خطى مستدامة

البحث العلمي ودرويش زقاق المدق

البحث العلمي

البحث العلمي ودرويش زقاق المدق

لا يزال القارئ يجد في روايات نجيب محفوظ (1911 – 2006) سجلًا حيًّا لتاريخ المحروسة بتفاصيله ومنمنماته، ونبعًا طازجًا متجددًا، ورسائلَ ملهِمةً لا تفقد علاقاتها بالحاضر، حتى مع مرور عقود طويلة على نشر رواياته.

إلى جانب الشخصيات الرئيسية لروايته “زقاق المدق”، كثيرًا ما أتوقف أمام شخصية الدرويش، شخصية تبدو هامشيةً، لكنها مؤثرة وموحية. تقترب تعليقاته العفوية من نبوءاتٍ غامضةٍ حينًا وصريحةٍ حينًا آخرَ، يختمها في كل مرَّة بِذِكْرِ كلمة عربية مع ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية؛ فعندما اشترى المَعلم كِرشة -صاحب المقهى- مذياعًا صَرَفَ الشَّاعرَ الذي كان يؤنس الحاضرينَ بأشعاره ودندنات ربابته، بعدما أخبره أنه لم يعد محتاجًا إلى خدماته. وهنا عقب الدرويش قائلًا: «ذهب الشَّاعرُ وجاء المذياعُ. هذه سنَّة الله في خلْقه. وقديمًا ذُكرت في التاريخ، وهي ما يسمى بالإنجليزية: History، وتهجيتها: H i s t o r y».

ما زِلْتُ أرى في شخصية درويش زقاق المدق رمزًا لمَن توقف عند باب العِلم، مكتفيًا بالتطلع إليه، مقتنعًا بأنَّ ترديدَ العناوين كفيلٌ بفهم التفاصيل، وبأنَّ حفظَ حروف الكلمة الإنجليزية يُغنِي عن الغوص في تفاصيلِ العِلم. وقَفَ الدرويشُ، واكتفى من العلوم الأجنبية بترجمة الكلمات؛ فكان رمزًا لثقافة مشوهة، ترطن بلسان غربيّ حديث، وتُفكر بعقل شرقيّ قديم بالغ القِدم، مفصول عن الواقع المُعاش بعيدًا عن التطور. ويا ليته توقف عند هذا الحد واكتفى، وإنما راح يضع قشورَ قشرِ عِلمهِ فوق علوم الآخرين!

وحتى لا يظن القارئ الكريم أننا أسرفنا في البُعد عن جوهر ملف العدد -التعليم- فإنني أطمئنه بأننا في قلب الملف. واستلهامًا لروح الإذاعيّ القدير سعد الغزاويّ في برنامجه الماتع “قال الفيلسوف”، حين يقول: «في قصتي إجابتي»؛ فقد تشرفت بتلقي دعوة للمشاركة في مناقشة مشروع تخرج طلبة بكالوريوس إحدى كليات الهندسة عن “السيارات الكهربائية”.

استطاع الطلابُ بأدوات محلية بسيطة صناعة سيارة جولف يمكنها الخدمة داخل المجمعات الخدمية والسكنية في نطاق يصل إلى 500 كيلومتر مربع، بحمولة ستة أشخاص، وتُشحن بطاريتها من خلال ألواح طاقة شمسية مثبتة فوق سطحها العلويّ – عملٌ حاز تقدير لجنة مناقشة ضمت أكاديميين وصناعيين.

في إطار التعقيبات صَالَ وجَالَ أحدُ الأساتذةِ الأجلاءِ، مُفتتِحًا هَويسَ تعليقاته بقائمة ملحوظات طويلة عن تنسيق الفقرات ومقاسات الخط المستخدم، وغير هذا مما يُعدُّ أمرًا شكليًّا لا يؤثر في مضمون العمل، ثم عرج إلى لب الفكرة، فَأَنَّبَ ولَامَ حتى ارتوى وتَجَشَّأَ عتابًا، متعجبًا كيف فاتهم عدم اقتراح وضع نقاط شحن في الجراجات أسفل المباني؟!

لم يدخر أستاذنا جهدًا في بيان أهمية هذه الملحوظة، فأطنب وأسهب، والكل ينتظر -لجنة المناقشة والطلاب- على مضضٍ، حتى حانت منه وقفة قصيرة لالتقاط الأنفاس، وتناول جرعةَ ماءٍ يستأنف بعدها رشاش ملحوظاته، وعندما التقط أحدُ الطلاب -مُسرعًا- خيطَ الرد ألقى بسؤال بَدَا مباغتًا للحضور، بمَن فيهم أستاذنا الجليل: «أين هي الجراجات أسفل العمائر؟! تحولتْ كلُّها إلى مخازنَ ومَعارضَ».

وبغض النظر عن تلك التعقيبات العرجاء التي ألقى بها البعض، فقد كشف السؤالُ عن الهُوة العميقة الفاصلة بين البحث العلميّ وقضايا الواقع بتشابكاته المعقدة والحلول وخيالها الجامح.

يدخل الباحثُ معمله فإذا هو دودة قز دؤوب، لا تَكِلُّ ولا تَمِلُّ عن العمل، تنسج خيطها الحريريّ اللامع الشفاف فإذا هو -أول الأمر- غلالة تشف ما حولها، شيئًا فشيئًا تزيد كثافة الخيط حتى يصبح جدارًا يفصله عما حوله، فتنتقل من حال إلى حال؛ من دودة قز إلى يرقة، ثم فراشة تُنكر وحدتها وما حولها من جُدُر نُسجت بذلك الخيط الحريريّ الجميل، اللامع ذي الثمن الغالي، فتخترقه إلى فضاءات الحرية.

أخذني سؤالُ الأستاذِ وتعقيبُ الطالبِ إلى هذه المقاربة؛ انغمس الأستاذ في معمله حتى نسي ما حوله من عالَمٍ يضج بتحديات متنوعة، يخرج ويدخل مشغولًا ببحثه، يسجل ملحوظاته ويُمحص استنتاجاته، وقلَّما نجد شيئًا من هذا أو ذاك يعود مردوده المباشر على أحد قضايانا المُلحَّة من غذاء ومياه وطاقة وصناعة وزراعة، وغيرها.

حتى إذا ما انتهى عالـِمُنا من عمله، واطمأن إلى استيفائه أركان البحث العلميّ؛ وضَعَه أمام أعين المُحكِّمين، فيفحصونه ويدققونه بأدوات تغيب عنها الصلةُ بالواقع الـمُعاش، ثم يصدرون قرارهم الأخير، فيتحول البحثُ إلى عدة أوراق في مطبوعة قلَّمَا يلتفت إليها أحدٌ؛ أوراق تُرقِّي الفردَ وظيفيًّا ولا تُرقِّي المجتمعَ عِلميًّا، أبحاث تضع حلولًا شبه مثالية لعالَمٍ افتراضيّ لا يربطه رابط بذلك المجتمع المهموم بقضايا ابتكار وصناعة حبة دواء، ورغيف خبز، وحفنة قمح، وتُرْسٍ في مصنع!

رأيتُ في عمل الباحث الأكاديميّ المعزول المفصول عن عالمه تشابهًا مع بعض صنيع دودة القز، إذْ تُظهر مهارةً فائقةً في هندسة شرنقتها، وصبغها بألوان تأخذ بالألباب وهي في معزل عما يقع في محيطها من أحداث وما يشغل الناس من مشاغل. وهنا يأتي دور القزَّاز -العامل على رعاية دود القز- فينقذها من نفسها، ويغير مسارها قبل أنْ تنقُضَ غزلها من بعدِ قوةٍ؛ فيحول خيطها إلى حرير عالي القيمة والمكانة، يتباهى به كلُّ مَن يرتديه.

مِن هنا، تشترط مؤسسات التمويل الدولية أنْ يشارِكَ في الأبحاث التي تمولها باحثون مِن جهات تنفيذية يمكن أنْ تستفيد من نتائج البحث، فضلًا عن دورها في توجيه مساره نحو هدف يساعد في التغلب على تحديات عملية، ويقلص الفجوة بين ضفتَي البحث والتطبيق.

الأفكار بذور تحتاج إلى تربة خصبة وبُستانيّ يتابع ما يعتريها من تطور ويتدخل بما يناسب، فما تحتاج إليه البذرةُ في أول عهدها يختلف عنه وهي شجرة سامقة قادرة على مد جذورها في الاتجاهات كافةً، واستخلاص الغذاء من التربة. ليس هذا فحسب، وإنما تصبح فَيئًا يستظل تحته كلُّ مُتعبٍ، وموطنًا للطيور، وعالَـمًا فسيحًا يقيم فيه دودُ القز ممالكَ من حريرٍ يرعاها القَزَّازُ الماهرُ؛ فيحولها إلى ثروة قبل أنْ تُفسد نفسها بنفسها.

لَكَمْ تحتاج معاملُ أبحاثنا إلى ذلك القزَّازِ القادرِ على ربط البحث العلميّ بتحديات الوطن، وتحويل دفته ليصبح منتَجًا تجاريًّا ذا قيمة؛ فيرتقي الأستاذُ وظيفيًّا ويرتقي المجتمعُ خدميًّا، حتى وإن كان سيارةً كهربائيةً بسيطةً صُنعت محليًّا! عدا هذا يتكرر نموذج درويش زقاق المدق، ليتردد صوته في الآفاق، قائلًا: «وقديمًا ذُكر العِلمُ، وهو ما يسمى بالإنجليزية Science، وتهجيتها S c i e n c e».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى