نمو اقتصادي عالمي تحت تأثير الرسوم الجمركية.. وصندوق النقد يحذر من تراجع قادم
نمو اقتصادي عالمي تحت تأثير الرسوم الجمركية.. وصندوق النقد يحذر من تراجع قادم
أعلن صندوق النقد الدولي عن رفع توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي في عام 2025 إلى 3%، في تعديل صاعد مقارنة بتوقعات إبريل الماضي التي بلغت 2.8%. وجاء هذا التحسّن مدفوعًا بطفرة في النشاط التجاري، ناتجة عن تسريع الشركات العالمية لاستيراد السلع، بهدف تفادي الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في عودة مثيرة للجدل إلى السياسة الاقتصادية الحمائية. وبالرغم من الأثر الفوري الإيجابي على مؤشرات التجارة والنمو، حذّر خبراء الصندوق من أن هذه القفزة لا تعكس متانة اقتصادية حقيقية، وإنما تعكس اضطرابات آنية قد تتلاشى سريعًا.
غير أن ما يبدو في ظاهره انتعاشًا اقتصاديًّا، يخفي وراءه عوامل عدم يقين كبيرة، خصوصًا في النصف الثاني من العام الجاري وما بعده؛ فمع امتلاء المستودعات بالسلع، لن تكون هناك حاجة لتخزين المزيد؛ مما يهدد بانكماش محتمل في الواردات والنشاط الصناعي لاحقًا. كما أن استمرار التعقيدات الجمركية قد يحد من حركة التجارة، ويدفع الشركات نحو تقليص الاستثمار طويل الأمد، وهو ما يهدد استقرار الأسواق الناشئة التي تعتمد على تدفقات رءوس الأموال والطلب الخارجي.
قلق من تباطؤ النمو الاقتصادي في النصف الثاني من العام
أكثر ما يثير القلق في هذا السيناريو هو أنه يأتي في وقت لم يتعافَ فيه الاقتصاد العالمي بشكل كامل من تداعيات جائحة كوفيد-19 وتغير المناخ؛ فإذا كانت الرسوم الحمائية والسياسات التجارية قصيرة النظر تمثل عقبة أمام التجارة الحرة، فإنها في الوقت ذاته تُضعف قدرة الدول على تمويل التحول الأخضر، بسبب ضبابية المستقبل الاقتصادي وتقلبات السوق؛ لأن ارتفاع الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم، على سبيل المثال، قد يُبطئ مشروعات البنية التحتية المستدامة، ويؤثر في تكاليف الطاقة النظيفة وتقنيات النقل المستدام.
أثر معدلات النمو الاقتصادي في التنمية المستدامة
إن الارتفاع الظاهري في معدلات النمو لا يعني بالضرورة اقترابنا من تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بل ربما العكس؛ إذ يعكس حالة من “الهروب إلى الأمام” على حساب الاستدامة طويلة الأمد. وهنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة التفكير في سياسات التجارة العالمية، بما يوازن بين الأمن الاقتصادي وحماية الكوكب.
السعودية والصين في مقدمة النمو الاقتصادي
بحسب التقرير، سجلت السعودية والصين أعلى نسب النمو المتوقعة لعام 2025، حيث يُتوقع أن تحقق المملكة نموًا بنسبة 3.6%، مقارنة بـ3% في توقعات إبريل، في حين يُنتظر أن ترتفع نسبة نمو الاقتصاد الصيني إلى 4.8%، بعد أن كانت 4%، ويعود ذلك جزئيًّا إلى عوامل نقدية وتجارية، من بينها انخفاض قيمة العملتين المحلية والدولار الأميركي؛ مما أسهم في تعزيز الصادرات.
منطقة اليورو تسير بوتيرة بطيئة
وفي المقابل، تبدو اقتصادات كبرى أخرى مثل منطقة اليورو وألمانيا تسير بوتيرة أبطأ؛ إذ سجلت ألمانيا نموًا متواضعًا بنسبة 0.1%، بعد أن كانت التوقعات صفرًا فقط. أما الولايات المتحدة، فارتفعت توقعاتها إلى 1.9%، وسط تقلبات اقتصادية ومالية متسارعة، نجمت عن تذبذب السياسات التجارية وتدخلات البيت الأبيض في السياسة النقدية للبنك الفيدرالي.
هل يعكس النمو الاقتصادي توزيعًا عادلًا للفرص؟
غير أنه خلف هذه الأرقام تكمن تساؤلات أعمق تتعلق بتوزيع ثمار النمو؛ فهل يعكس هذا التحسن توزيعًا عادلًا للفرص؟ وهل تستفيد منه المجتمعات الهشّة والعمال في القطاعات الخضراء؟ الإجابة غير واضحة، خصوصًا أن معظم الطفرات الاقتصادية جاءت مدفوعة بالمضاربة التجارية، وليس بالإصلاحات الهيكلية التي تُمكّن الاقتصادات من التحول نحو نماذج إنتاج واستهلاك أكثر استدامة.
