خطى مستدامة

التجربة الديموجرافية الصينية.. الدروس التي يمكن أنْ تستفيدها إفريقيا

عبدالهادي القصبي

التجربة الديموجرافية الصينية.. الدروس التي يمكن أنْ تستفيدها إفريقيا

لعقود من الزمان -وحتى الآن- ظلتِ الصينُ كبرى دول العالم من حيث عدد السكان، لكن هذا على وشك أنْ يتغيرَ؛ فحينما بلغَ عددُ سكانها ذروته أشارتِ المعدلاتُ إلى أنَّ تعدادَ الصين آخذٌ في التراجع.

لا يخفى على أحد ما حققته الصينُ من مستويات قياسية في النمو الاقتصادي على مدى العقود الأربعة الماضية؛ ما أدَّى بالتبعية إلى الحد من الفقر ورفع دخل الفرد. بين عامَي 1978 و2018 نَمَا الاقتصادُ الصينيُّ بمعدل 9.8% سنويًّا، واليوم هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

كانت التجربة الديموجرافية الصينية صاحبة دورٌ رئيسيٌّ في تنمية هذا البلد الآسيوي الضخم، حيث أدَّى ارتفاعُ عدد المواليد إلى حدوث طفرة في عدد ونسبة السكان في سن العمل منذ السبعينيات، وهذا أسهمَ بنحو 15٪ من نمو الصين مِن عام 1980 إلى عام 2000. لقد استفادتِ الصينُ من ملفها الديموجرافي بواسطة السياسات الداعمة لتعزيز قدرات شرائحها السكانية في سن العمل، وهي تجني الآن ثمار هذه السياسات.

ولكن ما الدروس التي يمكن لإفريقيا أنْ تتعلمها من التجربة الديموجرافية الصينية؟ وهذا على الرغم من أنَّ الصينَ تختلف بشكل جذري عن الدول الإفريقية في كثير من النواحي، سواء الجغرافية أم الاجتماعية أم السياسية.

التحولات في السياسة التنموية

كانتِ الحكوماتُ الصينيةُ المتعاقبةُ دائمةَ القلقِ من أنْ تتحولَ الصينُ مع مرور الوقت إلى أُمَّة عجوز (زيادة نسبة كبار السن)، قبل أنْ تُحقق غايتها في أنْ تصبح دولةً غنيةً، وفي وقت مبكر من الثمانينيات -عندما كانتِ الصينُ ما تزال شابةً وفقيرةً- كان الخوفُ من أنَّ هذا سيعيق التنمية على المدى الطويل؛ ولتجنب هذا عَدَّلَتِ الصينُ سياستها التنموية.

في البدْءِ استغلتِ الصينُ إمكانات العائد الديموجرافي ذي الأجور المنخفضة لسكانها (الشباب والفقراء) في سن العمل عند أواخر السبعينيات. بعد هذا، استعدت لدعم اقتصادها، ووضع برامج رعاية مئات الملايين من كبار السن.

وفي أعقاب طفرة المواليد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي -في المدة بين منتصف السبعينيات وحتى العام 2010- زادت حصة السكان في سن العمل (الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و65 عامًا) من 55٪ إلى 73٪ من إجمالي سكان الصين.

ولكبح جماح الزيادة السكانية المطردة وضعتِ الصينُ سياسةَ “الطفل الواحد”، وهي السياسة التي تبنتها الحكومة في المدة بين عامَي 1978 – 2015، واستطاعتْ بواسطتها منع 400 مليون ولادة جديدة، حسب تصريحات الحكومة الصينية.

على جانبٍ آخرَ، ساعد استغلالُ الإمكانات الإنتاجية لهذه الشريحة السكانية العاملة الضخمة على دفع الإصلاحات التي فتحتْ أبوابَ الاقتصادِ الصينيِّ على العالم منذ أواخر عام 1978. كان أحد الجوانب الرئيسية للانفتاح على التجارة والاستثمار الأجنبيينِ المباشرينِ هو استراتيجية التنمية الساحلية، حيث أُنْشِئَتْ مناطقُ اقتصاديةٌ خاصة لجذب الاستثمار الأجنبي.

بالإضافة إلى ما سبق، قامتِ الصينُ في التسعينيات بتوسيع وتطوير قطاع التعليم الجامعي. أجرتْ -أيضًا- إصلاحات سياسية من شأنها أنْ تدعم -في نهاية المطاف- مصادرَ جديدةً للنمو في وقت لاحق، عندما تحتاج المناطق الاقتصادية الحدودية الصينية إلى أنْ تكون مدفوعةً بالجودة النوعيةِ، بدلًا من كمية العمالة، وشمل هذا الإصلاحُ التصنيعَ والخدماتِ ذات القيمة المضافة الأعلى، بالإضافة إلى تحسين المعاشات التقاعدية، وإدارة الثروات.

الرؤية المستقبلية للصين جعلتها تدرك حجمَ التحول من عبْءٍ كبير يخص الأمراض المعدية إلى عبْءٍ أكبر هو الأمراض المزمنة مع تقدم سكانها في السن، لتواجه هذا بتقديم مستوى أساسي من التأمين الصحي حتى إلى أفقر الناس وأبعدهم سكنًا، وهو الملف الذي حاز مزيدًا من الاهتمام منذ عام 2010.

الدروس التي يمكن أنْ تستفيدها إفريقيا من التجربة الديموجرافية الصينية

من المؤكد أنَّ التجربة الديموجرافية الصينية لكبح جماح الزيادة السكانية لها علاقة كبيرة بنجاح نهجها في التنمية، وهو النهج الذي يمكننا أنْ نقول إنه مناسب لجميع البلدان -إذا ما تم تكييفه واستغلاله بالشكل المناسب- بما في هذا البلدان الإفريقية، حيث يتزايد متوسط ​​العمر المتوقع، وهو ما يعني -عادةً- أنَّ نسبةَ السكان من كبار السن آخذةٌ في الارتفاع.

تغطي البلدانُ الإفريقيةُ مجموعةً واسعةً من الطيف الديموجرافي. على سبيل المثال، تُعتبر موريشيوس دولةً عجوزًا إذا ما قُورِنَتْ ببقية الدول الإفريقية؛ لأنَّ أكثر من 7٪ من المواطنين تبلغ أعمارهم 65 عامًا، بل أكثر. على النقيض من هذا، فإنَّ دولًا مثل زامبيا وأنجولا والنيجر دولٌ شابةٌ، مع ما يزيد قليلًا عن 2٪ من السكان الذين يبلغون من العمر 65 عامًا أو أكثر.

التجربة الديموجرافية الصينية

وفي هذا السياق، تحتاج البلدانُ “الشابة” إلى زيادة الاستثمار في الرعاية الصحية الأساسية، وخاصة صحة الأم، حيث تقلل الرعاية الصحية الأساسية في النهاية من معدل المواليد؛ نظرًا إلى الثقة في بقاء كل طفل على قيد الحياة، كما تحتاج هذه الدول أيضًا إلى الاستثمار في التعليم، ولا سيما التعليم الابتدائي لجميع الأطفال.

في الوقت نفسه، من المهم رفع إنتاجية كل عامل، والتكيف مع الثورة التكنولوجية الجديدة، حيث يمكن أنْ يؤدي هذا إلى وجود مجموعة من الخريجين المدربين تدريبًا جيدًا في مجالات العلوم والتكنولوجيا على وجه الخصوص.

وفي الختام، فلا شكَّ في أنَّ تحسينات الصحة العامة -من بين عواملَ أخرى- أدَّت إلى أنَّ كثيرًا من البلدان النامية تعاني الآن انخفاضًا في معدل الوفيات وزيادةً في معدل المواليد؛ ومن ثَمَّ تقدمتْ بلدانٌ كثيرةٌ في السن دون أنْ تصبح غنيةً، مما يمثل تهديدًا لكثير من كبار السن الفقراء وركودًا في آفاق الاقتصاد الوطني؛ ولعل هذا هو سبب أهمية تعزيز سياسات التنمية الاقتصادية بالتوازي مع التغير الديموجرافي، وهو ما فعلته الصين عندما كانتْ دولةً فقيرةً وشابةً.

من خلال التعلم من التجربة الديموجرافية الصينية وتكييفها مع طبيعة كل مجتمع، يمكن للبلدان الإفريقية استيعاب إمكاناتها الاقتصادية والديموجرافية؛ حتى تتحول -بشكل تدريجي- إلى تحقيق تنمية مستدامة تلبي احتياجات شعوبها، وتضمن مستقبلَ أجيالها القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى