كيف يوفر التعليم الفني وظائف المستقبل؟

كيف يوفر التعليم الفني وظائف المستقبل؟
يشهد العالم تحولًا جذريًّا نحو الاقتصاد الأخضر لمواجهة التحديات البيئية المتفاقمة مثل تغيّر المناخ واستنزاف الموارد، وقد أصبح هذا التحول محرّكًا اقتصاديًّا يعيد تشكيل أسواق العمل، ويفرض استجابات تعليمية مبتكرة، ويأتي التعليم الفني في صلب هذه الاستجابة، باعتباره ركيزة لتأهيل كوادر فنية تمتلك المهارات الخضراء اللازمة لمواكبة متطلبات هذا الاقتصاد الجديد.
يرتبط هذا التحول ارتباطًا وثيقًا بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، خاصة الهدف (4) “التعليم الجيد”، والهدف (8) “العمل اللائق ونمو الاقتصاد”، والهدف (13) “العمل المناخي”، وبدون تعليم فني ومهني يركز على المهارات المستدامة، ستتسع الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل؛ مما يعيق مواجهة تحديات تغير المناخ وبناء مجتمعات مستدامة.
ومن هذا المنطلق تستعرض حماة الأرض في هذا المقال، الدور المحوري الذي يمكن أن يؤديه التعليمُ الفنيّ في دعم التنمية المستدامة في مصر، من خلال تحليل الفجوة بين مخرجاته واحتياجات سوق العمل الأخضر، واستعراض جهود الدولة لمعالجتها، مع تسليط الضوء على المهارات المطلوبة والتحديات القائمة، وصولًا إلى رؤية شاملة لفرص التغيير والتكامل الممكنة؛ فتابعوا القراءة.
اتجاه سوق العمل نحو الوظائف الخضراء
يشهد سوق العمل العالمي تحولات متسارعة في بنيته ومجالاته، مدفوعة بتصاعد الاهتمام الدولي بقضايا البيئة والتغير المناخي واستنزاف الموارد، وقد باتت الوظائف الخضراء واحدة من أبرز ملامح هذا التحول. وتشير منظمة العمل الدولية إلى أن العالم قد يشهد خلق أكثر من 24 مليون وظيفة خضراء بحلول عام 2030، إذا ما وُضعت السياسات المناسبة التي تضمن تحقيق انتقال عادل نحو الاقتصاد الأخضر.
ويُشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2024 إلى أن فرص العمل ذات الصلة بالمهارات الخضراء تنمو بمعدل ضعف سرعة نمو عدد العاملين الذين يمتلكون هذه المهارات. ولا تقتصر هذه الوظائف على القطاعات الحديثة مثل الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، وإنما تمتد إلى تطوير قطاعات تقليدية كالبناء والزراعة والصناعة والنقل والسياحة وإدارة النفايات، لتتوافق مع المعايير البيئية ومتطلبات الاقتصاد الأخضر، ويشمل الطلب على المهارات الخضراء أدوارًا فنية مثل الكيمياء لتصنيع البطاريات، وصولًا إلى المناصب الإدارية التي تتطلب الخبرة في المحاسبة الكربونية؛ مما يؤكد شمولية هذا التحول.
إن هذا التوسع في مجالات العمل ونطاقاتها يتطلب استجابة تعليمية سريعة وفعالة، لا تقتصر على إعداد كفاءات جديدة فحسب، وإنما تشمل أيضًا إعادة تأهيل القوى العاملة القائمة، بما يمكّنها من اكتساب مهارات جديدة قادرة على مواكبة التحول في سوق العمل وتبني ممارسات إنتاج واستهلاك أكثر استدامة.
دور التعليم الفني في دعم الوظائف الخضراء
وهنا يظهر بوضوح الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه التعليم والتدريب التقني والمهني، والذي تؤمن به مؤسسات دولية رائدة مثل اليونسكو ومنظمة العمل الدولية، باعتبارها أداة رئيسية لتعزيز فرص العمل، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين الشباب، وتسهيل الانتقال العادل نحو مجتمعات منخفضة الانبعاثات وأكثر عدالة.
وفي هذا السياق، ينبغي ألا ننظر إلى التعليم المستدام بوصفه مجرد مادة تكميلية تُضاف إلى المناهج الفنية، وإنما يجب اعتباره نهجًا تعليميًّا متكاملًا، يسعى إلى إعداد الأفراد لفهم القضايا البيئية المعقدة، وتنمية وعيهم بالمشكلات العالمية، وتمكينهم من الإسهام في صياغة حلول واقعية تعكس مبادئ الاستدامة.
وهذا يتطلب إرساء رؤية تعليمية تقوم على ربط العملية التعليمية بالواقع البيئي المحيط، بحيث يصبح التعليم الفني أداة فعالة لبناء قدرات المجتمع في إدارة الموارد الطبيعية بكفاءة، والحد من التلوث، وخفض الانبعاثات، وتحقيق صحة بيئية ونفسية أفضل داخل المؤسسات التعليمية.
المهارات المطلوبة للوظائف الخضراء
ويتجاوز التعليمُ الفنيّ المستدام المفهوم التقليدي القائم على المهارات التقنية البحتة؛ ليفتح آفاقًا أوسع نحو ما يُعرف بمهارات المعرفة والمهارات الشخصية؛ فإلى جانب إكساب المتعلّمين كفاءات مهنية تطبيقية، يسعى هذا النمط من التعليم إلى تنمية قدراتهم على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والابتكار، والعمل الجماعي، وهي مهارات أصبحت شرطًا أساسيًّا للنجاح في بيئات العمل المتغيرة. كما يكتسب البعد الرقمي أهمية متزايدة، من خلال إدماج أدوات التكنولوجيا الحديثة في التعليمِ الفنيّ، مثل تحليل البيانات البيئية، واستخدام البرمجيات لترشيد استهلاك الطاقة، وتطبيقات الحوسبة السحابية في المناهج والتدريب.
ولا يمكن أن يتحقق هذا التحول الجوهري دون إصلاح عميق في بنية التعليم الفني، يبدأ من تطوير المناهج الدراسية لتكون أكثر مرونة وتكيفًا مع متطلبات الاقتصاد الأخضر، ويمر بإعادة تأهيل الكوادر التعليمية، وتبني أساليب تدريس قائمة على المشروعات والتعلم العملي، وينتهي بإنشاء بيئات تعليمية تحاكي الواقع المهني البيئي، بما يعزز قدرة الخريجين على الاندماج في أسواق العمل الحديثة والإسهام في بناء مجتمعات مستدامة.
تحديات تطبيق مبادئ الاستدامة في التعليم الفني
مع تسارع النمو في سوق الوظائف الخضراء عالميًّا، تتكشف بوضوح فجوة مقلقة بين مخرجات التعليمِ الفنيّ الحالي واحتياجات هذا السوق المتطور، وهي فجوة تتسع يومًا بعد يوم، حيث تعاني كثير من نظم التعليم من ضعف ملاءمتها للمتطلبات الفعلية لسوق العمل الأخضر؛ مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين خريجي المعاهد والمدارس الفنية، رغم تزايد الطلب على كفاءات فنية جديدة.
وتتعمق فجوة المهارات كلما تأخر إدماج التخصصات الخضراء ضمن المناهج الدراسية؛ إذ لا تزال مجالات محورية -مثل تقنيات الري الحديث، وصيانة الألواح الشمسية، وبرمجة وصيانة السيارات الكهربائية- غائبة أو ضعيفة التمثيل، رغم كونها من الركائز الأساسية لبنية إنتاج مستدامة.
ويزيد من تعقيد المشهد تقادم المناهج وعدم مواءمتها مع المهارات المستحدثة المطلوبة في أسواق العمل البيئية، إلى جانب النقص الحاد في الكوادر التدريسية المؤهلة، خصوصًا في مجالات فنية دقيقة مثل الطاقة المتجددة والإنتاج الزراعي منخفض الانبعاثات، كما يسهم ضعف التدريب العملي وغياب الوعي البيئي لدى المعلمين والطلاب في تراجع جودة المخرجات التعليمية، ويقلل من قدرة الخريجين على الاندماج بفاعلية في منظومة الاقتصاد الأخضر.
