زيارة ملك إسبانيا إلى مصر.. شراكات استراتيجية من أجل تنمية مستدامة
زيارة ملك إسبانيا إلى مصر.. شراكات استراتيجية من أجل تنمية مستدامة
شهد قصر الاتحادية حدثًا استثنائيًّا تمثل في استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي وزوجته السيدة/ انتصار السيسي -في قصر الاتحادية بالقاهرة- ملك إسبانيا “فيليبي السادس” وزوجته الملكة ليتيزيا، وذلك في أول زيارة دولة يقوم بها ملك إسبانيا إلى مصر.
وهناك كانت المراسم حافلة بالرمزية والاحتفاء، حيث عزفت الأناشيد الوطنية، وأطلقت المدفعية، واصطفت الخيول في مشهد يعكس عمق العلاقات بين بلدين يتقاطع تاريخهما في الحضارة والإنسانية.
لكن وراء هذه المظاهر البروتوكولية يكمن بُعد استراتيجي عميق؛ إذْ جاءت هذه زيارة ملك إسبانيا لتؤسس مرحلةً جديدةً في العلاقات المصرية الإسبانية، مرحلة لا تقتصر على السياسة أو الثقافة فحسب، بل تمتد لتشكل نموذجًا للتعاون من أجل التنمية المستدامة التي يمكن بها مواجهة التحديات العالمية المختلفة.
وفي هذا السياق، سوف تتناول مؤسسة حماة الأرض من خلال هذا المقال أبعادَ هذه الزيارة التاريخية، وما تحمله من دلالات على صعيد التعاون الاستراتيجي بين القاهرة ومدريد، مع التركيز على الصلة الوثيقة بين هذه الشراكة وأهداف التنمية المستدامة.
شراكة استراتيجية تؤسس للتنمية
منذ اللحظة الأولى بدَا أنَّ هذه زيارة ملك إسبانيا محطة مفصلية في مسار العلاقات بين مصر وإسبانيا؛ فقد أعرب “الملك فيليبي السادس” عن اعتزازه بزيارة مصر، مشيدًا بمكانتها الحضارية ودورها الإقليمي والدولي، فيما أكد الرئيس السيسي حرصَ القاهرة على مواصلة دعم الشراكة الاستراتيجية التي أُعلنت في فبراير 2025. وتجلّى هذا الحرص في مناقشة مجالات واسعة للتعاون، شملت الاقتصاد، السياحة، التعليم، والنقل، وصولًا إلى حماية التراث والآثار.
والأهم من ذلك هو التلاقي على أرضية التنمية المستدامة؛ فالتحديات التي تواجهها مصر وإسبانيا متشابهة في كثير من جوانبها، من تغير المناخ إلى الأمن الغذائي، ومن التحديات الاقتصادية إلى إدارة الموارد الطبيعية.
ومِن هنا جاءت “اتفاقية الشراكة من أجل التنمية 2025 – 2030“، التي وُقعت خلال زيارة ملك إسبانيا لتكون إطارًا عمليًّا لترجمة هذه الرؤية المشتركة إلى واقع عملي. وهذه الاتفاقية ليست مجرد وثيقة تعاون ثنائي، بل إعلان مشترك لإرادة بلدين في أنْ يصبحَا جزءًا من الحلول العالمية للتحديات التنموية.
زيارة ملك إسبانيا إطار جديد للتعاون الأخضر
إنَّ توقيع اتفاقية الشراكة بين وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي الدكتورة/ رانيا المشاط ووزير الخارجية الإسباني “خوسيه مانويل ألباريس” يمثل نقطة تحول في مسار التعاون المصري الإسباني؛ لأنَّ البرنامج الجديد يضع على رأس أولوياته التحولَ الأخضر، مكافحةَ التغير المناخي، تعزيزَ الأمن الغذائي، تمكينَ المرأة، وتطويرَ مشروعات المياه والصرف الصحي.
