علوم مستدامة

الصحة النفسية للأمهات هدف من أهداف التنمية المستدامة

الصحة النفسية للأمهات

الصحة النفسية للأمهات هدف من أهداف التنمية المستدامة

تعد الصحة النفسية جزءًا أصيلًا من أي رؤية تنموية شاملة؛ فهي تعكس جودة الحياة اليومية، وتؤثر في قدرة الأفراد على المشاركة والتفاعل والاستقرار، وتزداد أهميتها عندما يتعلق الأمر بالفئات التي تؤدي أدوارًا محورية في بناء الأسرة ورعاية الأجيال، وفي مقدمتها الأمهات، حيث تُعد هذه الفئة من أكثر الفئات حاجةً إلى الدعم النفسي.

ذلك لأنَّ وسط التغيرات الجسدية والانفعالات والضغوط المحيطة تمر كثير من النساء بتجارب نفسية معقدة تؤثر في حياتهن وحياة من حولهن، ومن هنا تسلط حماة الأرض الضوء في هذا المقال على واقع الصحة النفسية للأمهات خلال الحمل وبعد الولادة، وتتناولها باعتبارها هدفًا من أهداف التنمية المستدامة، إلى جانب استعراض الجهود التي تبذلها الدولة في هذا المجال؛ فتابعوا القراءة.

الأمومة تبدأ من الصحة النفسية

على الرغم من احتفاء المجتمعات بالأمومة بوصفها تجربة مفعمة بالعطاء والحنان، فإن الجوانب النفسية المعقدة المرتبطة بها كثيرًا ما تُغفل؛ إذ تشير التقديرات العالمية إلى أنَّ ما بين 7% و20% من النساء الحوامل يصيبهنَّ الاكتئاب في أثناء الحمل، من دون أن يلقى ذلك صدى يذكر في النقاشات العامة أو السياسات الصحية.

فعلى سبيل المثال، كشف تقرير جديد صادر عن الهيئة الوطنية للصحة العامة في إسكتلندا (Public Health Scotland) لعام 2024، أن 25% من الأمهات في إسكتلندا -اللواتي أنجبن بين عامي 2018 و2022- سبق لهن التواصل مع خدمات الصحة النفسية؛ مما يشير إلى حاجة متزايدة للرعاية والدعم النفسي الطويل الأمد.

الأمومة تبدأ من الصحة النفسية

ورغم انتشار هذه الظواهر النفسية، لا تزال نسبة 75% من الأمهات في ذلك البلد لا تتلقى العلاج النفسي اللازم، وهو ما يزيد من تفاقم المشكلات الشخصية والعائلية، ويصنع دوامة تأثير تمتد إلى الأطفال، والآباء. وحسب هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إسكتلندا (NHS inform-National Health Service)، فإن الصحة النفسية أثناء الحمل أو بعد الولادة باتت إحدى أبرز مضاعفات الأمومة، متجاوزة حتى مضاعفات الولادة الجسدية في بعض الحالات.

وفي هذا الإطار، ينبغي أن نشير إلى أن التحديات النفسية التي تواجه الأمهات اليوم تتطلب قراءة جديدة لمسئولياتنا المجتمعية؛ إذ إنها تفرض على صُنّاع القرار ضرورة دمج الصحة النفسية في خطط التنمية المستدامة، تحقيقًا للهدف (3) من أهداف التنمية المستدامة “الصحة الجيدة والرفاه”.

من التغيرات البيولوجية إلى الأعباء الاجتماعية

الأمومة تجربة تغير بنية حياة المرأة بشكل جذري، وتؤثر في مستوياتها البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية؛ ففي الشق البيولوجي تتسبب التغيرات الهرمونية المفاجئة أثناء الحمل وبعد الولادة في تقلبات حادة بالمزاج والشعور، أما في الجانب النفسي فتجد كثيرًا من النساء صعوبة في التكيف مع التحولات في أدوارهن وعلاقتهن بالأزواج والمجتمع، وفي الجانب الاجتماعي تؤدي التغيرات في العمل والدخل والتوقعات المجتمعية إلى مضاعفة الضغوط النفسية.

