الاستدامة والقانون

أموال الوقود الأحفوري أم حياة الإنسان؟

COP28 على صفيح ساخن

أموال الوقود الأحفوري أم حياة الإنسان؟

أموال الوقود الأحفوري أم حياة الإنسان؟

في الساعات الأخيرة من يوم الثاني عشر من ديسمبر كانت وجوه مشاركِي مؤتمر المناخ الثامن والعشرين جامدةَ الملامح. وأمام عيونٍ مترقبةٍ تخللتْ أرجاءَ القاعةِ صيحاتُ التنديدِ، وتعالتْ أبواقُ الاستهجانِ؛ لتكون صحراءُ دبي مسرحَ نزاع مناخيّ عالميّ جديد، يُضاف إلى سلسلة مؤتمرات الأطراف التي لطالما كانتْ حبرًا على ورق.

ثم انقضى ليل الثلاثاء في جدال وتلاكم بالألفاظ حتى قُبيل طلوع الفجر، وهنالك حاول الدكتور/ سلطان الجابر -رئيس المؤتمر- إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ فلإعادة المفاوضات إلى مسارها المرسوم اقترح على الأطراف أنْ يمددوا مفاوضاتهم إلى يومٍ آخرَ؛ فكان صباح الثالث عشر -الأربعاء- من ديسمبر فرصةً أخيرةً لرأب الصدع المتكرر بين فقراء العالم وأغنيائه.

لقد كان القرارُ المناخيّ في COP28 يومَ الثاني عشر من ديسمبر غائمَ الملامحِ وفضفاضَ الألفاظِ، بخاصة البند المتعلق بالوقود الأحفوريّ -الفحم والنفط والغاز- حيث لم تعمل الرئاسةُ الإماراتيةُ للمؤتمر على صوغ هذا البند بلغة التخلص -أي التخلص التدريجيّ من الوقود الأحفوريّ- وإنما جاءت صياغته خاليةً من الالتزامات الجادة نحو التخلص من الوقود الأحفوريّ الذي يُعدُّ عقبةً كبرى في تاريخ مؤتمرات المناخ.

عندئذٍ، أشرقتْ شمسُ الثالث عشر من ديسمبر على وجوه مُتعبة وقلوب واهنة، وفي الساعات الأولى من ذلك الأربعاء الساخن جاءتِ الاتفاقيةُ بلغة جديدة طال انتظارها، حيث إنها المرَّةُ الأولى من نوعها التي يذكر فيها قرارٌ ختاميّ قضيةَ الوقود الأحفوريّ صريحةً، وهذا منذ مؤتمر الأطراف السادس والعشرين، الذي أُشير فيه إلى التخلص العالميّ من الفحم فقط، دون ذِكر النفط والغاز.

تَخفيض أم تَخلُّص؟

لكن، ما الخطوة التالية؟ فإنَّ تاريخَ مفاوضات المناخ ما يزال مؤسفًا؛ إذْ إنَّ تلك الدول التي لا يستهويها قرار في عامٍ ما، تسعى إلى إلغائه في العامِ الذي يليه، كأنما نتقدم خطوةً ونتراجع خطوتينِ! وبينما جاءتْ أصوات عالمية عديدة في COP28 بحتمية الهدفينِ -التخلص والتخفيض- إذَا بهذه الأصوات نفسها تؤكد على أنَّ الواقعَ لا يعكس هذه الحتمية، فما تزال هناك مشروعات وطنية قائمة في دول عديدة -لا سيما الدول النامية- علَى الوقود الأحفوريّ. وإذا كان سؤالُ التخلص أم التخفيض مطروحًا فإنَّما هذا في إطار -وهو ما يريده الجميع- عادل وشامل.

إمَّا الخفض التدريجيّ وإمَّا التخلص التدريجيّ، وهذا الأخير متوافق مع بنود اتفاقية باريس، التي نادتْ بالحدِّ من ارتفاع درجة الحرارة فوق 1.5 درجة مئوية. والإشكال يتمثل واضحًا في احتياجات الدول النامية، التي تفرضها أعباؤها الاقتصادية، فهي دول معتمدة على النفط انتاجًا واستثمارًا، وليست مستعدةً ماليًّا لهذا التخلص -أو حتى التخفيض- من الوقود الأحفوريّ.

هل التقاط الكربون مراوَغة؟

بينما خرجت مسودة اتفاق دبي للمناخ -يوم الاثنين الموافق 11 ديسمبر- مخيبةً آمالَ كثيرٍ من الدول المتقدمة، التي تسعى إلى التخلص التدريجيّ من الوقود الأحفوريّ – إذا بالدول النفطية تحاول الترويج إلى نظرة واقعية، في إشارة واضحة إلى أنَّ التخلصَ ذو عقبات وتحديات عظيمة؛ ولذا اقترحت تلك الدول النفطية أنْ تتجنب مسودةُ القرارِ -وبالتالي نسخته النهائية- الإشارةَ إلى التخلص من الوقود الأحفوريّ، وأنْ يكون هدفُ العالم هو التخفيضُ التدريجيّ، تلبيةً لتلك النظرة الواقعية.

لقد استندت هذه الدعوة الواقعية على التوصية بإجراءات تكنولوجية، كان من أبرزها مضاعفة قدرة الطاقة الجديدة والمتجددة ثلاث مرَّاتٍ، ثم جاءتْ أهم توصية، وهي تفعيل التقنيات التكنولوجية المُخفِّضة للانبعاثات، والإشارة هنا تحديدًا إلى تقنية التقاط الكربون وتخزينه، ليكون سؤالنا التالي حول جدوى ذلك كله؛ لتصبح الدولُ الأطرافُ -والعالم كله- أمام معادلة: إمَّا الإنسانُ وإمَّا أموالُ الوقودِ الأحفوريّ!

من جهة أخرى، فإنَّ خطواتٍ مثل استخدام البدائل الخالية من الكربون، مع زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، وكذلك الأخذ بتقنية التقاط الكربون وتخزينه – قد تكون حلًّا سحريًّا للوهلة الأولى، وقادرةً على معالجة تلك المعادلة في ظاهر الأمر، غير أنَّ أطرافًا كثيرةً لا ترى في اللجوء إلى هذا الحل سوى مماطلة واضحة، وأنَّ الأمرَ في حاجَةٍ إلى نية صادقة وسعي فِعليّ إلى التخلص من الوقود الأحفوريّ وآثاره، التي لوَّثتِ الإنسانَ وبيئته منذ عقودٍ وعقود.

ليس هذا فحسب، وإنما يجب أنْ ينظرَ العالمُ نظرةً موضوعيةً إلى هذه التقنية، مثلما نظرتِ الدولُ النفطيةُ بنواياها البترولية الواضحة إلى صعوبة التخلص من الوقود الأحفوريّ! فإنَّ تقنيةَ التقاط الكربون وتخزينه عقبةٌ لا تقل خطورةً عن العقبات التي تواجه المناخ ومكافحة تغيراته في كل المجالات والقطاعات. هذه العقبة هي أنَّها تقنية باهظة الثمن، وهنا نعود إلى المربع صفر.

عندئذٍ سوف تصبح الدول النامية والاقتصادات الناشئة أمام خيارينِ أحلاهما مُرٌّ، إمَّا التخلص من الوقود الأحفوريّ، فتحصل لهم خسائر مالية جمَّة، وإمَّا تخفيضه فتتعرقل جهودهم أمام الأموال اللازمة لذلك التحول الأخضر؛ وفي الحالتين ستظل هذه الدول النامية تصارع لأجل البقاء أمام فريقَي التخفيض والتخلص.

 مِن شرم الشيخ إلى إكسبو

إذنْ، تؤدي الاحتمالات كلها إلى الوقوف أمام مشكلة التمويل، فهي عقبة أمام كل قضايا المناخ تكيُّفًا ومكافحةً؛ ولذا أعاد COP28 إلى الأذهان دورَ مصر الرياديّ، والذي تمثل في تدشين ما أُطلق عليه “صندوق الخسائر والأضرار”، وهذا من خلال رئاستها لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين في شرم الشيخ العامَ الماضي.

في COP27 كانت مصرُ ناظرةً بعين الاعتبار إلى ما وصلت إليه قضايا تغيُّر المناخ من زيادة خطيرة في معدلات الاحتباس الحراريّ؛ فكان دورها أنْ تُدشن صندوقَ الخسائر والأضرار للدول الفقيرة والنامية المتضررة من تداعيات تغير المناخ.

ولنا أنْ نقول: إنها خطوة تاريخية، وكانت انطلاقةً كبيرةً نحو مزيد من الاهتمام بالتمويل المناخيّ، وبعدها كانتِ المحطةُ التاليةُ في إكسبو، تلك المدينة الإماراتية التي شهدت منذ أيام اتفاقًا تاريخيًّا -وهو امتداد لدور مصر السابق- في تفعيل الصندوق، ودعمه بصورة جادة؛ لتكون مصرُ والإماراتُ جبهةً واحدةً ضد آثار التغيُّر المناخيّ، من خلال سعي فعليّ، وتنفيذ تاريخيّ شهده العالمُ كله.

وفي قادم الأيام سوف تصدق هذه الخطوات العربية الملموسة، أو يكذبها الواقع لو فشلتِ الأطرافُ في دعم مشروعات الطاقة ومشروعات التحول الأخضر في المجالات كافةً؛ ولكي يكون هذا السعي العربيّ واقعيًّا دعمتِ الرئاسةُ الإماراتيةُ لمؤتمر المناخ الثامن والعشرين مجموعةً من القرارات -بالإضافة إلى قرار تفعيل صندوق الخسائر والأضرار- التي تساعد على تعزيز ودعم آليات التمويل الدولية، التي يُفترض أنْ تُقدم للدول النامية والاقتصادات الناشئة أموالًا وحلولًا ابتكاريةً تمكِّنها مِن تجاوز محنة المناخ وتحدياته مستقبلًا.

أين الطريق؟

في COP28 أعلنت رئاسة المؤتمر عن استضافة دولة أذربيجان لمؤتمر الأطراف التاسع والعشرين العامَ القادم، كما أعلنت عن نية البرازيل في استضافة الدورة الثلاثين من المؤتمر -COP30- في منطقة الأمازون عامَ 2025. ولكن قبل أنْ نستشرفَ أرضَ مؤتمرات أطراف المناخ القادمة، علينا أنْ نُقيِّمَ ونقيسَ المدى الذي أحرزناه في سبيل الحد من ارتفاع معدلات الاحتباس الحراريّ، وأنْ نُقيِّمَ أهدافَ اتفاقية باريس، وما الذي تحقق منها في أرض الواقع حتى الآن.

وإنَّ أفضلَ ما يمكن فعله، وأقصرَ طريق إلى تحقيق الأهداف المناخية العالمية؛ هو الشفافية، ليس فقط تفعيل إطار الشفافية المعزز لاتفاقية باريس، الذي يدعو الدولَ الأطرافَ صراحةً إلى إعلان الأهداف الوطنية التي تتوافق مع الأهداف الإقليمية والعالمية، وأنْ تُفصح عن بيانات تقدمها في تحقيق الأهداف المناخية – وإنما يجب علينا أيضًا أنْ نبتعد جميعًا عن تغليب المصلحة الخاصة علَى المصلحة العامة؛ بخاصة رؤساء مؤتمرات الأطراف، الذين لا ينبغي أنْ يكونوا طرفًا في مصلحتينِ متعارضتينِ، مصلحة المناخ ومصلحة المال!

وكذلك الدول التي تستضيف هذه المؤتمرات، لا ينبغي لها تغليب مصلحة تضرُّ بمناخ العالم؛ إذْ لا يمكن أنْ تتحققَ أهدافُ المناخ العالمية في ظل اهتمام بسوق الوقود الأحفوريّ، والذي تُطوره شركاتُ النفط على الرغم من أننا نسعى -هكذا نقول- إلى التخلص من الوقود الأحفوريّ.

لذا، يجب التوقف عن “الغسل الأخضر”، وأنْ نهتمَّ بتطوير آليات التمويل، وندعمَ استراتيجيات التحول إلى الطاقة الجديدة في المجالات كلها والقطاعات كافةً؛ حتى تؤتي مؤتمراتُ الأطراف أكلها، وتُحققَ أهدافها المرجوَّة.

وفي الختام، كانت حماة الأرض -وستظل- داعمًا لكل الخطط التنموية والبيئية بما يتماشى مع رؤية مصر 2030، واضعةً في اعتبارها الأهدافَ العالميةَ؛ لذا ترى في التمويل آليةً ذات أهمية بالغة، باعتباره مسئوليةً يجب على الجميع تطويرها وتفعيلها بمشاركة الحكومات والقطاعات الخاصة؛ لأجل حياة مستدامة، وعالم خالٍ من الأمراض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى