دواء السمنة يشعل الجدل والصحة العالمية تحسم الأمر
دواء السمنة يشعل الجدل والصحة العالمية تحسم الأمر
قبل الحديث عن السمنة يجب أنْ نعي أنَّ الصحة تقف عند مسافة قريبة من التنمية المستدامة؛ فإنَّ أبعاد التنمية -اجتماعيًّا واقتصاديًّا وبيئيًّا- لا يمكن أنْ تتحقق دون تحقيق الهدف رقم (3) “الصحة الجيدة والرفاه”؛ إذْ إنَّ قضايا مثل التلوث البيئي، وعدم المساواة بين الجنسين، والاختلال في جهود النمو الاقتصادي؛ كلها متوقفة على أنْ يكون أفرادُ المجتمع أصحابَ صحة وكفاءة بدنية تؤهلهم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ومن هذا المنطلق تظل بعض الأمراض المزمنة عقبة من عقبات هذا المجال، ومنها مرض السمنة؛ مرض العصر الذي يمكنه أنْ يقوض جهود التنمية المستدامة، وهو المرض الذي تضاعف عالميًّا -وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية- ثلاث مرَّات في العقود الأربعة الماضية، حيث أُصيب بزيادة الوزن حوالي 2 مليار بالغ، ومن بين هؤلاء، كان 650 مليون بالغ يعانون من السمنة.
مشكلة السمنة وتأثيرها في التنمية المستدامة
وعلى ذلك أعلنت منظمة الصحة العالمية -في خطوة تُعدّ الأولى من نوعها- أنها بصدد دعم استخدام الأدوية المخصصة لإنقاص الوزن وعلاج السمنة، وفقًا لمذكرة داخلية اطلعت عليها وكالة “رويترز”. ويشير القرار المرتقب إلى تحوّل ملحوظ في طريقة معالجة هذا التحدي الصحي المتصاعد، خاصة وأن عدد المصابين بالسمنة في العالم تجاوز المليار إنسان، غالبيتهم يعيشون في دول ذات دخل منخفض أو متوسط.
وتأتي هذه الخطوة في وقت باتت فيه السمنة -مثلما أشرنا من قبل- تهديدًا صحيًّا ذا أبعاد اجتماعية واقتصادية وبيئية متشابكة، حيث تُعد من العوامل الرئيسية المسببة لأمراض القلب والسكري والسرطان، وتؤثر بشكل مباشر في إنتاجية الأفراد ورفاه المجتمعات؛ مما يجعل مكافحتها ضرورة من ضرورات تحقيق الهدف (3) من أهداف التنمية المستدامة، المتعلق بالصحة الجيدة والرفاه.
قدرات دوائية في مواجهة السمنة
تستند منظمة الصحة العالمية في موقفها الجديد إلى بيانات طبية حديثة تُثبت مدى جدوى مجموعة من الأدوية تُعرف باسم “ناهضات مستقبل الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1” (بالإنجليزية: Glucagon-(like peptide-1 receptor agonist؛ وهي فئة من العلاجات تُستخدم لتنظيم مستويات السكر في الدم، وتساعد على كبح الشهية عبر تقليد تأثير هرمون طبيعي في الجسم.
ومن بين هذه الأدوية يبرز “ويجوفي” من شركة “نوفو نورديسك” و”زيبباوند” من شركة “إيلاي ليلي”، وتُظهر التجارب السريرية أنَّ المرضى الذين استخدموا هذه الأدوية فقدوا ما بين 15% إلى 20% من وزنهم؛ مما يُعد إنجازًا واعدًا في مسار علاج السمنة.
غير أن هذه النتائج الإيجابية تصطدم بعقبة كبيرة تتعلق بتكلفة العلاج؛ إذ طُرحت هذه الأدوية في الولايات المتحدة بتكلفة شهرية تتجاوز 1000 دولار، ويُرجَّح أن يحتاج المرضى إلى استخدامها بشكل مستمر للحفاظ على النتائج، وهذا ما يشير إلى مضاعفة الأعباء المالية على الأفراد وأنظمة الصحة العامة، خاصة في الدول النامية.
ومن هذا المنطلق، تُطالب منظمة الصحة العالمية بوضع استراتيجيات فعالة لتحسين الوصول إلى هذه الأدوية، تشمل آليات مثل آلية التسعير المتدرج أو آلية الشراء الجماعي، وهي آليات أثبتت نجاحها سابقًا في تسهيل الحصول على علاجات فيروس نقص المناعة البشرية في مطلع الألفية، حين تم إدراجها في قائمة الأدوية الأساسية الخاصة بالمنظمة.
