ظاهرة النينا 2025.. ماذا تقول الأمم المتحدة عن عودتها وتأثيرها في المناخ العالمي؟
ظاهرة النينا 2025.. ماذا تقول الأمم المتحدة عن عودتها وتأثيرها في المناخ العالمي؟
بين تقلبات المحيطات واضطراب الغلاف الجوي، تطل من جديد ظاهرة “النينا” (La Niña) لتتصدر عناوين نشرات المناخ العالمية، مع تحذيرات الأمم المتحدة من احتمال عودتها في سبتمبر 2025. وهذه الظاهرة الطبيعية -التي ترتبط بانخفاض واسع النطاق في درجات حرارة سطح المحيط الهادئ الاستوائي- لا تأتي وحدها، بل تصحبها تغيرات ملحوظة في الرياح والضغط الجوي وأنماط هطول الأمطار.
وبالرغم من أن “النينا” الوجه المقابل لظاهرة “إلنينيو” فإن عودتها هذا العام تكتسب بعدًا مختلفًا؛ إذ تندرج في سياق عالمي يشهد ارتفاعًا قياسيًا في درجات الحرارة نتيجة التغير المناخي، لذا سوف تتناول مؤسسة حماة الأرض في هذا المقال أبعاد هذه الظاهرة، وتداعياتها على المناخ العالمي، وعلاقتها المباشرة بمستقبل التنمية المستدامة.
مفهوم ظاهرة النينا
لفهم خطورة “النينا” وتأثيرها لا بد أولًا من الوقوف عند تعريفها العلمي؛ إذ تشير المنظمة الأممية إلى أن هذه الظاهرة تمثل عملية تبريد دورية واسعة النطاق لسطح المياه في وسط وشرق المحيط الهادئ الاستوائي، ولا يقتصر الأمر على المياه فحسب، بل يرتبط أيضًا بتغيرات في الدورة الجوية المدارية، التي تشمل الرياح، وأنماط الضغط الجوي، ومستويات الأمطار.
من الناحية الفيزيائية، يمكن القول إن “النينا” تمثل الوجه الآخر لظاهرة “إلنينيو” المعروفة بتسخين مياه المحيط، وإذا كان “إلنينيو” يؤدي غالبًا إلى جفاف في بعض المناطق وأمطار غزيرة في مناطق أخرى، فإن “النينا” تأتي بنتائج عكسية، خصوصًا في المناطق المدارية. وهذه التوازنات أو التناقضات المناخية تدفع العلماء إلى اعتبار كلتا الظاهرتين جزءًا من دورة مناخية طبيعية، لكنها اليوم تحدث في سياق مختلف تمامًا بفعل التغير المناخي الناتج عن النشاط البشري.
الجدير بالذكر أن هذه التغيرات الطبيعية، التي كانت تحدث منذ قرون، لم تعد بريئة أو محايدة في تأثيرها؛ فالعالم اليوم يعيش في ظل ارتفاع مستمر في متوسط درجات الحرارة؛ مما يجعل من «النينا» حلقة جديدة ضمن سلسلة معقدة من التفاعلات المناخية، التي تفاقم الكوارث الطبيعية، وتؤثر بشكل مباشر في التنمية البشرية.
احتمالات عودة النينا
وفقًا لنشرة “Info-Niño/Niña” الصادرة عن منظمة الأرصاد الجوية العالمية، فإنَّ الظروف المناخية المحايدة -التي لم تحمل أيًّا من صفات «إلنينيو» و«النينا»- استمرت منذ مارس 2025، ومع ذلك فإن توقعات المنظمة تشير إلى أن هذه الظروف لن تدوم طويلًا؛ فمن المرجح أن تبدأ المياه السطحية في المحيط الهادئ بالانخفاض تدريجيًا خلال الأشهر المقبلة؛ مما يفتح الباب أمام ظهور «النينا» من جديد.
التوقعات الرقمية التي قدمتها المنظمة لا تحمل كثيرًا من الطمأنينة؛ إذ أشارت إلى أن احتمالية ظهور «النينا» خلال الفترة بين سبتمبر ونوفمبر تبلغ 55%، فيما ترتفع النسبة إلى 60% خلال الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 2025. وهذه النسب -وإن بدت متوسطة- كافية لإطلاق الإنذارات المبكرة، خصوصًا أن الظاهرة معروفة بتأثيراتها الواسعة في أنماط المناخ العالمي.
في المقابل، لا يزال بعض العلماء متحفظين في تأكيد هذه التوقعات؛ فإنَّ مختصَّ علمِ المحيطات والمناخ في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية (CNRS) -إريك جيلياردي- أشار إلى أن احتمال ظهور «النينا» يبقى ضعيفًا حتى الآن، وأن حسم ذلك يتطلب مزيدًا من المراقبة والدراسة خلال الأسابيع المقبلة. وهذا التحفظ العلمي يعكس طبيعة الظاهرة نفسها، التي قد تتطور بسرعة أو تتلاشى وفقًا لعوامل متعددة.
ما يثير الانتباه أن هذه التوقعات -بالرغم من أنها تحذر من عودة «النينا»- لا تنفي أن درجات الحرارة العالمية ستظل أعلى من المعدل الطبيعي. بمعنى آخر، حتى لو عاد التبريد النسبي في المحيط الهادئ، فإن الكوكب سيبقى أسير الاحترار العالمي، في معادلة معقدة لا تمنح العالم أي استراحة من الضغوط المناخية.
التأثيرات المناخية
عادة ما ترتبط «النينا» بتغيرات واسعة في أنماط الأمطار ودرجات الحرارة حول العالم؛ فحينما يمكن أن تجلب أمطارًا غزيرة إلى بعض المناطق المدارية، قد تتسبب في جفاف حاد بمناطق أخرى. وهذا التباين في التأثير يجعلها ظاهرة مزدوجة الوجه، وتحمل في طياتها فرصًا ومخاطر في الوقت نفسه.
من المتوقع أن تشهد معظم مناطق نصف الكرة الشمالي درجات حرارة أعلى من المعدل الطبيعي خلال الخريف المقبل، وكذلك الحال في أجزاء واسعة من نصف الكرة الجنوبي. أما أنماط الأمطار فسوف تكون أقرب إلى ما هو معتاد خلال فترات «النينا» ذات القوة المتوسطة؛ أي أنها قد تعزز هطول الأمطار في مناطق معينة وفي الوقت نفسه تخففها في مناطق أخرى.
وهذه التغيرات المناخية ليست مجرد أرقام في تقارير علمية، بل لها تداعيات مباشرة على الأمن الغذائي، والصحة العامة، والاستقرار الاقتصادي؛ ففي مناطق تعتمد على الزراعة بالأمطار، يمكن لأي خلل في أنماط هذه الأمطار أن يهدد المحاصيل، ويؤدي إلى تقلبات في أسعار الغذاء. أما في المناطق الأخرى التي قد تواجه جفافًا، فإن المخاطر تمتد إلى ندرة المياه، وارتفاع احتمالات اندلاع النزاعات المرتبطة بالموارد الطبيعية.
النينا في زمن التغير المناخي
لو كانت «النينا» تحدث في عالم مستقر مناخيًا فلربما بقيت تأثيراتها ضمن حدود يمكن التكيف معها، لكن المشكلة الكبرى تكمن في أنها تأتي اليوم ضمن سياق عالمي يتسم بارتفاع مستمر في درجات الحرارة، وذوبان الجليد، وتغير أنماط المواسم؛ وهو ما يجعل من كل ظاهرة طبيعية -مهما بدت تقليدية عاملًا مضاعفًا في أزمات المناخ.
تؤكد منظمة الأرصاد الجوية العالمية أن هذه الظواهر الطبيعية، سواء «إلنينيو» أو «النينا»، لم يعد يُنظر إليها بمعزل عن التغير المناخي الناجم عن النشاط البشري؛ فارتفاع درجات الحرارة العالمية يغير من طبيعة هذه الظواهر، ويزيد من حدة تأثيرها؛ وهذا يعني أن المجتمعات -خاصة الهشة منها- ستكون أكثر عرضة للخطر في حال تكرار الظاهرة.
هنا يبرز التحدي الأكبر أمام العالم: كيف يمكن للدول أن تستعد لظاهرة مثل «النينا» بينما تواجه في الوقت ذاته تداعيات التغير المناخي الشامل؟ الإجابة تكمن في تعزيز أنظمة الإنذار المبكر، وتطوير سياسات زراعية ومائية مرنة، والاستثمار في البنية التحتية القادرة على الصمود أمام الصدمات المناخية.
النينا والاستدامة
من زاوية أخرى، لا يمكن تجاهل أن ظاهرة «النينا» تقدم فرصة للتفكير بعمق في علاقتنا بالبيئة وأهمية الالتزام بأهداف التنمية المستدامة، فإذا كان الهدف الثالث عشر من هذه الأهداف يركز على العمل المناخي، فإن الاستعداد لظواهر مثل «النينا» يدخل مباشرة في صميم هذا الهدف.
والاستدامة هنا لا تعني التكيف مع التغيرات المناخية فقط، بل تعني أيضًا الحد من مسبباتها عبر تقليل الانبعاثات الكربونية، وتعزيز الاعتماد على الطاقة المتجددة. كما أنها تتطلب من الدول التعاون على مستوى عالمي؛ لأن المناخ لا يعرف الحدود السياسية، كما أن تأثيراته تطال الجميع بلا استثناء.
ظاهرة «النينا» بهذا المعنى ليست مجرد حدث مناخي عابر، بل هي جرس إنذار يدعو المجتمعات إلى مراجعة سياساتها، والتفكير في كيفية جعل أنظمتها الزراعية والمائية أكثر مرونة، وضمان أن تكون التنمية الاقتصادية متوازنة مع حماية البيئة.
وبينما يترقب العالم ما إذا كانت «النينا» ستعود بالفعل خلال الأشهر المقبلة أم لا، يبقى المؤكد أن الظاهرة -حتى إن لم تحدث- قد فتحت باب النقاش مجددًا حول هشاشة النظام المناخي العالمي أمام ضغوط الاحترار البشري، وهي تذكرنا بأن الأرض نظام مترابط، وأن أي تغير في المحيطات ينعكس سريعًا على اليابسة وعلى حياة مليارات البشر.
في النهاية، تبدو «النينا» أكثر من مجرد ظاهرة طبيعية؛ إنها مرآة تعكس لنا حجم التحديات التي يفرضها التغير المناخي، وتدعونا إلى اتخاذ خطوات أكثر جدية نحو مستقبل مستدام؛ فالمناخ -كما تعلمنا من هذه الظواهر- ليس شأنًا علميًا مجردًا، بل قضية وجودية تتعلق بقدرتنا على البقاء.
من هنا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن التعامل مع ظاهرة «النينا» وأخواتها من الظواهر المناخية لا بد أن يكون جزءًا من مشروع عالمي يضع الاستدامة في قلب التنمية، ويجعل من أهداف التنمية المستدامة خارطة طريق لإنقاذ الكوكب.