هذا النهج يعكس إدراكًا متزايدًا من البلدين بأنَّ التنمية الحقيقية لم تعد تقاس بحجم الاستثمارات أو معدل النمو الاقتصادي فقط، بل بمدى توافق السياسات والبرامج مع أهداف التنمية المستدامة؛ لذلك نصَّت الاتفاقية على تبني آليات للمتابعة والتقييم الدوري لضمان أن ما يتم تحقيقه على الأرض يترجم فعلًا إلى تقدم في مؤشرات التنمية العادلة والمستدامة.
ويبرز في هذا السياق البعد المبتكر للاتفاقية، فهي الأولى من نوعها التي تطلقها الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية (AECID) على مستوى العالم، بما يجعل مصر شريكًا نموذجيًا لإسبانيا في صياغة تجربة جديدة من التعاون التنموي، الذي يتجاوز الثنائية ليشمل التعاون الإقليمي والدولي.
رؤية مشتركة نحو الاستدامة
وقد أكدت الدكتورة/ رانيا المشاط -وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي- أنَّ توقيع اتفاقية الشراكة من أجل التنمية بين مصر وإسبانيا يمثَّل نقطة تحول نوعية في مسار العلاقات الثنائية، حيث تُجسِّد الاتفاقية التزام البلدين بدفع جهود التنمية المشتركة على أسس من التكافؤ والتعاون المتوازن.
وكذلك أوضحتِ المشاطُ أنَّ هذه الشراكة لا تقف عند حدود المصالح الاقتصادية التقليدية، بل تضع إطارًا توجيهيًا للتعاون في قضايا استراتيجية تمثل أولوية للطرفين، مثل التغير المناخي، الأمن الغذائي، تمكين المرأة، وإدارة المياه.
وأضافت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي أنَّ الاتفاقية هي الأولى من نوعها للوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية على مستوى العالم، وهو ما يعكس المكانة الخاصة التي تحظى بها مصر باعتبارها شريكًا استراتيجيًّا لإسبانيا في المنطقة.
وأشارت إلى أن البرنامج يتسق مع “رؤية مصر 2030” ومع أهداف التنمية المستدامة؛ لأنه يعتمد على آليات تنفيذية متنوعة، وتشمل البرامجَ الثنائية، التعاونَ الثلاثي، والدعمَ الفني؛ تعزيزًا لتبادل الخبرات، وتوسيعًا لنطاق الفائدة المشتركة.
كما شددت الدكتورة/ رانيا المشاط على أنَّ الاتفاقية لا تقتصر على الجانب الحكومي فحسب، بل تسعى إلى فتح آفاق واسعة أمام المجتمع المدني والقطاع الخاص؛ من أجل المشاركة في بناء نموذج تنموي متجدد، وقائم على الابتكار والاستدامة.
ثم أوضحت أنَّ هذه الخطوة تأتي في لحظة فارقة، حيث تتقاطع أولويات مصر وإسبانيا في مواجهة التحديات العالمية، وعلى رأسها آثار تغير المناخ، والهجرة غير النظامية، والأزمات الاقتصادية العالمية.
شراكة من أجل السلام والتنمية
في سياق متصل جاء لقاء وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج -الدكتور/ بدر عبد العاطي- مع نظيره الإسباني “خوسيه مانويل ألباريس” ليؤكد متانة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين؛ فقد ثمَّن وزيرُ الخارجية المصري الزيارةَ التاريخية لملك وملكة إسبانيا، مشيرًا إلى أنها تمثل انعكاسًا لعمق العلاقات الثنائية، وإلى الدعم الإسباني المستمر لمصر داخل الاتحاد الأوروبي، خاصةً في القضايا المرتبطة بتحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين.
كما أبرز الوزيرُ أهميةَ انخراط الشركات الإسبانية في مجالات الطاقة والهيدروجين الأخضر، معتبرًا ذلك خطوة عملية تعكس التوجه المشترك نحو الاقتصاد الأخضر، بما ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة. وأكد أنَّ التعاون بين البلدين يمتد ليشمل مجالات التعليم، السياحة، والهجرة، وهي ملفات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتنمية البشرية والاستقرار الاجتماعي.