القلق الأكبر هنا أن تحقق بعض الدول نموًا اقتصاديًّا قويًّا على المدى القصير، يأتي على حساب قضايا استراتيجية كالمناخ، والتحول إلى الطاقة المتجددة، والعدالة الاجتماعية؛ فتراكم المخزون التجاري، وإعادة التمركز الصناعي، وسياسات خفض العملة، قد تزيد من الانبعاثات، وتؤجل الاستثمار في الابتكار الأخضر.
النمو الاقتصادي يواجه اختبار الاستدامة
منذ عودته إلى البيت الأبيض، أطلق ترامب موجة جديدة من الرسوم الجمركية شملت 10% على معظم الشركاء التجاريين، مع زيادات إضافية على السيارات والمعادن والأدوية، ورغم التوصل إلى اتفاق مبدئي مع الصين لخفض الرسوم المتبادلة -كان من المقرر تنفيذها في أغسطس- فإن الصندوق أشار إلى أن متوسط الرسوم الفعلية في الولايات المتحدة ارتفع إلى 17.3%، مقابل 3.5% فقط عالميًّا.
هذه النسب تطرح تحديًا كبيرًا للنظام التجاري العالمي، الذي لطالما اعتمد على الانفتاح وتقليل الحواجز؛ فإذا كانت الحمائية تهدف إلى حماية الصناعات المحلية، فإنها في الواقع تعرقل سلاسل التوريد العالمية، وتزيد التكاليف على المستهلكين، وتُربك استراتيجيات الاستثمار، خصوصًا في القطاعات المرتبطة بالاقتصاد الأخضر، كما أن هذه التوجهات الحمائية تُصعّب من فرص التعاون الدولي بشأن المناخ والتمويل المستدام.
تأثير تخزين ما قبل الرسوم في استقرار الأسواق
أما ما يُعرف بـ”تخزين ما قبل الرسوم (front-loading)”، والذي كان السبب الأساسي في انتعاش التجارة مؤخرًا، فهو لا يعكس نموًا حقيقيًا، بل اندفاعًا مؤقتًا من الشركات لتفادي خسائر مستقبلية، وتكمن الخطورة هنا في أن هذا النمط يخلق فقاعات استهلاكية قصيرة الأمد، ويُعرّض الاقتصاد العالمي لصدمات مفاجئة إذا ما تراجعت معدلات الطلب لاحقًا.
ومن ثمَّ فإن اختبارات الاستدامة ليست فقط بيئية، وإنما اقتصادية واجتماعية أيضًا، وإذا كانت التوقعات تشير إلى تباطؤ النمو في 2026 إلى 3.1%، فإن التحدي يكمن في المحافظة على ديناميكية اقتصادية تحقق الرخاء دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة، وضمن حدود الكوكب البيئية.
نحو اقتصاد عالمي أكثر توازنًا
رغم التفاؤل الظاهري الذي حمله تقرير صندوق النقد الدولي، فإن العديد من المحللين يرون أن هذه الزيادة في التوقعات قد لا تكون سوى “سراب رقمي” مؤقت؛ فالاقتصاد العالمي -وفقًا لكبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي- لا يزال يتألم، والمكاسب قصيرة الأجل قد تتحول إلى أعباء طويلة المدى، خصوصًا إذا ما تراجعت مؤشرات الثقة في الأسواق أو اندلعت موجات تضخم جديدة.
كما أن التحديات المناخية لا تزال تُلقي بظلالها على مستقبل النمو العالمي، وإذا لم تُدرج هذه العوامل في السياسات الاقتصادية والتجارية، فإن أية طفرات في الناتج المحلي ستبقى غير مكتملة، وربما مُضلّلة؛ فلا يمكن الحديث عن انتعاش اقتصادي حقيقي في ظل انبعاثات متزايدة، أو تآكل في التنوع البيولوجي، أو تهميش لفئات سكانية بأكملها.
وعلى ما سبق، فإنَّ مؤشرات النمو -مهما بدت مبشرة- تفقد قيمتها إذا لم تُترجم إلى تحول هيكلي يعيد صياغة الاقتصاد العالمي، ليكون أكثر عدالة واستدامة؛ ولذلك فإنَّ مؤسسة حماة الأرض تشدد على أنَّ التجربة الحالية تكشف أنَّ الطفرات السريعة القائمة على المضاربة التجارية قد تمنح الأسواق دفعة مؤقتة، غير أنها في الوقت نفسه تُفاقم هشاشة النظام الاقتصادي، وتؤجل الاستثمار في التحول الأخضر والابتكار الطويل الأمد.
وإنَّ بناء اقتصاد عالمي متوازن يتطلب إعادة تشكيل السياسات التجارية والمالية، لتكون قادرة على حماية الموارد الطبيعية، وضمان توزيع أكثر عدالة للثروات، وتعزيز مرونة المجتمعات في مواجهة الأزمات المناخية والاقتصادية معًا؛ لذلك يصبح إدماج الاستدامة في قلب القرارات الاقتصادية شرطًا استراتيجيًّا لبقاء الاقتصادات نفسها وقدرتها على الاستمرار في عالم تتزايد فيه التحديات يومًا بعد يوم.