بالإضافة إلى ذلك، يشكل نقص التمويل تحديًا عالميًّا لا يُستهان به؛ إذ يعيق تحديث البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، ويحد من قدرة المدارس والمعاهد الفنية على اقتناء المعدات التقنية الحديثة، أو إدراج برامج تدريبية مرنة ومتطورة. وتزيد الصورة تعقيدًا تلك النظرة المجتمعية المتدنية إلى التعليم الفني في العديد من الثقافات، ما يؤدي إلى عزوف فئات واسعة من الطلبة عنه، وبالتالي ضعف تدفق الكفاءات المؤهلة إلى هذا المسار الحيوي.
في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحة إلى إصلاح شامل ومتعدد الأبعاد، يدمج السياسات التعليمية مع الخطط البيئية والاقتصادية، ويعتمد على إعادة تصميم المناهج، وبناء قدرات المعلمين، وتوفير الموارد الكافية. كما يبرز التعاون الدولي والإقليمي كأحد الحلول الفعالة، سواء عبر تبادل الخبرات الناجحة، أو تطوير أطر مناهج مرنة قابلة للتكيّف مع السياقات المحلية، أو من خلال منصات تدريب رقمية مشتركة تعزز كفاءة المعلمين وتنشر مفاهيم الاستدامة.
جهود مصر لتطوير التعليم الفني
وفي إطار إدراكها المتزايد للدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه التعليم الفني في دعم مسار التنمية المستدامة والتحول الأخضر، شرعت الدولة المصرية في تنفيذ حزمة من المبادرات الطموحة لتطوير هذا القطاع، وهي مبادرات تعكس التزامًا وطنيًّا قويًّا، ويأتي في مقدمة هذه الجهود إطلاق استراتيجية تطوير التعليم الفني 2.0، التي تُمثل تحولًا نوعيًّا في فلسفة التعليم والتدريب الفني والمهني، وتستهدف رفع نسبة المنضمين للتعليم الفني من المرحلة الإعدادية من 57% في عام 2021 لتصل إلى 65% في عام 2024، ومستهدفة 70% مستقبلًا.
يستند هذا البرنامج إلى منهجية تعليمية جديدة تضع الطالب في مركز العملية التعليمية، وتستبدل النمط التقليدي القائم على الحفظ بنهج حديث يعتمد على تنمية الكفاءات والمهارات مدى الحياة، مع التركيز على تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين والمهارات المطلوبة للاقتصاد الأخضر.
تتجلى هذه الجهود في التوسع الملحوظ، حيث ينتظم حاليًّا حوالي 2 مليون طالب في التعليمِ الفنيّ بمصر، وتسعى الدولة إلى اعتماد 1300 مدرسة فنية و120 برنامج تعليم فني من قبل هيئة “إتقان” بحلول عام 2030، كما تم تحديث حوالي 70% من إجمالي مناهج التعليم الفني.
ولضمان مواءمة التعليم الفني مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، سعت الحكومة بقوة إلى توسيع نطاق الشراكة مع القطاع الخاص، سواء عبر تطوير المناهج أو من خلال مقترحات جادة لإشراك القطاع في إدارة المدارس الفنية المتخصصة، مثل مدارس التكنولوجيا التطبيقية والنظام المزدوج، وقد تم تعزيز هذه الشراكات بإنشاء هيئات داعمة مثل الهيئة المصرية الوطنية لضمان الجودة والاعتماد في التعليم والتدريب التقني والفني والمهني “إتقان”(ETQAAN) ومجلس المهارات القطاعية؛ مما يؤكد الشمولية والتطلع نحو أفضل الممارسات العالمية في هذا المجال.
ومن هنا ترى حماة الأرض أن التحول نحو الاقتصاد الأخضر يستدعي إعادة تصور التعليم الفني باعتباره استثمارًا استراتيجيًّا في رأس المال البشري، يضمن العدالة بين الأجيال، ويعزز قدرة المجتمعات على التكيف والصمود؛ فالتعليمُ الفنيّ المستدام يزود الشباب بالمهارات اللازمة لإدارة الموارد بفعالية، وبناء مستقبل أكثر استدامة ومرونة.





