صناعات مستدامة

صناعة الأسمنت الأخضر ودورها في خفض البصمة الكربونية الصناعية

صناعة الأسمنت الأخضر ودورها في خفض البصمة الكربونية الصناعية

اليومَ أصبح التغيُّـرُ المناخيّ واحدًا من أكبـر التحديات التي تواجه البشرية، نظرًا إلى ما يحمله في جعبته من تأثيـرات متنوعة في جوانب حياتنا كلها. وهو أمر يفرض على البشرية عددًا من التحديات الجديدة على مستوى البيئة والاقتصاد والمجتمع؛ لذا فليس مستغرَبًا أنْ يفرض الواقع علينا التحولَ بأنشطتنا إلى الاستدامة، خاصةً الأنشطة الصناعية، التي تأتي في مقدمتها صناعةُ مواد البناء.

ومن بيـن مختلف مواد البناء تبـرز الخرسانة؛ لكونها المادةَ الأكثـرَ استخدامًا -بعد المياه- في العالم، حيث تستخدم البشرية ما يصل إلى 14 مليار متـر مكعب كل عامٍ من الخرسانة في مختلف أنواع الإنشاءات والتطبيقات.

لتوضيح ضخامة الرقم السابق يكفي القول بأنَّ هذه الكمية من الخرسانة يمكنها تغطية مساحة إنجلتـرا كلها مع نصف مساحة «ويلز» بطبقة من الخرسانة، بسُمك عشرة سنتيمترات، كما يمكن أنْ تُغطي هذه الكميةُ -أيضًا- ولايةَ نيويورك كلها بالسُّمك نفسه.

تُعتبـر مادةُ الخرسانةِ أهمَّ المواد الإنشائية في العصر الحديث؛ لأنَّ لها دورًا حاسمًا في بناء وتطوير البنية التحتية والمباني في جميع أنحاء العالم، لما توفره من قوةٍ هيكليةٍ استثنائيةٍ، ولأنها مقاوِمة للعوامل الجوية والتآكل؛ ما جعلها المادةَ المثاليةَ للأعمال الإنشائية المتنوعة من الأبنية السكنية إلى الجسور والطرق.

بالإضافة إلى ذلك، تتميـز الخرسانة بسهولة صَبِّها، وهو ما يجعلها مناسِبةً لمختلف التصميمات والاحتياجات الهندسية، ما جعلها اختيارًا شائعًا بيـن المهندسين؛ لذا لا يمكن إنكار أهمية مادة الخرسانة في تعزيز التنمية المستدامة، وتحقيق الاستقرار البنيويّ في العالم الحديث.

لكن إنتاج الخرسانة يُطلِقُ ثاني أكسيد الكربون (CO2)، وهو أبرز الغازات الدفيئة التي تؤدي إلى تغيُّـر المناخ. تأتي الانبعاثات المرتبطة بالخرسانة من إنتاج الأسمنت البورتلانديّ بشكل أساسيّ، بنسبة تصل إلى 90%، نظرًا إلى أنَّ هذا النوعَ من الأسمنت مسئولٌ عن ربط مكونات الخرسانة معًا. وتمثل صناعة الأسمنت البورتلانديّ ما بيـن 7% إلى 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المباشرة في العالم.

لذا، أصبح المجتمع العلميّ والصناعيّ مهتمًّا بإيجاد بدائل أسمنت منخفضة الكربون، بالإضافة إلى التحول بهذه الصناعة إلى الاستدامة؛ لما قد يحققه هذا من فوائدَ متعددةٍ، ليس فقط على الجانب البيئيّ، وإنما أيضًا على الجانب الاقتصاديّ، ومِن هنا نَشَأَ مصطلـحُ الأسمنت الأخـضر.

قضية متشعبة وممتدة

يستخدم الناس الخرسانة منذ أكثـر من 2000 عامٍ، عن طريق مزج الحصى والرمل والأسمنت والماء، وأحيانًا بعض المواد الكيميائية الاصطناعية. وبتعاقـب القرون ازداد استخدام الإنسان للخرسانة، وفي وقتنا الحاليّ يستخدم الاتحاد الأوروبيّ -على سبيل المثال- الخرسانة بمعدل يصل إلى طُنَّيْـنِ للشـخص الواحد سنويًّا، منها 325 كجم أسمنت، وهو مؤشر على مدى اعتمادنا الكبيـر على كلٍّ مِن الخرسانة والأسمنت.

يُعدُّ إنتاج الأسمنت عمليةً كثيفةَ الاستخدام للطاقة؛ وبالتالي يكون مسئولًا عن إنتاج كميات كبيـرة من انبعاثات الغازات الدفيئة. وتحتاج صناعة الأسمنت إلى هذا القدر الكبيـر من الطاقة لتسخين الحجر الجيـريّ والمواد الخام الأخرى في الأفران، وغالبًا ما يتم تلبية احتياجات الطاقة هذه عن طريق حرق الفحم أو غيـره من البدائل الأحفورية.

المشكلة هنا -بشكل عامّ- ليست في الانبعاثات الناتجة عن حرق الفحم أو الوقود الأحفوريّ فقط، وإنما أيضًا في الحجر الجيـريّ الذي تُفقد نصف كميته -تقريبًا- أثناء عمليات الإنتاج، على هيئة خليط من أكسيد الكالسيوم وثاني أكسيد الكربون. وفي مقابل كل طن من الأسمنت البورتلانديّ يتم إنتاجه يُطلق ما بيـن 600 إلى 900 كجم من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجويّ.

تعتمد قطاعات عديدة على الأسمنت، ما يعني أنَّ التحدي الرئيسيّ الذي يواجه هذه الصناعة هو تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من ناحية، وتلبية الاحتياج العالميّ المتزايد من ناحية أخرى، وهي معادلة تصعبُ موازنتُها؛ لذا يجب تبني إنتاج الأسمنت منخفض الكربون -إلى جانب تطوير تقنيات جديدة- على نطاق عالمـيّ؛ لتلبية احتياجات البنية التحتية المطلوبة، خصوصًا في الدول النامية.

البدائل منخفضة الكربون

تشمل الطرق الأخرى لتقليل البصمة الكربونية للخرسانة استخدام الرماد المتطاير «ash» (منتج ثانويّ من حرق الفحم في محطات الطاقة) أو الخبث «slag» (منتج ثانويّ من صناعة الصلب)، ليحل محل الأسمنت البورتلانديّ -بشكل جزئيّ- في خليط الخرسانة.

وعلى الرغم من الجدوى البيئية لما سبق فإنَّ هذه الطرق لا تُعتبـر مناسِبةً على المدى البعيد؛ لأنَّ هذه المواد البديلة للأسمنت ستنخفض هي الأخرى مع تنامي التقنيات منخفضة الكربون بشكل عامّ، فالعالم الآن يحاول التخلص من الفحم لإنتاج الطاقة، في حيـن أنَّ صناعةَ الصلب تحاول زيادة الاعتماد على إعادة التدوير، بدلًا من الإنتاج باستخدام المواد البكر؛ ما يعني أنَّ الرمادَ والخبثَ قد لا يكونَا متوفرينِ -بشكل كافٍ- في المستقبل.

تعتمد الاستراتيجيات الحالية لإزالة الكربون من الأسمنت والخرسانة -بشكل كبيـر- على استخدام تكنولوجيا التقاط وتخزين ثنائي أكسيد الكربون (CCS) في التعامل مع الانبعاثات التي لا يمكن تجنبها خلال عمليات إنتاج الأسمنت.

لذا، فعندما نقول إنتاج الأسمنت منخفض الكربون ليس من الضروريّ أنْ نعني استبدال كل تقنيات الإنتاج الحالية للأسمنت، وإنما يمكن أنْ يشمل هذا المصانعَ، التي تقوم بتطبيق تقنيات التقاط وتخزين الكربون.

في النرويج -على سبيل المثال- تقوم شركة هايدلبـرج للأسمنت ببناء وحدة لالتقاط الكربون وتخزينه على نطاق صناعيّ في إحدى منشآتها بهذا البلد الأوروبيّ؛ لأجل التقاط وتخزين نحو 400 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا، تمثل نسبة 50% من إجماليّ انبعاثات المصنع الحالية.

وبالرغم من الحلول التي تقدمها تكنولوجيا التقاط وتخزين الكربون، نجد بعض المعوقات التي تتمثل في التكلفة الاستثمارية الكبيـرة، التي قد لا يستطيع تحملها كلُّ مُصَنِّعِي الأسمنت، بالإضافة إلى أنَّ تخزينَ الكربون في طبقات الأرض يتطلب بعض الخصائص الجيولوجية، التي لا يمكن ضمان توافرها في جميع مواقع إنتاج الأسمنت.

على جانبٍ آخرَ، يؤمن البعض بأنَّ الحلَّ للتحول بصناعة الأسمنت إلى الاستدامة يكمن في وجود إطار تشريعيّ مُلْزِمٍ لمُصَنِّعِي الأسمنت، يضمن خفض انبعاثاتهم الكربونية. ولعل أبرز مثال على هذا هو نظام تجارة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبيّ «EU ETS». وهو نظام يحدد سقفَ الانبعاثات في مختلف القطاعات الصناعية، بحيث تقوم المصانع التي تتجاوز هذا السقف بدفع غرامات نظيـر تلويثها الزائد، ليتم بعد هذا استغلال الإيرادات التي يجمعها هذا النظام في تمويل مشروعات التحول الأخضر.

اللافتُ في الأمر هنا، هو أنَّ نظامَ تجارة الانبعاثات المشار إليه لم يُفلحْ في خفض انبعاثات صناعة الأسمنت في أوروبـــا -بشكل كبيـر- في العقد الماضي، وهو الأمر الذي يشير إلى وجود مجموعة من العوامل الأخرى التي تجب مراعاتها.

وبالرغم من الأرباح الجيدة التي تجنيها صناعةُ الأسمنت، فليس هناك ما يكفي من الاستثمارات التي ضُخَّتْ -على نطاق واسع- في التكنولوجيات النظيفة، والتحول إلى الاستخدام المستدام للمواد؛ ما يعني وجود حاجَةٍ إلى حوافز مالية أكبـر تدفع الشركات إلى الاستثمار في الحلول المنخفضة الكربون، لإنتاج الأسمنت.

تشمل الطرق الأخرى لتقليل البصمة الكربونية للخرسانة استخدام الرماد المتطاير «ash» (منتج ثانويّ من حرق الفحم في محطات الطاقة) أو الخبث «slag» (منتج ثانويّ من صناعة الصلب)، ليحل محل الأسمنت البورتلانديّ -بشكل جزئيّ- في خليط الخرسانة.

وعلى الرغم من الجدوى البيئية لما سبق فإنَّ هذه الطرق لا تُعتبـر مناسِبةً على المدى البعيد؛ لأنَّ هذه المواد البديلة للأسمنت ستنخفض هي الأخرى مع تنامي التقنيات منخفضة الكربون بشكل عامّ، فالعالم الآن يحاول التخلص من الفحم لإنتاج الطاقة، في حيـن أنَّ صناعةَ الصلب تحاول زيادة الاعتماد على إعادة التدوير، بدلًا من الإنتاج باستخدام المواد البكر؛ ما يعني أنَّ الرمادَ والخبثَ قد لا يكونَا متوفرينِ -بشكل كافٍ- في المستقبل.

تعتمد الاستراتيجيات الحالية لإزالة الكربون من الأسمنت والخرسانة -بشكل كبيـر- على استخدام تكنولوجيا التقاط وتخزين ثنائي أكسيد الكربون (CCS) في التعامل مع الانبعاثات التي لا يمكن تجنبها خلال عمليات إنتاج الأسمنت.

لذا، فعندما نقول إنتاج الأسمنت منخفض الكربون ليس من الضروريّ أنْ نعني استبدال كل تقنيات الإنتاج الحالية للأسمنت، وإنما يمكن أنْ يشمل هذا المصانعَ، التي تقوم بتطبيق تقنيات التقاط وتخزين الكربون.

في النرويج -على سبيل المثال- تقوم شركة هايدلبـرج للأسمنت ببناء وحدة لالتقاط الكربون وتخزينه على نطاق صناعيّ في إحدى منشآتها بهذا البلد الأوروبيّ؛ لأجل التقاط وتخزين نحو 400 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا، تمثل نسبة 50% من إجماليّ انبعاثات المصنع الحالية.

وبالرغم من الحلول التي تقدمها تكنولوجيا التقاط وتخزين الكربون، نجد بعض المعوقات التي تتمثل في التكلفة الاستثمارية الكبيـرة، التي قد لا يستطيع تحملها كلُّ مُصَنِّعِي الأسمنت، بالإضافة إلى أنَّ تخزينَ الكربون في طبقات الأرض يتطلب بعض الخصائص الجيولوجية، التي لا يمكن ضمان توافرها في جميع مواقع إنتاج الأسمنت.

على جانبٍ آخرَ، يؤمن البعض بأنَّ الحلَّ للتحول بصناعة الأسمنت إلى الاستدامة يكمن في وجود إطار تشريعيّ مُلْزِمٍ لمُصَنِّعِي الأسمنت، يضمن خفض انبعاثاتهم الكربونية. ولعل أبرز مثال على هذا هو نظام تجارة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبيّ «EU ETS». وهو نظام يحدد سقفَ الانبعاثات في مختلف القطاعات الصناعية، بحيث تقوم المصانع التي تتجاوز هذا السقف بدفع غرامات نظيـر تلويثها الزائد، ليتم بعد هذا استغلال الإيرادات التي يجمعها هذا النظام في تمويل مشروعات التحول الأخضر.

اللافتُ في الأمر هنا، هو أنَّ نظامَ تجارة الانبعاثات المشار إليه لم يُفلحْ في خفض انبعاثات صناعة الأسمنت في أوروبـــا -بشكل كبيـر- في العقد الماضي، وهو الأمر الذي يشير إلى وجود مجموعة من العوامل الأخرى التي تجب مراعاتها.

وبالرغم من الأرباح الجيدة التي تجنيها صناعةُ الأسمنت، فليس هناك ما يكفي من الاستثمارات التي ضُخَّتْ -على نطاق واسع- في التكنولوجيات النظيفة، والتحول إلى الاستخدام المستدام للمواد؛ ما يعني وجود حاجَةٍ إلى حوافز مالية أكبـر تدفع الشركات إلى الاستثمار في الحلول المنخفضة الكربون، لإنتاج الأسمنت.

عوامل أخرى مساعدة

في هذا السياق لا ينبغي أنْ نغفل ما لتصميمِ المنشآتِ واختيارِ الموادِّ من دور لا يقل أهميةً عن تقنيات خفض الكربون في صناعة الأسمنت؛ فالتصميم الجيد واستخدام المواد بشكل أكثـر كفاءةً، بالإضافة إلى اختيار المواد المنخفضة الكربون خلال دورة حياة البناء؛ كلها عوامل تسهم -بشكل أو بآخر- في خفض البصمة الكربونية الناتجة عن قطاع التشييد؛ فالتصميم المستدام وحده يمكن أنْ يوفر بسهولة ما يصل إلى 20% من الانبعاثات الناتجة عن هذا القطاع.

وهنا يأتي دور الحكومات في مختلف الدول لتبنِّـي أُطُرٍ تنظيمية تفرض على الشركات استخدام بدائل منخفضة الكربون من الأسمنت، مع وضع مواصفات قياسية لأساليب وتصميمات البناء، بما يضمن الأخذ في الاعتبار كفاءة استهلاك الموارد، واختيار أكثرها استدامةً.

ولكن السؤال هنا هو: هل يمكن أنْ يتحولَ كلُّ الأسمنت في المستقبل إلى أسمنت منخفض الكربون «أخضر»؟ الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على كيفية تعريفنا لمصطلح «منخفض الكربون»؛ نظرًا إلى ما سيمثله هذا من دور مهم للغاية في كيفية ترجمة ذلك إلى ممارسة عملية في الصناعة.

في الختام يجب علينا أنْ نشير إلى أنَّ الطريقَ لا يزال طويلًا للتحول بصناعة الأسمنت والخرسانة إلى الاستدامة، وهو الأمر الذي يتطلب تعاونًا على نطاق محليّ وعالميّ؛ لتوفيـر الحوافز اللازمة لرواد هذه الصناعة، للتحول بأنشطتهم إلى الاستدامة، وتوفيـر الاستثمارات اللازمة لتطوير تقنيات أكثـر تطورًا وصداقةً للبيئة، مع التبني الحقيقيّ لأسس التصميم المستدام، والتفكيـر بشكل إبداعيّ في بدائل جديدة لمواد البناء التقليدية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى