صناعات مستدامة

خارج الصندوق.. التغليف الصالح للأكل

التغلييف

خارج الصندوق.. التغليف الصالح للأكل

اعتمدت الصناعات الغذائية لعقود على التغليف البلاستيكي باعتباره خيارًا عمليًّا واقتصاديًّا، وأسهم هذا الاعتماد في تراكم النفايات وانتقالها إلى الأنهار والمحيطات، مما أفضى إلى أضرار بيئية يصعب احتواؤها. ومع تنامي الوعي العالمي بمخاطر التلوث، بدأت تساؤلات جادة تُطرح حول جدوى الاستمرار في هذا النهج، في ظل التزامات الدول بأهداف التنمية المستدامة، وقد مهّد هذا التحول الطريق أمام بدائل واعدة، من أبرزها التغليف الصالح للأكل، الذي يعكس توجهًا متصاعدًا نحو إنتاج واستهلاك أكثر مسئولية.

ومن هذا المنطلق، تستعرض حماة الأرض في هذا المقال مفهوم التغليف الصالح للأكل باعتباره أحد أبرز الابتكارات البيئية في قطاع الأغذية، موضحة أنواعه المختلفة، وآليات تصنيعه، إلى جانب فوائده المحتملة وتحديات تطبيقه، ودوره في دعم التحوّل نحو أنماط استهلاك وإنتاج أكثر استدامة؛ فتابعوا القراءة.

تأثير التغليف الصالح للأكل في البيئة

ينتج العالم سنويًّا أكثر من 400 مليون طن من البلاستيك سنويًّا، وتشير التقديرات إلى أن نسبة كبيرة من هذا الرقم تعود إلى قطاع التغليف الغذائي وحده. ويمثّل هذا الواقع مصدر قلق عالمي متزايد، بالنظر إلى ما يترتب عليه من تلوث مستدام ومخاطر بيئية متفاقمة تهدّد استقرار النظم البيئية، وخاصة البحار والمحيطات.

وفي إطار مواجهة هذا التحدي، يعد التغليف الصالح للأكل نموذجًا رائدًا لهذا التحوّل، حيث تُصنَع عبوات التغليف من مواد طبيعية قابلة للهضم مثل الطحالب البحرية أو البروتينات النباتية، ويمكن استهلاكها مع الطعام دون ترك أي نفايات. ويُعيد هذا الابتكار صياغة العلاقة التقليدية بين المستهلك والتغليف، حيث ينتقل الغلاف من كونه مجرد عنصر يُلقى جانبًا، إلى مكوّن غذائي مسئول يسهم في تقليص الفاقد وحماية البيئة في آنٍ واحد، ويأتي هذا التوجّه متوافقًا مع مفاهيم الاقتصاد الدائري، التي تسعى إلى إغلاق حلقة الإنتاج والاستهلاك بطرق مبتكرة.

تتجاوز أهمية هذا التوجّه البعد البيئي المباشر؛ لتلامس التزامات دولية واضحة مثل الالتزام بالهدف (14) من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بالحفاظ على المحيطات والبحار ومواردها الطبيعية؛ إذ إن تقليص الاعتماد على البلاستيك في التغليف يعني الحد من تلوّث البحار، وإنقاذ آلاف الكائنات البحرية من مخاطر النفوق الناتجة عن المواد البلاستيكية.

نماذج تطبيقية

اتجهت بعض الشركات إلى تصميم عبوات تُستهلك مع المنتج أو تتحلل طبيعيًّا دون أن تخلّف نفايات ضارة. وتشمل هذه الابتكارات أكواب القهوة المصنوعة من البسكويت الصلب، وأكياس الجيلاتين المستخرجة من الفواكه، وماصات الشرب المصنوعة من المعكرونة أو السكر أو ألياف التفاح، إضافة إلى أغلفة الحلوى المعتمدة على ورق الأرز، وقد طورت شركة “Bakeys” الهندية أدوات مائدة قابلة للأكل، مثل الملاعق والشوك والسكاكين المصنوعة من دقيق الأرز والقمح، في محاولة للحد من الاستخدام الواسع لأدوات الطعام البلاستيكية.

وفي اتجاه مشابه، أنتجت شركة “Skipping Rocks Lab” زجاجة ماء صالحة للأكل تُعرف باسم “Ooho”، تعتمد على غشاء شفاف من الطحالب، وهذه النماذج تطبيق عملي للهدف (9) من أهداف التنمية المستدامة، الذي يشجّع على الابتكار.

تحديات التطبيق

ورغم أن هذا الاتجاه يُبشّر بمستقبل أكثر مستدام، فإنَّ طريق التحول نحو التغليف الصالح للأكل لا يخلو من التحديات، وعلى رأسها التكلفة؛ إذ لا تزال المواد الطبيعية والتقنيات المستخدمة في تصنيع هذه العبوات أعلى تكلفة من البلاستيك التقليدي، مما يحدّ من قدرتها على المنافسة في الأسواق واسعة النطاق.

وتتطلب بعض هذه العبوات شروط تخزين خاصة، مثل الحماية من الرطوبة والحرارة، وهو ما يُضيف عبئًا لوجستيًّا على شركات التوزيع، هذا بالإضافة إلى الحاجة لتغيير ثقافة المستهلك؛ إذ إن كثيرين لا يزالون غير مستعدين لتناول عبوة غذائية، حتى وإن كانت آمنة وصحية.

غير أن هذه التحديات لا تعني بالضرورة عرقلة التقدّم، وإنما يمكن التعامل معها باعتبارها بوابة للبحث والتطوير، وبناء شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص بهدف توسيع نطاق الابتكار، وتعزيز الوعي العام بأهمية التحوّل نحو بدائل مستدامة، وتبعات الاستمرار في استخدام التغليف البلاستيكي التقليدي. ومع تسارع وتيرة التطورات التكنولوجية، وازدياد الضغوط الاقتصادية والتنظيمية الدافعة للتغيير، يُتوقع أن تتراجع حدة هذه العقبات تدريجيًّا.

المكاسب الاقتصادية

وعلى الجانب الآخر، يبرز التغليف الصالح للأكل باعتباره فرصة اقتصادية وتجارية تحمل وعودًا كبيرة؛ إذ لا يقتصر أثره على خدمة البيئة فحسب، وإنما يتجاوز ذلك ليمنح الشركات مسارًا لتعزيز أرباحها وبناء سمعة مؤسسية أكثر استدامة؛ ففي زمن أصبحت فيه المسئولية البيئية عاملًا جوهريًّا في تقييم العلامات التجارية، يمثل هذا النوع من التغليف وسيلة فعالة لاكتساب ثقة المستهلك وولائه، كما يوفر ميزة تنافسية حقيقية في أسواق باتت تتجه بثبات نحو الابتكار الأخضر والحلول المستدامة.

علاوة على ذلك، فإن التنوع في تطبيقات هذه التقنية يمنح الشركات مرونة كبيرة في التصميم والإبداع، سواء في منتجات باردة أو ساخنة، أو حتى في سلع غير غذائية مستقبلًا، وهذا التنوع يدعم الهدف (12) من أهداف التنمية المستدامة، ويُسهم في كسر النمطية التقليدية لصناعة التعبئة والتغليف.

ورغم أن هذا النوع من التغليف ليس الحل الوحيد، فإنه يُعد جزءًا أساسيًّا من منظومة حلول أوسع تعيد التوازن بين الإنسان والكوكب. ومع تنامي المبادرات البيئية والتشريعات الداعمة، يُتوقع أن يمتد استخدام التغليف الصالح للأكل إلى مجالات متعددة، منها الصناعات الطبية والتجميلية، وكذلك قطاع النقل.

ويُشير مجال التغليف الصالح للأكل إلى رؤية أعمق لمستقبلنا المشترك، رؤية تتجاوز مجرد التكنولوجيا لتلامس جوهر مسئوليتنا البيئية، حيث لم يعد البقاء على النهج القديم خيارًا مستدامًا؛ فكوكبنا ينادي بتغيير جذري في كيفية تفاعلنا مع موارده المتناقصة، لذلك تؤمن حماة الأرض بأنَّ كل خطوة نحو هذه الحلول ترسم مسارًا لمستقبل تضيئه قراراتنا الواعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى