التعدين البيولوجي.. زراعة المعادن بدلًا من استخراجها من الجبال

التعدين البيولوجي.. زراعة المعادن بدلًا من استخراجها من الجبال
بينما يستمر الطلب العالمي بشكل متزايد على المعادن بمختلف أنواعها -بفعل التوسع في العديد من التطبيقات الحديثة مثل الطاقة المتجددة والتقنيات الرقمية- تعاني الأرض من آثار مدمرة؛ بسبب أساليب التعدين التقليدية المتبعة منذ عقود؛ إذْ تتسبب هذه الأساليب في تدمير الأنظمة البيئية، وتلويث المياه والهواء، وتهديد المجتمعات المحلية.
لكن هناك ثورة علمية هادئة تنمو في المختبرات والحقول للتصدي لمخاطر التعدين التقليدي، ثورة توظف النباتات والفطريات والبكتيريا لاستخراج المعادن من التربة الملوثة ومن المخلفات الصناعة، وهذا لا يمثل مجرد تقنية مبتكرة، بل رؤية جديدة للعلاقة بين الإنسان والموارد الطبيعية بشكل يضمن تحقيق التنمية المستدامة.
ما التعدين البيولوجي؟
يعتمد التعدين البيولوجي (Biomining) والمعالجة الحيوية (Bioremediation) على استخدام كائنات حية لامتصاص أو تحويل المعادن والملوثات إلى مواد مفيدة أو أقل ضررًا، فبينما تعتمد تقنيات التعدين التقليدي على تفجير الجبال والكهوف، واستنزاف كميات ضخمة من موارد الطاقة والمياه، يعمل التعدين الحيوي بصمت، مستفيدًا من قدرات الكائنات الدقيقة والنباتات لتفكيك الروابط الكيميائية التي تحجز المعادن داخل التربة.
ولكن يا تُرى ما هذه النباتات؟ تُعرف بعض الأنواع النباتية باسم “Hyperaccumulators” أو المراكمات المفرطة؛ وهي نباتات قادرة على النمو في التربة أو الماء حتى عند وجود تركيزات عالية جدًّا من المعادن، حيث لديها القدرة على امتصاص كميات كبيرة جدًّا من المعادن الثقيلة مثل النيكل، الزنك، الكوبالت وحتى العناصر المشعة.
المدهش في الأمر أن بعض هذه النباتات يستطيع أن يجمع في جذوره وأوراقه ما يصل إلى 2% من وزنه في صورة معدن نقي؛ مما يعني أنه يمكننا حصاد هذه النباتات، ثم تجفيفها وحرقها؛ لاستخلاص المعادن من رمادها في عملية تُعرف بالتعدين النباتي – Phytomining.
في هذا السياق، بدأت بعض الشركات -مثل الشركة الفرنسية جيو ماينز Genomines – بالاستثمار في هذه النباتات، وهذا عن طريق تعديلها وراثيًّا لزيادة قدرتها على امتصاص النيكل، وقد جمعت الشركة مؤخرًا استثمارًا بقيمة 45 مليون دولار؛ وهو ما يعكس الثقة المتزايدة في مستقبل هذا القطاع.
ماذا عن الفطريات والبكتريا؟
لا يقتصر هذه التوجه الثوري الجديد على النباتات فقط، فالفطريات -بقدرتها على تحليل المواد العضوية والمعادن- تؤدي دورًا مركزيًّا في استرداد المعادن من المخلفات الصناعية ومواقع التعدين المهجورة.
وإنَّ أنواعًا مثل الرشاشية السوداء (الاسم العلمي: Aspergillus niger)، والبنسليوم سيمبليسيموم (الاسم العلمي: Penicillium simplicissimum) قد أظهرت قدرةً على استخلاص النحاس والقصدير بنسبة 65%، ومعادن أخرى مثل الألومنيوم والنيكل والزنك بأكثر من 95% في بيئات مختبرية.
