التعليم إبداع وموهبة
التعليم إبداع وموهبة
نصَّتِ الأممُ المتحدةُ في تعريفها لهدف التعليمِ –باعتباره أحدَ أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر– على أنه المفتاح الذي يمكِّن الأفراد من تحقيق تلك الأهداف؛ فالتعليمُ يؤدي دورًا عظيمًا في ازدهار ورفعة الشعوب، الأمر الذي يبرر الاهتمام المستمر به.
إنَّ الجميعَ في كل أرجاء المعمورة يتصارعون لتحقيق النجاح في جميع مناحي الحياة، وهو أمر في جوهرهِ حميدٌ! ولكنَّ معاييرَ النجاح والتفوق أصبحت مختلةً بشكل مزعج، فنحن نرسل أطفالنا إلى المدارس -باختلاف أنواع التعليمِ الحكوميّ، أو الخاصّ، أو الدوليّ- متوقعينَ أنَّ اختياراتنا هي الأفضل، غير أننا نقتل إبداعهم وقدراتهم –مع الأسف- على الابتكار بشكل يوميّ.
فالعديد من قادة الفكر في مجال التعليمِ يتفقون على أنَّ أنظمةَ التعليمِ القائمة -التي وُضِعَتْ لبنتُها الأساسيةُ في العصر الصناعيّ- تقوم بشكل مباشر على إغفال أنَّ الذكاءَ والنبوغَ والإبداعَ متنوعٌ ومتفاوتٌ ومختلفٌ بشكل عميق؛ مما يجعل فكرةَ وضع مناهج موحدة وطرق تقييم تعتمد على وضع إجابة “نموذجية” أمرًا بالغَ السوءِ! قد تُصنف على أنها عملية غير إنسانية، يجور فيها القائمون على المنظومة التَّعليمية على الطالب في مراحل الدراسة الأولى، بتقويض إبداعه، ووضع قيود لتفكيره، واستبعاد أي مجال لتقديم حلول جديدة مبتكرة؛ لأنَّ هناك -ببساطة- إجابةً نموذجيةً.
إضافةً إلى أنَّ أغلبَ المحتوى يعتمد على الحفظ وتَذَكُّرِ النَّصِّ عن ظهر قلب، دون النظر إلى ما يتعلمه الطفل حقًّا، وربط ما يتعلمه بحياته اليومية والعملية. فبتجربة بسيطة سنجد أنَّ معظمَ المحتوى لا يتذكره الطفل بعد مدة قصيرة من الزمن، ومع الأسف فإنَّ نتيجة الاختبارات “أداة التقييم المعتمدة” التي تعد طريقةً غير صحية، تخلق ثقافةً لدى المجتمع بأنَّ التعلمَ مرتبطٌ بالدرجات! على الرغم من أنَّ التعلمَ مرتبطٌ بالتطبيق العمليّ، والقدرة على التطوير والإبداع، وتقديم فكرة جديدة ذات قيمة؛ وهو –بالتأكيد- ما لايحدث.
بداية المشكلة التَّعليمية وأثرها
تتشكَّل حياةُ الطفلِ وتركيبتُه النفسيةُ -بصورة كبيرة- من خلال ما يحدث في حياته المدرسية، التي تحكمها قدرته على اتباع التَّعليمات، ومكافئته على طاعة الأوامر وفعل ما يُطلب منه بالضبط. وتُشكل رؤيته لمستوى ذكائه وثقته في تفكيره مجموعةٌ من علامات الصواب والخطأ، وأنظمة تقييم عقيمة لا تعكس -بكل تأكيد- قدرات الطفل الإبداعية؛ أطفالنا لا يحصلون -بكل تأكيد- على فرصة لتطوير مهاراتهم الإبداعية في ظل هذه الأنظمة.
إنَّ أنظمةَ التعليمِ القائمة -مع الأسف- تتجاهل تمامًا حقيقةَ أنَّ البشرَ مختلفون، وأنَّ هناك فروقًا فرديةً تحكم -بشكل كبير- على قدراتنا التحصيلية؛ فالأنظمة الموحدة تتعامل علَى أساس أنَّ كلَّ الأطفال عليهم أنْ يستوعبوا محتوىً موحدًا في الوقت نفسه، وبطريقة الشرح نفسها، وأنَّ عليهم أنْ يُظهروا درجةَ الاهتمام نفسها، وهو ما لا يمكن حدوثه؛ فاختلاف الطفل يمثل شكلًا من أشكال التخلف أو التأخر، وقد يتم اعتبار الطفل فاشلًا، في حين أنَّ كلَّ ما يحتاج إليه هو مزيد من الوقت -للحاق بالآخرين- أو أسلوب شرح مختلف.
إضافةً إلى أنَّ الأنظمةَ القائمةَ لا تساعد الأطفالَ في العثور على شغفهم، وتنمية هذا الشغف بشكل أفضل؛ فالعديد من الأطفال ذوي الموهبة الفنية أو الرياضية يتعثرون في النظام المدرسيّ التقليديّ، لأنَّ الأنظمةَ التعليمية الحاليةَ لا تملك معاييرَ لقياس مواهب الأطفال ونبوغهم، وإنما ينظر عوام البشر إلى الأمر -في أغلب الأوقات- على أنَّ هذه الموهبة أمرٌ معرقِلٌ، يعوق الطفل عن التركيز لتحصيل المطلوب منه في أنظمة جامدة لا تعترف بوجود اختلافات وتباينات بين البشر، وتعزل الموهبةُ الطفلَ عن الآخرين؛ لشعوره بأنه مختلف.
التغيير لتحقيق الهدف المنشود
نحن في حاجة إلى تغييرات جوهرية، بدايةً من تغيير ثقافة التعليمِ، والاستثمار في القائمين على مهنة التعليم، وإدراك متطلبات الأسواق والفرص المتاحة، وإدراك أنَّ التعليم يجب أنْ يستند إلى أُطُرٍ تؤمن بأنَّ المطابقةَ أمر مخل؛ لأنَّ البشرَ مختلفون، ولهم اهتمامات متنوعة ومتباينة. وبوضع إطارات ضيقة لتقييم النجاح -بدلًا من وضع مجالات تتيح الابتكار والإبداع- فإننا نَئِدُ كلَّ موهوبٍ ومبدعٍ، فالتعليمُ -بشكله الصحيح- يجب أنْ يعطي مساحاتٍ متساويةً للعلوم، الفنون، العلوم الإنسانية والتربية البدنية. ومن المؤكد أنْ يحدث ذلك دون مُعلم شغوف يؤمن بدوره العظيم في بناء المجتمع، من خلال تحقيق الهدف الأسمى، وهو التعلم.
وهنا وجب التفريق بين التعليم والتعلم، فالتعليم هو السبيل إلى التنمية الذاتية، وهو طريق المجتمعات إلى مستقبل أفضل، والتعليم سبب والتعلم نتيجة؛ فالهدف الرئيس هو التعلم. فالتعليم يؤدي إلى تغيير دائم في السلوك، نتيجة المكتسبات المعرفية التي تساعد على تطوير الفرد؛ وبالتالي تطور المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ التعليم مهنةٌ إبداعيةٌ لا تقوم على التلقين، فدور المعلم أعظم من هذا بكثير، فهو المرشد والمحفز، وفي بعض الأحيان الأب الروحيّ للطالب؛ وإذًا يجب أنْ يتمكن المعلم من التفريق بين كونه ينجز المهمة أو كونه يحقق الهدف، فالهدف الحقيقيّ هو أنْ يتعلمَ الطالبُ، فالمعلم قد ينجز مهمة شرح الدرس، ولكنه لا يقوم بالهدف المطلوب، وهو التأكد من أنَّ الطالبَ قد تعلم.
محاور التغيير
حتى يتثنَّى لنا تحقيق التغييرات المطلوبة نحتاج إلى إدراك عميق لاحتياجات العالم الحقيقيّ من حولنا، نحتاج إلى النظر إلى الفرص المتاحة في سوق العمل وقدرات الكوادر -خبراتهم وإمكانياتهم الثقافية والإبداعية- نحتاج إلى تغيير مفاهيم المجتمع عن التعليمِ بأشكاله المختلفة، عن معطياته ومخرجاته والهدف منه.
فعلينا خلق مناخ يشجع على التمكين الإبداعيّ للأطفال والشباب، من خلال تشريعات يُتيح بها القائمون على المنظومة التَّعليمية الفرصَ المناسبةَ والظروفَ الملائمةَ للنمو والازدهار. وعلينا أيضًا إعطاء مكانة عالية جدًّا للقائمين على مهنة التعليمِ؛ فدون اختيار أشخاص مبدعين يقومون بالعملية التَّعليمية، والاستمرار في دعم تطورهم المهنيّ، والاستثمار في هذا التطوير – لنْ يتحقق الهدف المنشود، وهو التعلم.
يتحقق إحداث تغيير في المنظومة التَّعليميةِ حين ندرك أنَّ التعليم ليس نظامًا آليًّا، وإنما عملية شديدة الفردية، هدفها مساعدة الطالب في جميع مراحل التعليمِ، من خلال مساعدته للعثور على شغفه ونقاط تميزه، ودعمه بشكل فرديّ شديد. الاهتمام بالإبداع بنفس قدر اهتمامنا بتعلم القراءة والكتابة؛ فالأطفال يزدهرون -بشكل أفضل- مع مناهج دراسية أكثر شموليةً، تحتفي بمواهبهم المتباينة والمتنوعة. إضافةً إلى أنَّ تصميمَ مناهج دراسية تثير فضول الطفل، وتحفزه لتعلم المزيد لهو أمر بالغ الأهمية.
وعلينا أيضًا أنْ نعمل -بصورة جادة- لتغيير ثقافة المجتمع نحو التعليمِ المهنيّ والفنيّ، وتقبل أشكال التعليمِ؛ الأمر الذي سيساهم -بشكل فعَّال- في تنمية المجتمع.
وأخيرًا، نحن في حاجة إلى تأمل مفاهيمنا -باعتبارنا مجتمَعًا وأصحابَ أعمالٍ ومتخذي قرار- في معنى ومفهوم الذكاء والنبوغ الإبداعيّ والابتكاريّ؛ الأمر الذي سيؤدي إلى اللحاق بالرَّكْبِ، وتحقيق أهداف الدولة؛ ومِن ثَمَّ تحقيق رؤية مصر ٢٠٣٠.