وأين ينمو عاملًا أساسيًا في تخطيط السياسات المناخية، ليس فقط لخفض الانبعاثات، وإنما أيضًا لتعزيز قدرة الأرض على الامتصاص، وهنا تأتي أهمية استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في دعم استراتيجيات التنمية المستدامة، وتقديم أدوات دقيقة ومحدثة للتعامل مع واقع التغير المناخي.

وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أنَّ تلك التحديات تفرض على الدول والمجتمعات تجاوز منطق المصالح الضيقة والقرارات المؤجلة؛ فمواجهة التغير المناخي لا تتعلق فقط بالتكنولوجيا أو التمويل، وإنما تستدعي إرادة جماعية تدرك أن أمن الكوكب مرهون بعدالة السياسات وشمولية الحلول.

وإنَّ التفاوت في المسئوليات التاريخية لا يلغي الحاجة إلى التعاون، وإنما يعزّزها؛ فكل تأخير في خفض الانبعاثات، أو حماية النظم البيئية، أو دعم الدول الهشة، سيُفاقم الكلفة الإنسانية والاقتصادية في المستقبل القريب، والرهان الحقيقي اليوم هو أن تتحول البيانات والتحذيرات العلمية إلى سياسات جريئة، واستثمارات عادلة، ومسارات تنمية لا تترك أحدًا خلف الركب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى