اليوم العالمي للإبداع والابتكار بوابة للتنمية المستدامة
اليوم العالمي للإبداع والابتكار بوابة للتنمية المستدامة
تتطلّب الحياة المعاصرة أدوات جديدة تتجاوز المألوف، وتفتح آفاقًا أوسع للفهم والعمل؛ فالإبداع والابتكار من أهم المسارات التي تمكّن الأفراد والمجتمعات من تحسين واقعهم وصياغة مستقبل أكثر أفضل في ظل ما يواجهه العالم من تغيرات على جميع الأصعدة.
ومن هذا المنطلق، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2017 يوم 21 إبريل يومًا عالميًّا للإبداع والابتكار، بهدف تعزيز الوعي بأهمية توظيف القدرات الخلّاقة للأفراد والمؤسسات في معالجة قضايا التنمية، وتحفيز المجتمعات على التفكير بطرق غير مألوفة لإيجاد حلول تتناسب مع تحوّلات العصر.
ويأتي هذا اليوم لتأكيد أن الإبداع ليس رفاهية ثقافية، وإنما هو ضرورة استراتيجية تُمكِّن المجتمعات من مواجهة تحدياتها وتحقيق أهدافها؛ ولذلك تتناول حماة الأرض في هذا المقال أهمية تعزيز التفكير الإبداعي في مجالات التنمية المستدامة، وتُسلّط الضوء على كيفية توظيف هذا النوع من التفكير في إيجاد حلول مبتكرة للمشكلات.
علاقة الإبداع بالتنمية المستدامة
لا يقتصر الإبداع على مجالات الفن والأدب فحسب، وإنما يشمل أيضًا القدرة على تطوير نماذج جديدة في العمل والتعليم والصحة والبيئة، حيث إنه يعد القوة الدافعة التي تسمح بتحويل الأفكار النظرية إلى حلول ملموسة تُحدث فرقًا في الواقع، وهذا ما يجعل الإبداع ركيزة من ركائز التنمية المستدامة.
وعندما نربط الإبداع بالتنمية، نرى آثاره تتجلى في تنشيط الاقتصاد من خلال الصناعات الإبداعية، وفي تقوية النسيج المجتمعي عبر تعزيز حرية التعبير والانتماء، وفي حماية البيئة عبر الابتكار الأخضر كذلك؛ إذ إنه الوسيط الذي يربط بين الفكر والعمل.
الاقتصاد الإبداعي محرك لنمو مستدام
وتتجلى العلاقة بين الإبداع والتنمية بشكل واضح في مفهوم الاقتصاد الإبداعي، الذي يُعد من أبرز المسارات الواعدة نحو تحقيق نمو شامل ومستدام، حيث يشهد هذا القطاع تطورًا سريعًا في السنوات الأخيرة بفضل تداخل المعرفة بالتكنولوجيا والابتكار والملكية الفكرية، ويتنوع الاقتصاد الإبداعي ليشمل مجالات مثل: الوسائط الرقمية، والتصميم، والنشر، والفنون البصرية، وهي مجالات لا تقتصر على إنتاج محتوى ثقافي فحسب، وإنما تسهم أيضًا في تعزيز الاقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الثقافة والإبداع يسهمان في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 3.1%، وأن أكثر من 6% من العاملين حول العالم يشاركون في مجالات مرتبطة بهذا القطاع، غير أن أهمية هذه القطاعات لا تقتصر على تأثيرها المالي، وإنما تمتد لتشمل تعزيز التنوع الثقافي، ومنح فرصة للنجاحات المحلية كي تصل إلى الجمهور العالمي، بالإضافة إلى تشجيع المجتمعات على التعبير عن هويتها في ظل عالم متعدد الصراعات.
الإبداع التقني في الصناعات المستدامة
ومع اتساع مفهوم الإبداع، تجاوز الأمر الجماليات أو التعبير الفني، ليشمل الابتكار في الصناعات التي تراعي البيئة وتستجيب لحاجات المجتمعات دون استنزاف الموارد، ومن هنا ظهر مفهوم الصناعات المستدامة التي تجمع بين الابتكار والالتزام البيئي، من خلال إنتاج سلع وخدمات ذات أثر بيئي منخفض، مع الحفاظ على الكفاءة الاقتصادية.
وفي هذا السياق، لا يُقاس الإبداع في هذا المجال بعدد براءات الاختراع فقط، وإنما بمدى التأثير الإيجابي في الطبيعة والمجتمعات؛ فالمصمّم الذي يبتكر عبوات قابلة للتحلل، أو المهندس الذي يطوّر نظامًا ذكيًّا لإدارة المياه، كلاهما يُعدّ مبدعًا بمعايير التنمية المستدامة؛ لأنهما يوظفان الخيال في خدمة كوكبنا وتلبية احتياجاتنا المتزايدة. وهذا النوع من الإبداع يدعم أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالاستهلاك الإنتاج المسئولين، وهو الهدف (12)، كما يسهم أيضا في تحقيق الهدف (9) “الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية”.
ومن الأمثلة المُلهمة على توظيف الإبداع في خدمة الاستدامة، تبرز المحاكاة الحيوية بوصفها منهجًا ابتكاريًّا يستلهم حلولًا تقنية من الطبيعة ذاتها؛ فدراسة الأنماط والهياكل الطبيعية تُتيح للعلماء والمصممين والمهندسين استنباط حلول أكثر كفاءة واستدامة.
ولعل من أبرز التطبيقات العملية لهذا المنهج، استخدام بنية أجنحة الفراشات لتطوير خلايا شمسية تعكس الضوء بكفاءة أعلى، كما استلهم المهندسون المعماريون من تلال النمل الأبيض فكرةَ تصميم مبانٍ قادرة على تنظيم درجة الحرارة الداخلية دون الاعتماد على أنظمة طاقة كثيفة.
وفي السياق نفسه، يُمكن للفنانين أن يسهموا بدور كبير في بناء مستقبل أكثر استدامة، من خلال تسخير قدراتهم الإبداعية لتحفيز الابتكار في مجالات التكنولوجيا الخضراء؛ فمن خلال أعمالهم الفنية، يشاركون في تشكيل وعي بيئي جديد، يدفع الأفراد إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالعالم الطبيعي، ورؤية التحديات البيئية من منظور أكثر عمقًا وتأثيرًا.
على سبيل المثال، يلجأ بعض الفنانين والمصممين إلى تقنيات الواقع الافتراضي لتصميم تجارب تُحاكي آثار تغيّر المناخ، مثل ارتفاع مستوى سطح البحر أو الظواهر الجوية المتطرفة. هذا التجسيد الفني للقضايا البيئية يثير التفاعل العاطفي والمعرفي، ويُسهم في خلق شعور يدفع نحو اتخاذ خطوات فعلية لتحقيق الاستدامة.
العقبات التي تواجه الإبداع
ورغم الإمكانات الهائلة التي يحملها الإبداع والابتكار، فإن الطريق إلى الاستفادة منها ليس خاليًا من التحديات؛ فالدول النامية على وجه الخصوص تعاني من ضعف في تمويل الصناعات الإبداعية، ومن غياب بيئة تنظيمية محفّزة، ومن محدودية الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة. وهذا يحول دون تكافؤ الفرص بين دول العالم في المشاركة الفعلية في مسيرة الابتكار العالمي.
وإلى جانب التحديات البيئية والاقتصادية، يبرز ضعف التعاون الدولي في تبادل البيانات والمعرفة، مع التفاوت الكبير في البنية التحتية التقنية والتعليمية بين الدول والمجتمعات، وهذا الخلل يعمّق الفجوة بين من يملكون أدوات الإبداع ومن يُحرمون منها، ويهدد مبدأ العدالة في الوصول إلى الحلول.
نحو عدالة في الإبداع
وفي ظل هذا الواقع، لا ينبغي أن يبقى الإبداع حكرًا على من يملكون الموارد والتكنولوجيا، ولا امتيازًا لمن تتوفّر لهم الفرص دون غيرهم؛ إذ إن استبعاد أفراد أو مجتمعات من دائرة الإسهام في ابتكار الحلول، يعني إقصاء رؤى قد تكون أكثر مناسبة للواقع وأكثر قدرة على تحقيق تأثير حقيقي.
ولأجل أن يثمر الإبداع، ينبغي توفير مناخ يمنح الثقة، ويوفر الأدوات اللازمة لكل من يحمل فكرة أو رغبة في التغيير. هذا المناخ لا يُبنى إلا بإرادة جماعية تعبّر عنها سياسات محفّزة، ومؤسسات راعية، وثقافة تؤمن بأن الأفكار البسيطة قد تُفضي إلى تحوّلات عظيمة.
إن اليوم العالمي للإبداع والابتكار ليس مجرد مناسبة رمزية، وإنما هو تذكير بقدرة العقل البشري على تجاوز الأزمات ورسم ملامح مستقبل أفضل. ومن هنا، تدعو حماة الأرض إلى تحويل الإبداع من فكرة إلى ممارسة، ومن احتفاء إلى التزام، عبر دعم المبادرات الإبداعية وربطها بأولويات الاستدامة؛ لضمان مستقبل أفضل لنا وللأجيال القادمة.