علوم مستدامة

عدم المساواة في الصحة: أزمة عالمية تقصر الأعمار وتعيق التنمية

الصحة

عدم المساواة في الصحة: أزمة عالمية تقصر الأعمار وتعيق التنمية

بين حين وآخر تُفصح البيانات العالمية عن مدى الجهود المبذولة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في كثير من القطاعات، سوى أنَّ الطريق لا يزال طويلًا أمام تحقيق إنجازات ملموسة في مجال الصحة؛ أكثر أهداف التنمية المستدامة أهميةً.

وذلك لأنه يمكن أنْ يصبح يوم ولادتك أو لون بشرتك أو مستوى تعليم والديك مؤثِّرًا من المؤثرات التي تتقاطع مع صحتك ومدى سلامتك الجسدية مع كل عام تعيشه! وهذا ليس خيالًا ولا مبالغة، بل حقيقة موثَّقة بأرقام صادمة تكشفها تقارير رسمية صادرة عن منظمة الصحة العالمية.

وانطلاقًا من هنا سوف تتناول حماة الأرض في هذا المقال أوجه انعدام المساواة الصحية، وهي الأوجه التي تعرقل مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فضلًا عن علاقتها المباشرة بحرمان الملايين من سنوات كان من الممكن أنْ تكون مفعمة بالحياة والإنتاج؛ فتابعوا قراءة المقال.

جذور الأزمة الصحية

يبدو أنَّ الطريق إلى الصحة الجيدة لا يمر عبر المستشفيات والعيادات فقط، بل يبدأ من مكان الإقامة، ونوع التعليم، وفرص العمل اللائق. وعن ذلك يوضح تقرير عالمي حديث صادر عن منظمة الصحة العالمية أنَّ الأسباب الجوهرية لاعتلال الصحة في العالم ليست بالضرورة أسبابًا عضوية أو طبية، فقد تكون أسبابًا اجتماعية في جوهرها؛ أي تتعلق بمدى تحقيق المساواة في الحصول على خدمات صحية ملائمة، وهذا منذ الولادة حتى الوفاة.

ويشير التقرير إلى أنَّ هذه “المحددات الاجتماعية للصحة” مسئولة عن تقليص متوسط العمر المتوقع في بعض الدول بما يصل إلى 33  عامًا، وهذا مقارنةً بالدول الأكثر عدلًا في قطاعها الصحي. وهنا يظهر بوضوح الصدع الموجود في جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، لا سيما الهدف رقم (3) الصحة الجيدة والرفاه.

عندما تكون الولادة حكمًا صحيًّا

تؤكد منظمة الصحة العالمية أنَّ الفجوات في العمر المتوقع تعكس -بعيدًا عن الاعتبارات البيولوجية- درجات من الحرمان الاجتماعي والتمييز؛ فالصحة تتبع -وفق التقرير-  “سلمًا اجتماعيًّا”، وكلما كان الفرد في أدنى درجات هذا السلم تضاءلت فرصته في أنْ يحيا حياة صحية.

ولذلك فإنَّ كثيرًا من الشعوب الأصلية -على سبيل المثال- تموت في أعمار صغيرة، وتحصل على تعليم أقل جودة، مع دَخْلٍ متدنٍّ، وصحة سيئة؛ والسر وراء هذا هو أنَّ هذه الشعوب تسكن -غالبًا- مناطق حساسة بيئيًّا كالسواحل والجبال والغابات، وتعتمد في معايشها على ممارسات تقليدية؛ مما يجعلها -وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة– أكثر عرضة للتأخر والتهميش في جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصةً تلك الجهود المتعلقة بالصحة.

وفي هذا الصدد يقول المدير العام لمنظمة الصحة الدولية -الدكتور/ تيدروس أدهانوم جيبريسوس- في تصريح صادم: «المكان الذي نولد ونترعرع ونعيش ونعمل ونشيخ فيه يؤثر بشكل كبير في صحتنا ورفاهنا». وتصريحه هذا يُعد دعوة واضحة لاتخاذ قرارات سياسية جريئة تعالج هذه المحددات بدلًا من الاكتفاء بالمسكنات الصحية.

