الزراعة العمودية.. مستقبلنا الغذائي أكثر استدامة
الزراعة العمودية.. مستقبلنا الغذائي أكثر استدامة
إنَّ زيادةَ أعداد السكان تقابلها زيادةٌ في الطلب علَى الغذاء، وهو ما يُكبل النظام الزراعيّ بأعباء كثيرة، ومن بين هذه الأعباء تلك الفجوة الإنتاجية بين المحاصيل الزراعية وأعداد السكان؛ لأنَّ المحاصيلَ التي يُنتجها الإنسان بأساليبَ زراعيةٍ تقليديةٍ أصبحت عاجزةً أمام هذا الخلل الذي أصاب العلاقة بين أعداد السكان والوفرة الغذائية؛ لذا سوف نناقش معكم في هذا المقال طريقةً مبتكَرةً يمكنها مساعدتنا علَى معالجة هذه المشكلة الغذائية، ألَا وهي: الزراعة العمودية؛ لذا كونوا معنا في هذا المقال للتعرف علَى معناها، والنظر إلى دورها في تحقيق التنمية المستدامة.
ما تقنية الزراعة العمودية؟
الزراعة العمودية هي مفهوم مستدام، وقد حظِيتْ باهتمام شديد في السنوات الأخيرة، ووفق بيانات شركة الأبحاث Statista بلغت قيمتُها السوقية 5.6 مليار دولار أمريكيّ في عام 2022، ومما هو متوقع أنْ ترتفعَ هذه القيمةُ إلى 35 مليار دولار أمريكيّ بحلول 2032.
وبعيدًا عن الزراعة التقليدية التي تكون في مساحاتٍ واسعةٍ أفقيًّا، فإنَّ الزراعة العمودية تكون بزراعة البذور في طبقات فوق بعضها رأسيًّا، حيث لم نَعُدْ في حاجَةٍ إلى مساحة كبيرة أو حديقة كاملة لتوفير طعامنا، فضلًا عن أننا سنزرع مزروعاتٍ متنوعةً في وقت واحد.
ليست هذه الطريقة مجردَ تكديس لطبقات البذور فوق بعضها بعضًا، وإنما هي نظام شديد الذكاء، يمكننا أنْ نتحكم به -صناعيًّا- في الرطوبة ودرجة الحرارة والغازات والضوء، وهو ما يُطلَقُ عليه “الزراعة الخاضعة للرقابة – CEA”. وبهذا النظام البيئيّ يمكن أنْ نراقب الظروف الداخلية لهذه الطبقات الزراعية؛ ولذا يقوم مستخدمو الزراعة العمودية -علَى سبيل المثال- بتوفير الإضاءة الاصطناعية والعاكسات المعدنية، حتى يستطيعوا محاكاة ضوء الشمس.
ذلك النهج القائم علَى التكنولوجيا يتيح أمام مستخدمِي هذه الطريقة الجديدة فرصةً واعدةً لإنتاج الغذاء في بيئةٍ مراقَبةٍ عن طريق الحفاظ على ظروف نمو المحصول داخل هياكل مغلقة؛ ومِن ثَمَّ زيادة الإنتاجية الزراعية، خاصةً أنه يمكننا بهذه الطريقة أنْ نتحكم في معدلات الكربون والمغذيات التي يتلقاها النبات.
كيف تعمل الزراعة العمودية؟
كان ما سبق تعريفًا عامًّا للزراعة العمودية، والآن علينا -بشيء من التفصيل- أنْ نوضح لكم حقيقةَ هذه التقنية الزراعية، التي تقوم علَى أركانٍ أربعةٍ، هي:
التخطيط: يقوم المزارعون في الزراعة العمودية بِبَذْرِ البذورِ داخل هياكل كالأبراج؛ لتعظيم إنتاج المحصول؛ أي أنها طريقة تحافظ علَى الأراضي التي تستهلكها الزراعة التقليدية. وقد تكون هذه الهياكل في بيوت زجاجية، أو ما شابهها من البنايات التي لا تتطلب مساحةً أفقيةً واسعةً.
الضوء: قد ألمحنا -سابقًا- إلى أنَّ الزراعة العمودية تسمح لنا بأنْ نتحكم في الضوء، إلى جانب أنه يمكننا أنْ نستعين بتقنياتٍ مساعِدةٍ علَى تنفيذ هذا، مثل تقنية الهياكل الدوارة التي تضمن لنا كفاءة الإضاءة، حيث يمكننا تعديل شدة وتردد الأضواء توافقًا مع احتياجات النبات، وهو ما أكده الدكتور/ كيفن إم. فولتا -أستاذ علوم البستنة في جامعة فلوريدا- الذي رأى في هذا التعديل الضوئيّ فرصةً لتعديل النبات بيولوجيًّا؛ حتى تصبح زراعتُه مستدامةً. وبالمثل يمكن لأجهزة الاستشعار عن بُعد والكاميرات الذكية جمع بيانات دقيقة عن النبات، ثم تحليلها لتحسين صحته، وتعزيز نموه، وزيادة إنتاجيته.
الاستدامة: في حماة الأرض لا ندخر جهدًا في أنْ نلقي الضوء علَى كل ما هو مستدام ومبتكر، وهذا سر اهتمامنا بطريقة الزراعة العمودية؛ لأنها قادرة علَى تقليل استنزاف الإنسان لموارد البيئة، حيث إنها طريقة ذات استخدام قليل للمياه.
هذه الطريقة الزراعية الجديدة -بالإضافة إلى ما سبق- ذات جدوى في ما يتعلق بتخفيض تكلفة نقل منتجاتها الزراعية، فلأنها تكون موجودةً في مواقعَ حضريةٍ تصبح سهلةَ النقلِ؛ ومِن ثَمَّ تنخفض بصمتُها الكربونية، فضلًا عن أنها طريقة زراعية بعيدة كلَّ البُعد عن استخدام المواد الكيماوية؛ فهي -كما أشرنا سابقًا- طريقة خاضعة للرقابة البيئية؛ أي يُمنع دخول المواد الضارة إليها.
ثم لكم أنْ تضيفوا إلى ما سبق فوائدَ أخرى إلى هذه التقنية الحديثة، كالمحافظة علَى كفاءة الطاقة؛ لأنَّ هياكلَ وأماكنَ تنفيذها تحتوي علَى وحدات توليد طاقة مدمجة بها، وهي قادرة أيضًا علَى تقليل الأخطار المهنية التي نراها في الزراعة التقليدية، حيث المعدات الزراعية الثقيلة، والمواد الكيماوية الخطيرة.
بيئة النمو: لعلكم لاحظتم في ما سبق كيف أنَّ هذه الطريقة الجديدة لا تحتاج إلى تربة بالمفهوم التقليديّ، فكما ذكرنا هي طريقة قائمة علَى بيئات نمو في صورة طبقات فوق بعضها داخلَ بيوت زجاجية.
التحديات:
انخفاض التلقيح
تقوم الزراعة العمودية علَى ظروف بيئية خاضعة للرقابة، وتلك الرقابة البيئية تمنع دخول الآفات غير المرغوب فيها، وهذا يُعيق التلقيحَ الطبيعيّ بواسطة النحل -مثلًا- أو الفراشات؛ ولهذا يحتاج المزارعون إلى اعتماد التلقيح اليدويّ، وهو أمر مكلف ومزعج.
الاعتماد التكنولوجي
يعتمد هذا النوع من الزراعة -بشكل كبير- على التكنولوجيا؛ أي أنَّ الزراعة العمودية تُلزم المزارعين بالاستثمار -بكثافة- في تقنيات ومعدات متنوعة، وهذا قد يكون -فضلًا عما سبق- عاملًا من عوامل الاستغناء عن الأيدي البشرية.
تكلفة الزراعة العمودية
بالرغم من أنَّ الزراعة العمودية منهجٌ مبتكَر، وطريقةٌ متطورة لمعالجة مشكلات الزراعة التقليدية؛ فإنها تتطلب استثماراتٍ كبيرةً عند بدء المشروع، ويتباين حجم الاستثمار فيها تبعًا لعوامل عدة كمساحة المشروع، وكذلك تقنياته التي تتمثل في تجهيز البنية التحتية المتخصصة، وتوفير الأنظمة المتطورة للإضاءة والريّ والتحكم في المناخ، بالإضافة إلى أجور العاملين، ونفقات تسويق المنتجات.
ومع هذه التحديات تظل الزراعة العمودية مفيدةً للبلدان ذات الأعداد السكانية المرتفعة، وكذلك البلدان التي تعاني من الجفاف والتصحر. وإنْ أجرينا مقارنةً بين فوائد هذه الطريقة وتحدياتها وجدنا لها مستقبلًا واعدًا يمكنه معالجة التحديات جميعها؛ خاصةً أنَّها لا تزال تقنيةً جديدةً بالنسبة إلى عُمْرِ البحث العلميّ، الذي يُغير كلَّ شيءٍ مع تتابع الاكتشافات والاختراقات العلمية.
وهكذا هي فوائد الزراعة العمودية مستدامة وواعدة، وتستطيع أنْ توفر للإنسان غذاءه دون أنْ يتسبب في إرهاق بيئته، ودون أنْ يستهلك مواردها؛ وبالتالي فإنَّ الحدَّ من استهلاك الموارد يقلل البصمة الكربونية، فتكون النتيجة زيادة قدرتنا على مكافحة تأثيرات التغيُّرات المناخية؛ لذا ترى حماة الأرض أنَّ هذه الطريقة المبتكَرة خطوة جيدة نحو تنفيذ استراتيجيات التنمية المستدامة.