كل هذه العوامل قد تتجلى في أعراض متعددة من الاكتئاب المزمن، واضطرابات القلق، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وحتى الوسواس القهري. وقد وثق تقرير صادر عن هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إسكتلندا أن 14% من النساء يعانين من الاكتئاب بعد الولادة، في حين تعاني 9% من اضطراب ما بعد الصدمة، و6 إلى 8% من اضطرابات القلق.

الاكتئاب المزمن، واضطرابات القلق، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وحتى الوسواس القهري

إن تجاهل هذه الأسباب المتعددة لا يؤدي فقط إلى تفاقم الوضع النفسي للأمهات، وإنما يهدد أيضًا استقرار الأسرة، ويؤثر في تطور الطفل نفسه من حيث الصحة النفسية والسلوكية؛ مما ينعكس على الأجيال في المستقبل، من هنا يصبح التعامل مع هذه القضايا جزءًا لا يتجزأ من بناء مجتمعات صحية ومستدامة.

ما بعد الولادة

بعد ولادة الطفل، تمر الكثير من الأمهات بتجربة تعرف باسم “اكتئاب ما بعد الولادة”، وهي فترة قصيرة من الحزن العاطفي نتيجة التغيرات الهرمونية، تصيب حوالي 85% من النساء وفق تقرير صادر عن موقع (Psychiatrist.com) المتخصص في مسائل الصحة النفسية، غير أنَّ الخطورة تكمن عندما تتجاوز هذه المرحلة لتصبح اكتئابًا حادًّا يؤثر في علاقة الأم بطفلها، ويضعف قدرتها على الرعاية.

ومن الاضطرابات النفسية الخطيرة التي قد تُهدد حياة الأم وطفلها في حال عدم تشخيصها والتعامل معها مبكرًا، اضطراب الوسواس القهري (Obsessive compulsive disorder-OCD) ، الذي قد يظهر في أفكار متكررة وغير مرغوب فيها تتعلق بصحة الطفل، أو الذهان ما بعد الولادة الذي يظهر عادة في الأسابيع الأولى، وتصاحبه أوهام وهلاوس وتقلبات مزاجية حادة.

وفي هذا السياق، تُعد الصحة النفسية للأمهات عنصرًا أساسيًّا في بناء مجتمعات مستقرة وصحية؛ إذ إن تمتع الأمهات برفاه نفسي يمكّنهن من رعاية أطفالهن بصورة أفضل، ويُسهم في تعزيز النمو العاطفي والمعرفي لدى الأبناء، ويكتسب هذا الجانب أهمية متزايدة ضمن أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف (5) المعني بالمساواة بين الجنسين، الذي يشمل ضمان وصول النساء إلى خدمات الرعاية الصحية، بما في ذلك الدعم النفسي المتخصص خلال فترات الحمل وما بعد الولادة.

الأدوار الاجتماعية عبء إضافي

لا تنحصر الأمومة في الاعتبارات البيولوجية؛ فزوجات الآباء يقمن بأدوار محورية في رعاية الأطفال ضمن العائلات المختلطة، غير أنهن غالبًا ما يُهمَّشن نفسيًّا واجتماعيًّا، وتشير دراسات متعددة إلى أنهنَّ يعانين من مستويات أعلى من القلق والتوتر مقارنة بالأمهات البيولوجيات؛ نتيجة شعورهن بالعزلة أو عدم الاعتراف بدورهن، فضلًا عن التوترات التي تنشأ في العلاقة مع الأطفال أو الشركاء أو الآباء البيولوجيين.

هؤلاء النساء جميعًا يواجهن تحديات نفسية مضاعفة، خاصة في ظل غياب أنظمة دعم فعالة أو مساحات آمنة تتيح لهن التعبير عن تجاربهن ومشاعرهن المعقدة، ويعكس هذا الغياب خللًا في السياسات الاجتماعية التي لا تزال قاصرة عن الاعتراف بتنوع تكوينات الأسر الحديثة؛ مما يؤدي إلى تهميش فئة مهمة من النساء، ويُعيق جهود بناء مجتمعات أكثر عدالة وشمولًا واستدامة.

ومن هنا يصبح تعزيز رفاه زوجات الآباء ليس مجرد التزام أخلاقي أو إنساني، بل ضرورة عملية لضمان استقرار الأسرة بوصفها حجر الأساس في أي عملية تنموية، وهو ما يتسق بوضوح مع الهدف (10) من أهداف التنمية المستدامة، المعني بالحد من أوجه عدم المساواة داخل المجتمعات.

من الدعم الفردي إلى الحلول المؤسسية

حين تواجه الأم تحديات نفسية، فإن استجابتها الأولى غالبًا ما تكون فردية وشخصية، تبدأ بمحاولات لفهم ما تمر به وسط ضغوط التوقعات الاجتماعية وصمت المحيط، وتتجه إلى البحث عن متنفس لدى مختصين في الرعاية الأولية أو مجموعات الأقران، التي تتيح مساحة لتبادل الخبرات وتخفيف الشعور بالوحدة.

وهنا تتضح أهمية الاعتراف المجتمعي بأن ما تمر به الأمهات ليس طارئًا عابرًا، وإنما تجربة إنسانية تستحق الفهم والاحتواء، ويمثّل هذا الاعتراف خطوة أولى نحو بناء بيئة داعمة تتيح للمرأة التعامل مع مشاعرها بوعي دون خوف، وهو ما يعزز قدرتها على التكيف، ويعيد التوازن إلى علاقتها بذاتها وأسرتها.

ويتسع نطاق هذا الدعم حين تتبناه السياسات العامة باعتباره حقًّا أصيلًا لا ينفصل عن الرعاية الصحية الشاملة، فحين تُدمج الصحة النفسية للأمهات في الخطط الوطنية وتُوفَّر آليات مؤسسية لضمان استمرارية الرعاية، تصبح المجتمعات أكثر قدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية، وتحصين الأسرة باعتبارها الوحدة الأولى في النسيج التنموي.

مبادرة “صحتك سعادة”

وفي هذا الإطار، تتقدم مصر بخطى ثابتة نحو دمج الصحة النفسية ضمن أولويات التنمية المستدامة، إدراكًا لما تمثله من حجر زاوية في استقرار الأسرة والمجتمع، وتعد مبادرة “صحتك سعادة إحدى المبادرات الوطنية التي تجسد هذا التوجه، عبر محاور متعددة تستهدف شرائح متنوعة من المواطنين، ومن بينها مسار بالغ الأهمية يركّز على تقديم الدعم النفسي للسيدات الحوامل.

فالرعاية خلال فترة الحمل لا تقتصر على الجوانب الجسدية، وإنما تشمل أيضًا الحالة النفسية للمرأة، لما لها من أثر مباشر في صحة الجنين، واستقرار الأسرة، وجودة التفاعل مع الشريك والمحيط، ولما للحالة النفسية أيضًا من دور في توفير بيئة داعمة نفسيًّا للمرأة الحامل تعزز من قدرتها على رعاية الطفل، وتسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا ووعيًا، وذلك كله بما يتفق مع أهداف التنمية المستدامة.

ويهدف هذا المسار إلى تقديم برامج مخصصة تواكب التحديات النفسية التي تواجهها السيدات خلال الحمل، من قلق وتوتر واضطراب في الهوية والتوقعات؛ فمبادرة “صحتك سعادة” توفر من خلال مراكزها الصحية جلسات دعم نفسي، تشمل التثقيف حول تغيرات المزاج واكتئاب ما قبل الولادة وبعدها، إلى جانب ورش عمل تفاعلية تساعد السيدات على التعبير عن مشاعرهن، والتواصل بشكل صحي مع من حولهن، كما تسعى المبادرة إلى تدريب الطواقم الطبية على أساليب الاكتشاف المبكر للحالات التي تستدعي تدخلًا نفسيًّا احترافيًّا.

إن دعم الأمهات نفسيًّا خلال الحمل وما بعده يُعد ركيزة في استقرار الأسرة، ويعبِّر عن إدراك حقيقي من الدولة لعلاقة الصحة النفسية بالتنمية المستدامة، ومن هذا المنطلق تؤكد حماة الأرض أهمية توسيع نطاق هذا الدعم ضمن السياسات الوطنية؛ لضمان تنمية أكثر عدالة وشمولًا في خدمة الإنسان والمجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى