كيف نختار المنتجات المستدامة.. وهل الشهادات البيئية موثوقة دائمًا؟
كيف نختار المنتجات المستدامة.. وهل الشهادات البيئية موثوقة دائمًا؟
تشهد الأسواق الرقمية في السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في عدد المنتجات التي تُعرض تحت شعار المستدامة، سواء تعلق الأمر بالملابس أو الأدوات المنزلية أو حتى الأجهزة الإلكترونية. غير أنه خلف هذا الزخم، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا: ماذا يعني فعلًا أن يكون المنتج “مستدامًا”؟ وهل يمكن للمستهلك أن يطمئن إلى أن خياره الشرائي لا يضر بالبيئة ولا يسهم في زيادة انبعاثات الكربون؟
إن غياب تعريف موحد أو ختم عالمي واحد يحدد بوضوح معنى الاستدامة يجعل الإجابة معقدة؛ إذ تتداخل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وفي معايير متباينة تضع المستهلك أمام تحديات مستمرة لفهم حقيقة ما يشتريه، وسوف تتناول مؤسسة حماة الأرض في هذا المقال كيفية اختيار المنتجات المستدامة، وما الذي ينبغي على المستهلكين إدراكه لضمان أن خياراتهم الشرائية تسهم حقًا في مستقبل أخضر يتفق مع أهداف التنمية المستدامة.
غياب التعريف الموحد للاستدامة
عند تصفح أي موقع للتجارة الإلكترونية، من السهل أن يجد المستهلك مئات المنتجات الموصوفة بأنها “مستدامة”، إلا أن التحدي يكمن في عدم وجود جهة واحدة تعطي ختمًا موحدًا يثبت صحة هذا الادعاء؛ فالمؤسسات غير الربحية، على سبيل المثال، تتولى دراسة ممارسات الشركات والمصنعين، وتمنح شهادات اعتماد يتم عرضها على المنتجات أو في تفاصيلها الإلكترونية، غير أن هذه الشهادات تختلف من مؤسسة لأخرى، ولا يوجد كيان دولي جامع يمكن اعتباره المرجع النهائي في تقييم مصداقية هذه الشهادات.
هذا التشتت يترك المستهلك أمام مهمة شاقة، حيث يصبح مطالبًا بإجراء البحث والتحقق من صدقية الشهادات، وفهم المعايير التي تعتمدها كل جهة مانحة، ويؤكد “إلوين غرينجر-جونز”، الرئيس التنفيذي لمعهد (Cradle to Cradle Products Innovation)، أن المشكلة الجوهرية تكمن في غياب جهة مركزية مستقلة يمكنها أن تكون البوابة الرسمية لمعايير الاعتماد البيئي؛ مما يجعل السوق مفتوحًا أمام اجتهادات متعددة قد تربك المشتري بدلًا من أن تطمئنه.
وتظهر خطورة غياب المرجعية في إمكانية أن تقدم بعض الشركات شهادات “معلنة ذاتيًّا”، قد تبدو مقنعة في ظاهرها إلا أنها لا تحمل أي قيمة علمية حقيقية؛ فشراء شهادة شكلية بأموال محدودة قد يكون أسهل من الاستثمار الجدي في ممارسات تصنيع صديقة للبيئة، وهنا تتجلى إحدى أكبر تحديات تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ إذ تُضعف هذه الممارسات ثقة المستهلك وتقلل من فاعلية السوق في دفع الشركات نحو التغيير الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفوضى لا تعني أن الطريق مسدود، فهناك بالفعل برامج حكومية في بعض الدول، مثل وزارة الزراعة الأمريكية التي تمنح شهادات “عضوي”، أو وكالة حماية البيئة الأمريكية التي تعتمد معيار (Energy Star) لكفاءة الطاقة. وجود مثل هذه الشهادات الرسمية يسهم في رفع مستوى الثقة، إلا أنه يظل محدودًا جغرافيًّا وغير كافٍ لمواكبة التجارة الإلكترونية التي تتجاوز الحدود الوطنية.
التجارة الإلكترونية بين الانبعاثات والكفاءة
غالبًا ما يُنظر إلى التجارة الإلكترونية باعتبارها مصدرًا إضافيًّا للتلوث بسبب الاعتماد الكبير على التغليف والشحن، غير أن دراسات علمية، مثل تلك المنشورة في مجلة (Environmental Science and Technology)، تشير إلى أن الوضع أعقد من ذلك؛ ففي بعض الحالات، يمكن للتسوق عبر الإنترنت أن يكون أقل ضررًا من الذهاب إلى المتجر فعليًّا، خصوصًا إذا تم اختيار خيارات شحن أبطأ وأكثر كفاءة أو في حال كان المتجر البديل بعيدًا عن مكان السكن.
ومع ذلك فهذه النتيجة ليست مطلقة؛ إذ تعتمد على مجموعة من المتغيرات التي تبدأ من المنصة الإلكترونية المستخدمة، مرورًا بسرعة الشحن المطلوبة، وصولًا إلى موقع المشتري نفسه بالنسبة للمتاجر التقليدية. على سبيل المثال، خيار الشحن السريع غالبًا ما يزيد من الانبعاثات نظرًا لاعتماد شركات التوصيل على رحلات فردية بدلًا من دمج الطلبات، في حين قد يؤدي اختيار شحن موحد وبطيء إلى تقليل الانبعاثات بشكل ملحوظ.
ما مفهوم الاستدامة؟
هذا التباين يعكس حقيقة أن مفهوم الاستدامة ليس مسألة بسيطة يمكن حسمها بملصق أو شعار، وإنما هو مزيج من السياسات والخيارات والسلوكيات الفردية، وإذا ما أراد المستهلك أن يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فعليه أن يكون واعيًا لتأثير كل قرار يتخذه، من سرعة الشحن إلى نوع المنتج إلى مكان تصنيعه.
إضافة إلى ذلك، هناك جانب آخر يرتبط بمدى صمود المنتجات نفسها؛ فحتى لو تم تصنيع المنتج باستخدام مواد صديقة للبيئة، فإن قصر عمره التشغيلي يجعله في النهاية جزءًا من النفايات، وهذا ما يعكس أهمية أن تكون الاستدامة شاملة، تجمع بين كفاءة الطاقة وجودة المواد وإطالة عمر الاستخدام، بما يتفق مع الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة المتعلق بالاستهلاك والإنتاج المسئولين.
أهمية شهادات الاعتماد المستقلة
رغم تعدد المفاهيم، تظل شهادات الاعتماد المستقلة واحدة من الأدوات الأكثر فاعلية لمساعدة المستهلكين على التمييز بين الشركات الجادة وتلك التي تكتفي بالشعارات، وتوضح “كليمنتينا كونسنس”، من منظمة (B-Lab) -وهي منظمة اعتماد الشركات المستدامة عالميًّا- أن وجود طرف ثالث يمنح الاعتماد يقلل من الجهد الذي يبذله المستهلك للتحقق بنفسه من مصداقية المنتج، وهي تشدد -في الوقت نفسه- على أن هذه الاعتمادات يجب أن تكون مبنية على تقييمات علمية واضحة تشمل الأثر البيئي للشركات، من انبعاثات الغازات الدفيئة إلى استهلاك المياه والطاقة.
لكن الخطر يبقى قائمًا في ظل انتشار الشهادات المضللة التي تشتريها بعض الشركات لتظهر بمظهر المستدام دون أن يكون لديها ممارسات فعلية تحقق ذلك، وهذا ما يطلق عليه الغسل الأخضر؛ ولهذا فإن الوعي العام يصبح السلاح الأهم، حيث لا يكفي أن يرى المستهلك شعارًا أخضر أو ورقة شجر مطبوعة على العبوة ليقتنع بأن المنتج صديق للبيئة، وإنما ينبغي أن يطلب شفافية أكبر، مثل نشر الشركات لتقييمات الأثر البيئي الخاصة بها، أو تقديم بيانات كمية عن استهلاك الموارد.
الشركات الكبرى والتزاماتها المناخية
لم تقف بعض المنصات العالمية مكتوفة الأيدي أمام هذه التحديات، بل اتخذت خطوات واضحة نحو تعزيز الشفافية؛ فعلى سبيل المثال، أطلقت أمازون برنامج (Climate Pledge Friendly)، الذي يعتمد على مجموعة من شهادات الاعتماد من جهات مستقلة ويضع علامة ورقة خضراء بجانب المنتجات التي تستوفي هذه المعايير.
وبحسب ما صرحت به “نيكا ليبا” المتخصصة في الاستدامة بالشركة، فإن وجود معايير صارمة ومرتبطة بمنظمات مثل المنظمة الدولية للمواصفات (ISO) يمنح هذه الشهادات وزنًا حقيقيًا، ويؤكد على أن المنتجات لا تحصل على العلامة إلا بعد اجتياز متطلبات علمية دقيقة.
الممارسات البيئية السليمة
وما يزيد الأمر أهمية أن هذه الجهود لا تخدم البيئة فقط، وإنما تخلق أيضًا قيمة اقتصادية؛ إذ تشير بيانات أمازون إلى أن المنتجات التي تحصل على علامة (Climate Pledge Friendly) تشهد زيادة في المبيعات بنسبة 12% في العام الأول، وهو ما يعكس دورة إيجابية، حيث تؤدي الممارسات البيئية السليمة إلى مكاسب اقتصادية؛ مما يشجع المزيد من الشركات على الدخول في مسار الاستدامة.
وفي السياق نفسه، تقدم شركتا (وولمارت) و(تارجت) تقارير علنية عن التزاماتها البيئية؛ فقد أطلقت وولمارت مشروع (Gigaton) الذي يهدف إلى تقليل مليار طن من الانبعاثات عبر سلسلة التوريد، في حين تنشر “تارجت” بشكل دوري أهدافها المناخية وتوضح أين تجاوزت التوقعات وأين لم تحقق ما كان مرسومًا.
وفي الختام، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن المستهلك هو العنصر الحاسم في معادلة الاستدامة، فاختياراته اليومية تعد إسهامًا فعليًّا في رسم مستقبل اقتصادي وبيئي أكثر توازنًا، وطرح الأسئلة حول مصدر المنتجات، وشهادات اعتمادها، والسياسات البيئية للشركات، يمثل أداة ضغط حقيقية تدفع نحو الشفافية والممارسات المسئولة؛ فكل قرار شراء واعٍ يمكن أن يسهم في دفع العالم نحو نمط استهلاك أكثر مسئولية، ويعزز الجهود العالمية لمواجهة تغير المناخ.