الأطفال أول الضحايا والنساء في الواجهة

في قلب الأزمة تظهر مأساة الأطفال في البلدان الفقيرة، حيث يكونون أكثر عرضة للوفاة قبل سن الخامسة بـ13  مرَّة مقارنةً بأقرانهم في الدول الغنية. وهذه الأرقام التي وثقتها منظمة الصحة العالمية تُشير إلى إمكانية إنقاذ 1.8  مليون طفل -سنويًّا- عبر سد فجوات العدالة الصحية.

إنَّ الكارثة لا تخص الأطفال فحسب، فحتى الأمهات يُعانينَ! فإنه على الرغم من أنَّ معدل وفياتهنَّ قد انخفض -عالميًّا- بنسبة 40% من سنة 2000 إلى سنة 2023؛ فإنَّ 94% من هذه الحالات تُوجَدُ في الدول الفقيرة أو المتوسطة الدخل، خصوصًا بين النساء اللواتي يواجهن ظروف التهميش وعدم التمكين.

وفي بعض الدول ذات الدخل المرتفع يُسجَّلُ تباينٌ واضحٌ، حيث ترتفع معدلات وفيات الولادة بين نساء الشعوب الأصلية ثلاث مرَّات مقارنة بغيرهنَّ. ويرتبط هذا التباين بغياب المساواة بين الجنسين، وزواج الأطفال، وضعف الحماية الاجتماعية، وعدم المساواة في الصحة وخدماتها.

حلقة الانهيار الاجتماعي والصحي

يربط التقرير العالمي بين ارتفاع عدم المساواة الصحية والتدهور البيئي والاقتصادي؛ فإنَّ تغير المناخ -وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية- قد يدفع بين 68 و135 مليون إنسان إلى الفقر المدقع في السنوات الخمس المقبلة؛ مما يؤدي إلى تدهور أكبر في الصحة والفرص الحياتية.

ومن جهة أخرى، فإنَّ 3.8  مليار إنسان حول العالم يفتقرون إلى الحماية الاجتماعية الأساسية، مثل إجازات الأمومة والمرض. ومما يزيد الطين بلَّة أنَّ الفوائد التي تدفعها أفقر 75 دولة في العالم تضاعفت أربع مرَّات في العقد الماضي بسبب ارتفاع الديون؛ وهو أمر يُقيد قدرات الحكومات ويمنعها من الاستثمار في الصحة والعدالة الاجتماعية.

إذن، يتضح أنَّ الأزمة الصحية تعكس انهيارًا في أنظمة التعليم والعمل والعدالة والبيئة في كثير من البدان، وهو ما يتطلب إعادة بناء شامل لكل منظومة التنمية البشرية العالمية، بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، خاصةً الهدف رقم (1) القضاء على الفقر، والهدف رقم (5) المساواة بين الجنسين، والهدف رقم (10) الحد من أوجه عدم المساواة.

دعوة للتغيير الجذري

في ختام تقريرها دعت منظمة الصحة العالمية الحكومات إلى تغيير شامل في سياساتها، من خلال التركيز على العدالة الاقتصادية، والاستثمار في الخدمات العامة، وإزالة كل مظاهر التمييز، والاستجابة لأزمات المناخ والنزاعات والهجرة القسرية. ولفتت الانتباه إلى أنَّ الحوكمة الفعالة، وتوزيع الموارد محليًّا، وتمكين المجتمعات؛ كلها خطوات يمكن أن تُحدث فارقًا حقيقيًّا في تحسين الخدمات الصحية على نحو متساوٍ وعادل.

وهذه الدعوة تتقاطع مباشرةً مع رؤية حماة الأرض التي ترى أنَّ العدالة الصحية حجر الزاوية في جهود تحقيق التنمية المستدامة الشاملة؛ إذْ إنَّ بناء أنظمة صحية عادلة لا يتطلب أطباء ومعدات فحسبُ، وإنما يتطلب شجاعة سياسية، وشبكات حماية اجتماعية، ومجتمعات قوية قادرة على المشاركة والتغيير.

ومن هنا، فإننا في حماة الأرض نؤمن بأنَّ العمل من أجل العدالة الصحية هو عمل من أجل تحقيق السلام، وتوفير البيئة الآمنة، وبناء المجتمع المتكافئ؛ ولذلك ندعو إلى تفعيل أهداف التنمية المستدامة في الصحة وجميع مناحي الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى