كيف نواجه الفيضانات في عصر التغير المناخي؟

كيف نواجه الفيضانات في عصر التغير المناخي؟
في مساء الثالث من يوليو كانت مدينة كيرفيل في ولاية تكساس تنعم بسكون صيفي، ولم تكن هناك أمطار تُذكر منذ منتصف يونيو، وكانت مياه نهر جوادالوبي بالكاد تصل إلى أربع بوصات، ولم يتخيل سياح المخيمات الترفيهية -الذين اختاروا مواقعهم بجوار النهر- أنَّ هدوء المياه قد يتحول خلال ساعات إلى كارثة طوفانية.
لكن في الساعات الأولى من صباح الرابع من يوليو تغيّر كل شيء، حيث أطلقت أجهزة الأرصاد الجوية تحذيرات عاجلة من فيضان وشيك، وكانت هذه التحذيرات في مستوى درجة الطوارئ القصوى، وخلال أقل من ساعة ارتفع منسوب النهر إلى 37 قدمًا، وانقطعت الإشارات عن أجهزة القياس!
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أنَّ الفيضانات المفاجئة -مثل تلك التي ضربت كيرفيل- تختلف كليًّا عن الصور النمطية التي اعتدناها عن الفيضانات الساحلية البطيئة؛ فبدلًا من الغمر التدريجي تتدفق المياه بسرعة مدمرة، تشبه الإعصار أو الحريق في قوتها المفاجئة. وهذا النوع من الكوارث لا يمنح السكان وقتًا كافيًا للفرار، ولا يمنح السلطات المحلية فرصة للتحذير.
وفي ظل تغيرات مناخية غير مسبوقة يتزايد خطر الفيضانات المفاجئة في مناطق لم تكن تُعدُّ من قبل مناطق معرضة لحدوث فيضانات؛ مما يجعل الاستعداد لها أكثر تعقيدًا، ويطرح أسئلة حاسمة حول مدى جاهزية بعض المجتمعات لمواجهة مثل هذه التهديدات المتسارعة.
فيضانات غير متوقعة ومجتمعات غير مستعدة
لطالما نُظر إلى المدن الساحلية باعتبارها المناطق الوحيدة المعرضة للفيضانات، لكنَّ الواقع اليوم يكشف وجهًا آخر للخطر؛ فقد باتت المجتمعات الجبلية والريفية -من نورث كارولينا إلى فالنسيا الإسبانية- مسرحًا لفيضانات مدمرة تتكرر بوتيرة غير معهودة. ولفهم ذلك إليكم في السطور القادمة بعض أسباب تلك الفيضانات المفاجئة:
دمار واسع النطاق
الفيضانات التي قتلت مئات الأشخاص في عامي 2023 و2024، لم تكن كلها ناتجة عن أعاصير معروفة. في بعض الحالات كانت عواصف رعدية مشبعة بالرطوبة كفيلة بإحداث دمار واسع النطاق. في ولاية فيرمونت -على سبيل المثال- ضربت فيضانات مفاجئة العاصمة مونبلييه وبلدات أخرى، رغم أن مصادرها لم تكن مرتبطة بأيِّ أعاصير.
ضعف أنظمة الإنذار
التحول في نمط الكوارث يشير إلى نقطة ضعف رئيسية في أنظمة الإنذار والتخطيط؛ لأنَّ أغلب الخرائط المعتمدة من قبل وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية (FEMA) تستند إلى بيانات من القرن الماضي، ولا تعكس التغيرات المناخية الحالية، ولا تتوقع فيضانات مفاجئة تندفع من مرتفعات أو مجاري مائية صغيرة.
تفاوت ملحوظ
هذا التفاوت بين الواقع والنماذج القديمة يزيد من هشاشة المجتمعات؛ إذْ إنَّ الناس لا يدركون أنهم يعيشون في مناطق معرضة للفيضانات، ويواصلون البناء دون حماية كافية؛ مما يجعلهم عرضة لخطر يتزايد عامًا بعد عام دون أنْ يلحظوا ذلك.
ما بين السياسات القديمة والمناخ الجديد
وكما ذكرنا من قبل فإنَّ الولايات المتحدة تعتمد في تحديد “مناطق الخطر” على خرائط قديمة مبنية على بيانات تاريخية، وليس على ما يحدث الآن من تغيرات مناخية متسارعة؛ لذا فإنَّ مفهوم “فيضانات المئة عام” يوحي بأنَّ الخطر نادر، في حين أنَّ الواقع يؤكد حدوث فيضانات مفاجئة كل بضع سنوات، وأحيانًا خلال أشهر فقط.
وينبغي هنا أنْ ندرك أنَّ الفيضانات لا تؤثر في مَن يسكن بجوار النهر فقط؛ فبسبب التعرية والانهيارات الأرضية تتعرض المنازل المبنية فوق المرتفعات للدمار، ومع غياب أدوات تقييم مناسبة لمخاطر التعرية، تظل هذه المجتمعات بلا حماية حقيقية؛ مما يفتح الباب أمام كوارث قادمة لا يمكن التنبؤ بها بدقة.
وفي مناطق مثل كيرفيل -المعروفة باسم زقاق الفيضانات المفاجئة– تتكرر الفيضانات بمعدلات مخيفة! ومع ذلك تستمر عمليات إعادة البناء على الأراضي نفسها؛ إذْ لا توجد قوانين صارمة تمنع إعادة البناء داخل مناطق الخطر، ولا توجد إرادة سياسية كافية لتغيير هذا النهج.
ويعكس ذلك نمطًا عالميًّا، حيث يتم تجاهل التغير المناخي مقابل الرغبة في الحفاظ على نمط الحياة المعتاد. والمشكلة ليست في غياب البنية التحتية أو التمويل فقط، بل في نقص الوعي بخطورة التغيرات المتسارعة، والحاجة إلى تبنّي سياسات استباقية وشاملة تراعي الواقع الجديد.
الاستدامة حائط صد أمام فيضانات المستقبل
المجتمعات التي واجهت فيضانات مفاجئة مدمرة مرارًا -مثل فيرمونت وتكساس- تجد نفسها اليوم في مفترق طرق؛ فإمَّا أنْ تستمر في إعادة البناء بالطريقة نفسها، وإمَّا أنْ تتبنى رؤى جديدة تقوم على التكيف المناخي والتخطيط المستدام. وقد أثبتت التجربة أنَّ التكرار وحده لا يُنتج مناعة، بل يُفاقم الخسائر.
ومع ارتفاع درجات الحرارة تزداد معدلات التبخر، وتصبح العواصف أكثر شدة وتركيزًا، وهو ما يجعل الهطول المطري المكثف، في مناطق جبلية أو شبه جافة، خطرًا محدقًا؛ ففي فالنسيا -على سبيل المثال- سقطت في يوم واحد كمية أمطار تعادل عامًا كاملًا، وفي كارولينا الشمالية بلغ هطول المطر 14 بوصة خلال ساعات.
وبخصوص الحلول التقليدية -كالجدران الخرسانية أو رفع المباني- فلم تعد كافية، والمطلوب هو فهم جديد لطبيعة المخاطر، وإدماج الاستدامة في قلب التخطيط العمراني والبيئي. وذلك يشمل الاستثمار في بنية تحتية مرنة، وإعادة تأهيل الأنظمة البيئية الطبيعية باعتبارها حواجزَ ضد الفيضانات.
وعلى ما سبق تؤكد مؤسسة حماة الأرض أنَّ الفيضانات المفاجئة لم تعد مجرد ظواهر طبيعية طارئة، بل مؤشّرًا صارخًا على تحوُّل مناخي يعصف بأنماط الاستقرار التقليدي. والخطر لا يكمن فقط في المياه المتدفقة، بل في السياسات العمرانية والمؤسسية التي لا تزال أسيرة معطيات مناخية منقضية.
وإنَّ التحدي الحقيقي يتمثل في بناء “مرونة مناخية” حقيقية، تُدمَج فيها الاستدامة في كل مسار تنموي، من التخطيط الحضري إلى التعليم والاقتصاد؛ ولذا لا بُدَّ من التكاتف بين الدولة والمجتمع المدني، لتأسيس بنية قادرة على الصمود لا أمام الفيضانات فحسب، بل أمام مستقبل مناخي متقلب.