فلسطين صوت مشترك للعدالة
لم يكن الملف الفلسطيني بعيدًا عن قلب المباحثات بين الجانبين، حيث أكد الرئيس السيسي و”الملك فيليبي السادس” التزامهما بضرورة التوصل إلى سلام عادل قائم على حل الدولتين، رافضينِ كل محاولات تهجير الشعب الفلسطيني أو تصفية قضيته. وتوقف الرئيس السيسي مطولًا عند جهود القاهرة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وإعادة إعمارها، فيما عبَّر ملك إسبانيا عن تقديره لهذه الجهود.
هذا التوافق يعكس بعدًا آخر من أبعاد الاستدامة؛ إذْ إنَّ السلام العادل والأمن الإقليمي هما شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، فلا يمكن الحديث عن تنمية أو استثمار في ظل نزاعات مسلحة أو تهديدات وجودية للشعوب.
وفي هذا الإطار، يشكل الموقف الإسباني الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني مثالًا على التقاء القيم الأخلاقية مع متطلبات التنمية، حيث إن العدالة والسلام هما الركيزة السابعة عشر لأهداف التنمية المستدامة.
الاقتصاد الأخضر ومشروعات المستقبل
إلى جانب السياسة والقضية الفلسطينية، كانت ملفات الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة في صميم المباحثات، حيث رحبت القاهرة بانخراط الشركات الإسبانية في مشروعات الطاقة، لا سيما إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يمثل أحد المفاتيح الاستراتيجية لانتقال العالم نحو اقتصاد منخفض الكربون. كما أُثير التعاون في قطاع النقل، باعتباره شريانًا للتنمية المستدامة، ومساعدًا على تقليل الانبعاثات، وشديدَ الإسهام في تسهيل حركة التجارة.
ولم يغب البعد الثقافي عن هذه المعادلة؛ فالتعاون في مجال الآثار والتراث يعكس أن التنمية ليست مجرد أرقام اقتصادية، بل تشمل حماية الهوية والحضارة الإنسانية المشتركة. ومن خلال نحو 13 بعثة أثرية إسبانية تعمل في مصر، يتجسد نموذج آخر للتعاون الثقافي والعلمي، الذي يخدم الحاضر والمستقبل.
نحو مستقبل مشترك قائم على الاستدامة
في ختام الزيارة، كان واضحًا أن العلاقات المصرية الإسبانية دخلت مرحلة جديدة من التفاعل، لا تقتصر على الكلمات الدبلوماسية أو البروتوكول، بل تُترجم إلى التزامات ومشروعات على الأرض؛ لأنَّ الاتفاقيات الموقعة، والمواقف المشتركة تجاه التحديات الإقليمية والدولية، تمثل جميعها خطوات ملموسة نحو بناء شراكة تتجاوز الثنائية، لتصبح جزءًا من الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إنَّ زيارة ملك إسبانيا التاريخية ليست فقط تجسيدًا لعلاقات صداقة ممتدة، بل هي أيضًا إعلان واضح عن إرادة بلدين في أن يكونَا فاعلينِ في صياغة مستقبل أكثر عدالة واستدامة. وفي عالم يواجه تحديات متزايدة من التغير المناخي إلى الأزمات الاقتصادية والنزاعات المسلحة، تأتي هذه الشراكة لتؤكد أن التعاون الدولي المستند إلى القيم المشتركة هو الطريق الأمثل لمواجهة تلك التحديات.
ومِن هنا تؤمن مؤسسة حماة الأرض بأنَّ بناء جسور التعاون بين الشعوب ليس خيارًا، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الأجيال القادمة في عالم أكثر استدامة وتوازنًا، عالم تُصان فيه البيئة، وتُحترم فيه العدالة، ويُحتفى فيه بالتنوع الحضاري والإنساني.