درجات الحرارة تهدد الحياة وتعصف بجنوب أوروبا وغربها
درجات الحرارة تهدد الحياة وتعصف بجنوب أوروبا وغربها
في مشهدٍ غير مألوف، تتعرض دول أوروبا لموجة حر قياسية باتت تهدد الحياة اليومية، وتؤثر في الصحة العامة، والأمن الغذائي، وسلامة البنية التحتية؛ ففي فرنسا -على سبيل المثال- صدرت تحذيرات شديدة اللهجة بسبب الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، وسط توقعات باستمرار الموجة لأيام قادمة.
وقد امتدت هذه التحذيرات إلى إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وعدد من دول البلقان (هي المنطقة الواقعة في جنوب شرق أوروبا، وتضم دولا مثل اليونان، وصربيا، وكرواتيا)؛ إذْ تجاوزت درجة الحرارة اليوم في بعض المدن الأوروبية 46 درجة مئوية؛ مما تسبب في إغلاق أكثر من 200 مدرسة في فرنسا -على سبيل المثال- حيث اندلعت حرائق غابات أجبرت السلطات على إخلاء مناطق كاملة.
ولذلك تستعرض حماة الأرض في هذا التقرير مقدار تأثير موجات الحر الشديدة في صحة الإنسان والبيئة، وتسّلط الضوء على سبل الوقاية، ودور الحكومات والمجتمعات في التكيّف مع تحديات الطقس القاسي، في ظل ارتفاع درجة الحرارة الآن.
موجة حر أم خطر صحي؟
ارتفاع درجة الحرارة اليوم لا يسبب مجرد انزعاجٍ صيفي، بل يحمل تهديدًا فعليًّا للصحة العامة، خاصة للفئات الأكثر هشاشة؛ فعندما ترتفع حرارة الجسم تتمدد الأوعية الدموية؛ ومِن ثَمَّ ينخفض ضغط الدم، ويضطرب القلب، ويفقد جسم الإنسان الأملاح والسوائل اللازمة له؛ فتظهر عليه حينئذٍ علاماتُ الإنهاك الحراري، مثل الدوخة، والصداع، والغثيان.
ولا يتوقف الأمر عند الأعراض الطفيفة؛ فاستمرار فقدان التوازن بين الأملاح والسوائل قد يؤدي إلى هبوط حاد في الضغط؛ مما يرفع احتمالية الإصابة بالنوبات القلبية، وعلى ذلك -مع وجود الطقس المتقلب- لم تعد الإجراءات الوقائية خيارًا، بل صارت ضرورة ملحّة.
وتُعدّ التوعية بأخطار التعرض المستمر للحرارة -لا سيّما في ساعات الذروة بين الحادية عشرة صباحًا والثالثة عصرًا- عنصرًا حيويًّا في حماية الأرواح؛ لذا تشير البيانات إلى أنَّ كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة هم الأكثر تضررًا؛ بسبب ضعف قدراتهم على التكيف مع التغيرات الحرارية المفاجئة.
وتؤكد التحذيرات المتزايدة من قِبل مراكز الأرصاد الجوية في مختلف العواصم الأوروبية أنَّ التغير المناخي لم يعد حدثًا مستقبليًّا، بل واقعًا يوميًّا. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تعزيز البنية التحتية الصحية، وتبنّي تخطيط عمراني يراعي شروط المناخ الجيد.
لماذا يتفاعل الجسم مع درجات الحرارة؟
سؤال بسيط، لكنه يحمل في طياته آلياتٍ بيولوجية معقدة؛ لأنَّ جسم الإنسان مُبرمَجٌ للحفاظ على درجة حرارة ثابتة تقارب 37.5 درجة مئوية، وعندما ترتفع درجة الحرارة في الجو يبدأ الجسم في إفراز العَرَقِ، وحينها تتوسع الأوعية الدموية حتى تطرد الحرارة الزائدة إلى خارج جسم الإنسان، غير أنَّ هذه الآليات الدفاعية قد تفشل في ظل الحرارة الشديدة.
وعندما يفشل الجسم في التخلص من الحرارة الزائدة، تبدأ سلسلة من التفاعلات، وهي تفاعلات تبدأ بالإنهاك الحراري، وقد تنتهي بضربة شمس؛ وهي حالة طبية طارئة قد تُهدد الحياة. وتزداد الخطورة عند المصابين بأمراض مثل السكري، أو أمراض القلب، أو القصور الكلوي؛ لأن أجسامهم أضعف في التكيِّف مع الإجهاد الحراري.
كيف نحمي أنفسنا في أوقات الذروة؟
مع توقع بلوغ درجة الحرارة في أيِّ يوم من أيام الصيف مستوياتٍ مرتفعةً، تصبح الوقاية ضرورةً لا غنى عنها. وتشمل الإجراءات الأساسية:
- الإكثار من شرب المياه.
- تجنب الخروج في ساعات الذروة.
- استخدام الستائر والنوافذ العازلة.
- ارتداء ملابس خفيفة وفضفاضة.
- استخدام واقٍ شمسي بدرجة حماية عالية.
- عدم ترك الأطفال أو كبار السن في السيارات مطلقًا.
النوم تحت شمس لا تغيب
أحد أصعب التحديات في مثل هذه الظروف هو النوم، خاصةً في الأيام الحارة؛ لذا يجب استخدام أغطية خفيفة، أو حتى تبريد الجوارب في الثلاجة قبل النوم؛ من أجل تخفيف حرارة الجسم. كما يُفضل الاستحمام بماء فاتر قبل النوم، والتقليل من الكافيين والوجبات الثقيلة ليلًا.
وأمَّا بالنسبة إلى البيوت التي ليس فيها تكييفات فيمكن الاستعانة بطرق بسيطة غير مكلفة، مثل تغطية النافذة بمنشفة مبللة؛ من أجل تبريد الهواء الداخل، أو النوم في الطابق السفلي حيث الحرارة أقل.
عندما تتحول الأدوية إلى خطر صيفي
في ظل درجات الحرارة المرتفعة، قد تصبح بعض الأدوية عاملًا مساعدًا على الجفاف أو اضطراب وظائف الجسم. ومن بين أخطر هذه الأدوية: مدرات البول التي تُفقِدُ الجسمَ السوائل والأملاح، وهي مستخدمة بكثرة لمرضى القلب والضغط.
كما أنَّ بعض أدوية الصرع ومرض باركنسون (اضطراب عصبي يؤثر في الحركة، ويتسبب في حدوث الرعاش، وتصلب العضلات) تمنع التعرق؛ مما يحد من قدرة الجسم على تبريد نفسه. وأمَّا أدوية الضغط فقد تسبب انخفاضًا شديدًا في ضغط الدم إذا ترافقت مع التوسع الحراري في الأوعية.
وفي هذا الإطار من المهم توعية المرضى بهذه المعلومات، خصوصًا كبار السن الذين قد لا يربطون بين الأعراض والحرارة؛ إذْ قد تبدو الدوخة أو الإعياء عرضًا طبيعيًّا، غير أنها مؤشر خطر يجب التعامل معه فورًا.
ضربة شمس قد تكلّف الحياة
ربما لا يدرك كثيرون أنّ درجة الحرارة اليوم قد تكون قاتلة؛ فوفق التقارير تُسجَّل نحو 2000 وفاة سنويًّا في إنجلترا وحدها؛ بسبب موجات الحر، وأغلب هذه الموجات تتسبب في نوبات قلبية أو سكتات دماغية ناتجة عن الإنهاك الحراري.
ومن هنا، يصبح دور الإعلام والمجتمع المدني أساسيًّا في إيصال التحذيرات، ونشر الحلول البسيطة ذات التأثير الكبير، خاصة بين الفئات الضعيفة؛ وهو مما يحقق أهداف التنمية المستدامة، ويعطي أثرًا طيبًا في المجتمع كله.
ومما سبق تؤكد حماة الأرض أنَّ ارتفاع درجات الحرارة تحدٍّ بيئي وصحي يستدعي وعيًا جماعيًّا واستجابة فورية، وأنَّ ما يحدث اليوم في أوروبا هو تذكير صارخ بواقع تغير المناخ في بقية أنحاء العالم؛ لذا لا بُدَّ من التكاتف بين الأفراد والحكومات.