أخبار الاستدامة

الزراعة في مصر.. كيف تتحول النخلة إلى بوابة للتنمية المستدامة؟

الزراعة

الزراعة في مصر.. كيف تتحول النخلة إلى بوابة للتنمية المستدامة؟

لم تكن النخلة يومًا مجرد شجرة تمد الأرض والبشر بظل وثمر، وإنما رمز للصمود وامتداد لحكايات الزراعة الأولى على ضفاف النيل، واليوم تعود النخلة إلى الواجهة بوصفها موروثًا زراعيًّا وموردًا اقتصاديًّا تسعى مصر إلى توظيفها في معادلة الأمن الغذائي وتوازن المناخ؛ فعبر سعيها الحثيث نحو نماذج زراعية أكثر تكيفًا وربحية شاركت مصر مؤخرًا -15 يوليو- في مؤتمر دولي نظمته منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في فيتنام؛ لتضع تجربة تطوير قطاع التمور المصري تحت مجهر دولي، وضمن مبادرة “بلد واحد منتج واحد”.

وقد تمثلت المشاركة المصرية بكلمة ألقاها الدكتور/ عز الدين جاد الله، مدير المعمل المركزي لأبحاث وتطوير نخيل البلح -نيابة عن وزير الزراعة- حيث سلّط الضوء على رؤية مصر في استثمار إمكانياتها الزراعية لتعزيز موقعها في إنتاج التمور، وتقديم نموذج يحتذى به في التحول الزراعي المستدام، وجاء ذلك في إطار الجهود الدولية التي تهدف إلى تطوير الأنظمة الزراعية والغذائية، بما يخدم أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030.

وتأتي هذه المشاركة ضمن توجه عالمي يقوده مشروع “بلد واحد منتج واحد”، الذي أطلقته “الفاو” لتشجيع الدول على التركيز على منتج زراعي يتمتع بخصائص فريدة وقيمة سوقية عالية، بهدف تحسين نظم الإنتاج والتصنيع والتسويق والتصدير. ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التوجه؛ إذ اختارت أن تضع نخيل التمر في قلب هذا المشروع، وهو ما يعكس إدراكها العميق لأهمية هذا المحصول في تعزيز الأمن الغذائي، وفتح آفاق جديدة للاستثمار الأخضر.

التمور المصرية

لم يكن اختيار التمور عشوائيًّا، وإنما جاء بناءً على معطيات تؤكد مكانة مصر العالمية في هذا المجال؛ فمصر تحتل المرتبة الأولى عالميًّا في إنتاج التمور، حيث تنتج نحو 2 مليون طن سنويًّا، ما يعادل 19% من الإنتاج العالمي و24% من الإنتاج العربي، من إجمالي 24 مليون نخلة، منها 20 مليون نخلة مثمرة، هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن وفرة الإنتاج، بل تشير إلى إمكانيات غير مستغلة بالكامل بعد.

غير أن الرؤية المصرية لا تكتفي بالأرقام، وإنما تنظر إلى المستقبل بعين المخطط الواعي، الذي يدرك أن النخلة يمكن أن تتحول إلى محرك للتنمية إذا ما أحسن استغلالها. وفي هذا السياق، تم إنشاء أكبر مزرعة نخيل في العالم بمنطقة توشكى، تضم 2.5 مليون نخلة من الأصناف عالية القيمة التسويقية، في خطوة تمثّل نقلة نوعية في الخريطة الاستثمارية الزراعية في مصر.

التمور المصرية

وتسعى الدولة من خلال هذه الخطة الطموحة إلى زراعة 5 ملايين نخلة إضافية خلال الفترة الحالية؛ لتكون ركيزة لاقتصاد زراعي أكثر تنوعًا واستدامة، ويُعد هذا التوسع بمثابة استثمار مزدوج: في الأرض وفي الإنسان، حيث يوفر آلاف فرص العمل الجديدة، ويعزز من قدرات المجتمعات الزراعية على الدخول في سلاسل القيمة المحلية والدولية.

إن الاهتمام بالنخيل لا ينبع فقط من قيمته الاقتصادية، وإنما أيضًا من دوره البيئي، حيث تُعد النخلة من المحاصيل قليلة الاستهلاك للمياه، والقادرة على التكيف مع ظروف المناخ الجاف، ومن هنا فإن الاستثمار في زراعة التمور يمثل اختيارًا استراتيجيًّا في زمن التغيرات المناخية وتحديات الأمن المائي والغذائي.

“بلد واحد منتج واحد”

تمثل مبادرة “بلد واحد منتج واحد ذو أولوية” التي أطلقتها “الفاو” بالتعاون مع الدول الأعضاء، نموذجًا جديدًا للتكامل الدولي في دعم المنتجات الزراعية المتميزة، وقد اختارت المبادرة أن تكون مصر ممثلة لإقليم الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، عبر التمور؛ لتكون التجربة المصرية منارة لباقي الدول التي تسعى نحو التحول الزراعي الأخضر.

ولضمان نجاح المبادرة، تم تشكيل فريق وطني مشترك يضم خبراء من وزارتي الزراعة والصناعة، إضافة إلى ممثلين من القطاع الخاص، للعمل على تغطية سلسلة القيمة بالكامل، من الزراعة والإنتاج، مرورًا بالتصنيع والتخزين، ووصولًا إلى التسويق والتصدير. هذا التكامل يؤكد أن النهوض بقطاع النخيل لا يمكن أن يتم إلا برؤية شاملة تعالج كل حلقة في المنظومة.

وقد وقع الاختيار على منطقة الواحات البحرية باعتبارها منطقة نموذجية لتطبيق المبادرة، نظرًا لتركز زراعة النخيل فيها، وتم تنظيم ورش عمل تدريبية على المستويين المحلي والإقليمي، بهدف نقل المعرفة وتبادل التجارب وتعزيز القدرات، وهو ما أثار إشادة من منظمة “الفاو” نفسها، التي اعتبرت أن التجربة المصرية من أنجح النماذج في تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع.

واليوم، وبعد انتهاء المرحلة الأولى من المبادرة بنجاح، يجري التحضير لإطلاق المرحلة الثانية، وسط آمال كبيرة بتوسيع نطاق التجربة، وإدخال مزيد من المنتجات الزراعية في هذا الإطار، خاصة في ظل الاعتراف الدولي الذي حصلت عليه مصر، بعد أن تم تكريم فريقها الوطني باعتباره أفضل فريق على مستوى الدول المشاركة.

الاقتصاد الأخضر في مصر

أثبت قطاع التمور في مصر أنه ليس مجرد نشاط زراعي تقليدي، وإنما يمثل أحد أعمدة الاقتصاد الأخضر الناشئ في البلاد؛ ففي عام 2024، بلغت صادرات مصر من التمور الطازجة والمُصنّعة نحو 88 ألف طن، بإجمالي قيمة وصلت إلى 108 ملايين دولار؛ مما يؤكد قدرته على المنافسة في الأسواق الدولية وتحقيق قيمة مضافة عالية.

ولا تقتصر أهمية قطاع التمور على أرقام التصدير، وإنما تمتد إلى دوره الاجتماعي والبيئي؛ فالتمور توفر آلاف فرص العمل في مراحل الإنتاج والتعبئة والتصنيع، وهذا يسهم في التمكين الاقتصادي للمجتمعات الزراعية، خاصة في المناطق الريفية والصحراوية التي تُعد زراعة النخيل فيها نمط حياة ومصدر رزق مستقر.

وقد عبّر الدكتور/ جاد الله عن تقدير مصر العميق لجهود منظمة “الفاو” في إطلاق هذه المبادرة، مؤكدًا التزام مصر بمواصلة دعم قطاع التمور، وتعزيز الابتكار في مراحل الإنتاج والتسويق، والارتقاء بمستوى الجودة، بما يتوافق مع أهداف رؤية مصر 2030 التي تضع الزراعة المستدامة ضمن أولوياتها.

الاقتصاد الأخضر في مصر من خلال زراعة النخيل

وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن التجربة المصرية في النهوض بزراعة النخيل وتطوير سلاسل قيمة التمور، ليست مجرد قصة نجاح زراعي، وإنما نموذجٌ متكامل لما يجب أن تكون عليه الشراكة بين الدولة والمؤسسات الدولية والمجتمع المحلي؛ فالرؤية المصرية لم تتوقف عند تعظيم الإنتاج، وإنما امتدت إلى بناء منظومة اقتصادية واجتماعية وبيئية ترتكز على مفهوم الاستدامة، وتُحسن استغلال الموارد الطبيعية في مواجهة التحديات المناخية والاقتصادية. وفي الوقت الذي تستعد مصر لإطلاق المرحلة الثانية من المبادرة، تتعزز القناعة بأن النخلة المصرية تحولت إلى ركيزة تنموية مرنة، قادرة على تعزيز الأمن الغذائي، وتوفير فرص عمل لائقة، والإسهام في بناء اقتصاد أكثر خضرة وعدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى