هل تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون رعاية الحيوانات؟
هل تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون رعاية الحيوانات؟
عندما نتحدث عن مستقبل مستدام، غالبًا ما تقفز إلى أذهاننا صور الهواء النظيف والطاقة المتجددة وإعادة التدوير، لكن نادرًا ما نتوقف عند أحد أهم المكونات المهملة لهذا المستقبل: رعاية الحيوانات، بخاصة أننا نعيش عصرًا تتسارع فيه تحديات التنمية المستدامة؛ ولذا أصبحت الحيوانات شديدة المعاناة، بسبب تجاهل قيمتها ضمن منظومة الاستدامة على الرغم من أنها عميقة الارتباط بالمجتمع والاقتصاد والبيئة.
وعلى ذلك سوف تتناول مؤسسة حماة الأرض في هذا المقال الروابطَ الخفيةَ والواضحةَ بين رفاهية الحيوان وأهداف التنمية المستدامة، مجيبةً عن سؤال: كيف يمكن أنْ يشكل تحسين حياة الحيوانات في البرية والمزارع رافعةً اجتماعيةً واقتصاديةً وبيئيةً تسهم في بناء عالم أكثر عدالةً واستقرارًا؟ فتابعوا القراءة.
مَن يحمي الحيوانات؟
لم تعد حماية الحيوانات مسألة أخلاقية فحسب، بل باتت ضرورة بيئية وصحية ومجتمعية تمسّ حاضر الإنسان ومستقبله. وبينما تتوزع المسئوليات بين الأفراد والمؤسسات والحكومات فإنَّ التحدي الحقيقي يكمن في تحويل رفاهية الحيوان إلى جزء لا يتجزأ من السياسات العامة وممارسات التنمية الشاملة.
ولحصر الأمر فإنَّ مسئولية حماية الحيوانات تقع على عاتق ثلاثة أطراف رئيسية؛ هي:
الجمهور
يمكن حماية الحيوانات من خلال تقليل الطلب على المنتجات المرتبطة باستغلال الحيوانات، مثل تجارة الفراء والعاج، وكذلك المنتجات المجربة على الحيوانات، واللحوم القادمة من مزارع لا تلتزم بمعايير الرفق بالحيوان؛ فعندما يُقلّل المستهلكون من استهلاك هذه المنتجات أو يختارون بدائل أخلاقية ومستدامة، فإنهم يرسلون بهذا رسالة واضحة إلى الأسواق مفادها: الرفق بالحيوان ليس خيارًا ثانويًّا، بل أولوية.
الشركات
وأيضًا يكون تعزيز دور الحيوانات -وفق معايير الاستدامة- عبر تحسين جهود الرفق بالحيوان في سلاسل التوريد والإمداد، حيث يكون للشركات دور أساسي تحمي به الحيوانات في قطاعات مثل قطاع الأغذية والموضة والتجميل؛ إذْ إنَّ دمج هذه المعايير يُقلّل من معاناة الحيوانات، ويعزّز مصداقية العلامات التجارية، ويُسهم في تحقيق الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
الحكومات
وأمَّا الحكومات فلا يزال لها دور رئيسي؛ فهي تقوم بوضع السياسات وتنفيذ القوانين واللوائح التنظيمية، التي تحسِّن وضع الحيوانات البرية والمستأنسة.
ولكن يبقى هنا سؤال جدير بالاهتمام؛ هو: ما الأبعاد التي يمكن أنْ تقوم عليها جهود تعزيز رفاهية الحيوانات وتحقيق تقدم ملموس في مجال رعايتها والرفق بها؟ وتكمن الإجابة في عدد من المحاور، وهي المحاور التي نلقي عليه الضوء في السطور القادمة.
الزراعة المستدامة لا تكتمل دون رعاية الحيوانات
في عام 1984، صاغ الباحث “جيبز” أولَ تعريف شامل للزراعة المستدامة، وضمّن فيه عنصر “الإنسانية”، وهذا بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي والجانب والبيئي، غير أنَّ هذا العنصر -البُعد الإنساني- قد أُسقِط عمدًا من التعريفات اللاحقة؛ مما عكس انحرافًا واضحًا في طريقة تعاملنا مع استدامة الزراعة؛ وبالتالي فإنَّ ذلك يُعد إهمالًا للمعنى الشامل للتنمية المستدامة وسبل تحقيق أهدافها السبعة عشر.
وهذا الإقصاء لم يكن بريئًا، بل أدى إلى فصل خطير بين مفهوم الزراعة المستدامة وبين واقع معاناة الحيوانات في أنظمة الإنتاج المكثف، حيث صارت الحيوانات وسائلَ إنتاج لا كائنات حية لها احتياجات وشعور؛ مما أفرغ مفاهيم “الاستدامة” من بعدها الأخلاقي أو الإنساني.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أنَّ ممارسات الزراعة الصناعية -بما فيها تلك التي تهمل الرفاه الحيواني- تمثل سببًا مباشرًا في التدهور البيئي، من إزالة الغابات وتلوث الهواء والمياه حتى فقدان التنوع البيولوجي؛ ولذلك تشدد حماة الأرض على ضرورة إعادة دمج الرفق بالحيوان في صلب تعريف الزراعة المستدامة؛ حتى يمكن إعادة التوازن بين الإنتاج والضمير، وبين الربح والرحمة، وبين الإنسان وبيئته.
التنوع البيولوجي
ترتبط حماية التنوع البيولوجي ارتباطًا وثيقًا برعاية الحيوانات في النظم البيئية الطبيعية؛ لأنَّ الكائنات البرية ركائز أساسية في الحفاظ على توازن النظم البيئية، وتقديم خدمات حيوية، مثل تلقيح النباتات، وتنقية الهواء والماء.
فحين تُنتَهك حقوق الحيوانات البرية أو تُدمر بيئاتها ينهار هذا التوازن، وتبدأ سلسلة من التأثيرات السلبية التي تصل في النهاية إلى الإنسان نفسه. وهنا تبرز أهمية ممارسات إدارة الأراضي المستدامة التي تراعي احتياجات الحيوانات، مثل الرعي الدوري، واستعادة المواطن الطبيعية، باعتبار أنَّ هذه الممارسات أولَ خط دفاع ضد كل ما يمكن أنْ يهدد التنوع البيولوجي.
ليس ذلك فحسب، بل إنَّ تبني ممارسات رحيمة يخفف أيضًا من الضغوط على المواطن الطبيعية، ويقلل من مخاطر انقراض الأنواع، خاصة مع تفاقم آثار التغير المناخي والتوسع الزراعي الجائر، وذلك يؤكد أنَّ الرفق بالحيوان قيمة أخلاقية، وأداة بيئية فعالة في وجه التحديات المناخية المتسارعة.
البُعد الاقتصادي
قد يُنظر إلى الاستثمار في رعاية ورفاهية الحيوان على أنه عبء اقتصادي، لكن الأبحاث والممارسات الحديثة تثبت العكس تمامًا؛ فإنَّ تحسين بيئات تربية الحيوانات، وتوفير الماء والغذاء والرعاية الصحية أسباب إيجابية تسهم في زيادة الإنتاجية، وتقليل معدلات نفوق الحيوانات؛ مما يجعل من الممارسات الرحيمة وسيلة لتعزيز الكفاءة الاقتصادية.
ووفقًا للمنظمة العالمية لصحة الحيوان (WOAH)، فإنَّ تحسين الخدمات البيطرية، وتعزيز إدارة الصحة الحيوانية يمكن أنْ يرفعَا الإنتاجَ الحيواني العالمي بنسبة 20% دون حاجَةٍ إلى التصنيع المفرط. وهذه المعادلة تفتح الباب أمام دعم صغار المنتجين بطرق أكثر استدامة وإنصافًا.
ويتزايد وعي المستهلكين -من جهة أخرى- تجاه الممارسات غير الأخلاقية في سلاسل التوريد، وهو الأمر الذي يدفع إلى مقاطعة المنتجات التي تتجاهل رفاهية الحيوان. وهذا التحول الأخلاقي أصبح معيارًا للسوق، حيث تحظى الشركات التي تلتزم بالرفق بالحيوان بميزة تنافسية قوية.
وفي ظل ما نشهده من انتشار الأمراض الحيوانية، يتأكد لنا أنَّ استدامة النظم الغذائية لا يمكن فصلها عن صحة الحيوانات وظروف تربيتها؛ مما يجعل من الرفق بالحيوان عنصرًا لا غنى عنه لبناء أنظمة غذائية صحية وآمنة.
رفاهية الحيوان أمان اجتماعي
لا تقتصر آثار رفاهية الحيوان على البيئات الطبيعية أو الأسواق، بل تمتد إلى نسيج المجتمع وصحة أفراده النفسية والجسدية؛ فقد أظهرت تقارير من منظمة الصحة العالمية أنَّ التعامل الرحيم مع الحيوانات يزرع قيم التعاطف والاحترام، وهذا ينعكس انعكاسًا إيجابيًّا على الصحة النفسية للعمال في القطاعات الزراعية والغذائية.
كما أنَّ تعزيز أنظمة الأمن الغذائي يبدأ من المزرعة، حيث تسهم صحة الحيوانات في ضمان جودة وسلامة الغذاء على طول سلاسل التوريد، وهذا يقلل من أخطار تفشي الأمراض، ويضمن حق الجميع في غذاء آمن وصحي؛ وهو ما يعود بالنفع على أفراد المجتمع كله.
نحو اعتراف أممي برفاه الحيوان
بالرغم من كل ما سبق، لم تُمنح رفاهيةُ الحيوان بَعْدُ مكانتها الحقيقية ضمن أجندة التنمية المستدامة؛ ففي عام 2019 أشار تقرير الأمم المتحدة للتنمية المستدامة إلى أن هذا الملف لا يزال “منسيًّا” ضمن أهداف 2030.
وقبل ذلك -في عام 2016- تطرقت لجنة الأمن الغذائي العالمية إلى أهمية تعزيز رفاه الحيوان، مستندةً في هذا إلى مبادئ الحريات الخمس، التي وضعتها المنظمة العالمية لصحة الحيوان، التي تشمل: الحرية من الجوع والعطش، ومن الخوف، ومن الألم، ومن المرض، ومن القيود على السلوك الطبيعي.
ثم في عام 2021 تقدمت سبع دول من إفريقيا وجنوب آسيا بمقترح إلى الجمعية العامة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهو مقترح يدعو إلى إدماج رفاهية الحيوان في جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي والتخفيف من تغير المناخ.
وهذه الخطوات -وإنْ كانت رمزيةً حتى الآن- فإنها تعكس صحوة عالمية متنامية تدرك أنَّ استدامة كوكبنا لا تتحقق بإجراءات تقنية فقط، بل تتطلب أيضًا عدالة بيولوجية تحترم حق الحيوان في الحياة.
مبادرات عالمية في الاتجاه الصحيح
من بين المبادرات الرائدة المسودة التي أطلقتها منظمة القانون العالمي لرفاه الحيوان (منظمة مستقلة تُعنى بصحة الحيوانات وحمايتها من خلال الأُطر القانونية) في 2018، وهي مسودة أولية لمعاهدة أممية تهدف إلى حماية صحة الحيوانات ورفاهيتها، داعيةً بهذه المسودة الأولية إلى التزام عالمي بتشريعات أكثر صرامةً، مع الاهتمام بالتعاون بين الدول؛ من أجل إنهاء صور انقراض الحيوانات والمعاناة غير الضرورية في بيئاتها الطبيعية.
وتتبنى منظمة القانون العالمي لرفاه الحيوان مفهومَي “صحة واحدة” و”رفاه واحد”، وهما مفهومانِ يربطانِ بين صحة الإنسان والحيوان والبيئة، وذلك انطلاقًا من أنَّ البيئة والحيوان والإنسان منظومة واحدة متكاملة لا يمكن فصل عناصرها عن بعضها بعضًا.
مثل هذه المبادرة يشير إلى تحول تدريجي في النظرة العالمية، من اعتبار الحيوان مجرد “مورد” إلى الاعتراف به كائنًا ذا حقوقٍ؛ مما يعزز من فرص بناء نظم مستدامة أكثر عدلًا وإنصافًا. وإنَّ نجاح هذه الجهود يتطلب شراكة عالمية حقيقية تجمع الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، نحو صياغة مستقبل لا تُقصى فيه الكائنات الضعيفة، بل يُحتفى بها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من استدامة الحياة فوق الأرض.
في الختام، يتأكَّد لنا أنه لا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة بمعزل عن رعاية الحيوانات؛ فكما أنَّ الإنسانَ لا يعيش في فراغ فكذلك التنمية الحقيقية لا تتحقق في بيئة يُهمَّش فيها أيُّ كائنٍ حي؛ ولذا كشفت حماة الأرض في السطور السابقة العلاقةَ بين رفاهية الحيوان وأهداف التنمية المستدامة.
ذلك لأنَّ رفاهية الحيوان ليست مسألة أخلاقية فحسب، بل ركيزة تمس الأمن الغذائي، والتنوع البيولوجي، وصحة الإنسان. وإنَّ تجاهل أي حق من حقوق الحيوانات يُقوِّض التوازن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والتنوع البيئي، ويُفرغ الاستدامة من مضمونها.