في حين أنَّ بعضَ أنواع البكتيريا مثل الأسيدثيوباسيلوس (الاسم العلمي: Acidithiobacillus) والليبتوسبيرليم (الاسم العلمي: Leptospirillum) يمكن أن تُستخدم في الترشيح الحيوي (Bioleaching)، وهي عملية استخراج المعادن من الخامات أو النفايات الصلبة، وتحويل المركبات المعدنية التي لا تذوب إلى أشكال قابلة للذوبان في الماء، دون حاجة إلى عمليات تفجير أو طحن أو استخدام كيماويات سامة، كما في عمليات التعدين التقليدية.
اللافت أن هذه الكائنات لديها قدرة على العيش في البيئات القاسية، بالإضافة إلى قدرتها على تعديل التركيب الكيميائي للمخلفات، بحيث تُصبح المعادن سهلة الاستخلاص، أو في بعض الحالات تُثبِّت المعادن الخطرة وتَحول دون تحللها لتقليل أثرها البيئي.
لماذا هذه التقنيات مهمة الآن؟
- أزمة المعادن الحيوية
مع تزايد الطلب العالمي على معادن مثل النيكل والكوبالت والليثيوم -وهي معادن ضرورية لصناعة البطاريات وتطبيقات الطاقة النظيفة- أصبح تأمين مصادر جديدة أولويةً استراتيجيةً، غير أنَّ الاعتماد على دول بعينها -مثل الصين وإندونيسيا- لتأمين هذه الموارد يُهدد الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي؛ لذا فالتعدين البيولوجي يُقدم حلًّا أكثر مرونة واعتمادية.
- البيئة تدفع الثمن
التعدين التقليدي مسئول عن إزالة الغابات، وتلويث المياه، وتوليد انبعاثات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، في حين أنَّ التعدين البيولوجي لا يتطلب سوى القليل من الطاقة، ولا يتطلب أيَّ عمليات تفجير أو حفر، كما لا تنتج عنه نفاياتٌ خطرة.
- مواقع ملوثة وفرص مهدورة
من مواقع المناجم المهجورة إلى التربة الصناعية الملوثة، نجد أنَّ هناك ملايين الأطنان من المعادن التي لا تُستغل، وهنا يمكن للتعدين البيولوجي أنْ يفتح الباب أمام استرداد هذه المعادن، وتحويل عبء التلوث إلى فرصة اقتصادية.

هل التعدين الحيوي قادر على المنافسة؟
بالرغم من أنَّ بعض تقنيات التعدين الحيوي ما تزال في مراحل البحث أو التطوير، فإنَّ كثيرًا منها أصبح قريبًا جدًّا من تحقيق الجدوى الاقتصادية، خاصةً مع ارتفاع أسعار المعادن. ولا شك أنَّ التكلفة الأولية قد تكون أعلى قليلًا، لكن عند احتساب التكاليف الاجتماعية والبيئية والمناخية، فإنَّ الكفة تميل بوضوح لصالح الحلول الحيوية مقارنة بالحلول التقليدية، كما أنَّ أبحاثَ الهندسة الوراثية وتعديلَ الجينات يُستخدمانِ حاليًّا لرفع كفاءة النباتات والفطريات والبكتيريا، وتوجيهها لامتصاص عناصر محددة، مثل الفوسفور أو الكوبالت.
وفي خضم هذا العالم الذي تتزايد فيه التحديات الاقتصادية والبيئية، تبدو تقنيات التعدين البيولوجي والمعالجة الحيوية أكثر من مجرد بدائل للتعدين التقليدي؛ إنها أدوات لإعادة تخيل الطريقة التي نحصل بها على الموارد بشكل مستدام؛ مما يعني أنَّ استثمارًا ذكيًّا اليوم في هذا المجال قد يُعيد رسم مستقبل الموارد والصناعات، ويحوِّل النفايات والملوثات من مشكلات إلى موارد واعدة.
مِن هنا فإننا في مؤسسة حماة الأرض نؤمن بأنَّ مستقبل الإنسان والكوكب مرهونانِ بقدرتنا على الإصغاء إلى الطبيعة والعمل معها، لا ضدها؛ لذا فإنَّ ما تكشفه تقنيات التعدين البيولوجي والمعالجة الحيوية من حلول صناعية مستدامة لم تعد مجرد حلم بيئي، بل خيار علمي واقتصادي قابل للتنفيذ، وقادر على إصلاح ما أفسدته قرون من استنزاف الموارد وتلويث البيئة.