الصحة العالمية تحسم الأمر
ومن المقرر أن تجتمع لجنة خبراء من منظمة الصحة العالمية الأسبوع المقبل؛ لبحث إدراج أدوية “GLP-1” في قائمة الأدوية الأساسية، سواء لعلاج السمنة أو مرض السكري من النوع الثاني، حيث تُعد هذه القائمة مرجعًا أساسيًّا لأنظمة الصحة العامة، وتؤدي دورًا محوريًّا في إتاحة الأدوية الأساسية بأسعار معقولة -خاصةً في الدول التي تواجه تحديات في تمويل القطاع الصحي- أو في الوصول العادل إلى العلاجات الفعالة.
ورغم أن اللجنة نفسها رفضت العام الماضي إدراج هذه الأدوية لعدم كفاية الأدلة حول جدواها الطبية على المدى الطويل، فإن المذكرة الجديدة الصادرة عن المنظمة تدعو بشكل صريح إلى إعادة النظر في هذا القرار، استنادًا إلى نتائج جديدة تدعم فعالية الدواء ضمن إطار علاج شامل يتضمن تغييرات في نمط الحياة والرعاية السريرية.
وفي مؤشر يُبشر بانخفاض الأسعار مستقبلًا، تشير الوثيقة إلى أن براءة اختراع المادة الفعالة في دواء “ويجوفي” -المعروفة باسم سيماجلوتايد- ستنتهي في بعض الأسواق بحلول العام المقبل، وهذا سوف يفتح المجال أمام إنتاج نُسخ مكافئة منخفضة التكلفة. وجدير بالذكر أن مادة “ليراجلوتايد”، المستخدمة في الجيل الأقدم من هذه الأدوية، أصبحت بالفعل متاحة باعتبارها علاجًا مكافئًا في الولايات المتحدة وأوروبا.
نهج متكامل لعلاج السمنة
ومع توفر هذه البدائل الدوائية المحتملة، تؤكد منظمة الصحة العالمية أن الاعتماد على الدواء وحده لا يكفي، وإنما ينبغي دمجه ضمن نهج علاجي شامل لمعالجة السمنة؛ فهذه الأدوية -وفقًا للمنظمة- هي عنصر داعم ضمن نموذج رعاية يعتمد على مزيج من التدخلات السريرية والسلوكية والغذائية. ومن هذا المنطلق، تعمل المنظمة منذ عام 2022 على صياغة توصيات لإرساء إطار متكامل للتعامل مع السمنة، يأخذ في الاعتبار احتياجات الفئات العمرية المختلفة من الأطفال والمراهقين إلى البالغين.
ومن المتوقع أن تُنشر هذه التوصيات رسميًّا في أغسطس أو سبتمبر من العام الجاري، لتُمثل مرجعًا دوليًّا للسياسات الصحية الوطنية، وتُكرِّس لفكرة أن السمنة هي حالة طبية مزمنة تتطلب تدخلًا علميًّا ممنهجًا. وهذا التوجه يعكس فلسفة الرعاية الصحية المستدامة، القائمة على التوازن بين العلاج الوقائي والتدخل الطبي الطويل الأمد، بما يتفق مع أهداف التنمية المستدامة، خاصة الهدف (3) “الصحة الجيدة والرفاه”، والهدف (10) “الحد من أوجه عدم المساواة”.
وفي هذا السياق، تذكِّرنا أزمة السمنة بأنَّ الوقاية خير من العلاج، وهي النصيحة الأهم التي تقدمها حماة الأرض؛ فعلى جميع الأفراد اتباع سلوكيات غذائية صحية، وممارسة نشاط بدني مناسب، والحد من استهلاك المشروبات المحلَّاة بالسكر، والامتناع عن تناول الأطعمة التي تحتوي على سعرات حرارية، مع زيادة تناول الفواكه والخضروات والبقوليات والحبوب الكاملة.
ويستدعي ذلك التحول الصحي اتخاذ إجراءات متعددة في القطاعات الصناعية الغذائية، مثل تنفيذ نماذج تصنيعية تسعى إلى إتاحة خيارات غذائية أوفر صحة، مع ضمان إتاحتها بأسعار معقولة لجميع المستهلكين، وكذلك يمكننا فرض قيود على تسويق الأطعمة التي لا تنتهج منهجًا مستدامًا في خط إنتاجها.
ولذلك ترى حماة الأرض أنَّ ما تقدمه منظمة الصحة العالمية من دعم إلى أدوية السمنة خطوة مهمة، غير أنها لن تؤتي ثمارها دون تنفيذ هذه السياسات وتلك الإجراءات المستدامة، مع ضمان إتاحة العلاج لجميع البلدان.