أخبار الاستدامة

الأجندة الإفريقية تتصدر قمة العشرين وسط أزمات التمويل والمناخ

الأجندة الإفريقية

الأجندة الإفريقية تتصدر قمة العشرين وسط أزمات التمويل والمناخ

لأول مرة في تاريخها، استضافت مدينة ديربان الساحلية اجتماعات مجموعة العشرين التي تعد منتدى دوليًّا يجمع الحكومات ومحافظي البنوك المركزية من 20 دولة والاتحاد الأوروبي، بهدف مناقشة السياسات المتعلقة بتعزيز الاستقرار المالي الدولي. وقد انعقدت هذا العام برئاسة إفريقية، في 17 و18 يوليو الجاري، في لحظة فارقة تتقاطع فيها مصالح القارة مع التحديات الاقتصادية العالمية.

وفي هذا السياق، تتقدم “الأجندة الإفريقية” بثقة إلى قلب الطاولة العالمية، لتُعيد لتوزيع أولويات الاقتصاد العالمي، ورغم الأجواء المشحونة التي خيَّمتْ على الاجتماعات -نتيجة تصاعد التوترات التجارية العالمية، وانسحاب بعض الدول من محاور الحوار- أكد محافظ البنك الاحتياطي لجنوب إفريقيا “ليستيجا كجانياجو” أنَّ قضايا إفريقية حيوية مثل تغير المناخ، وتكاليف رءوس الأموال، ونُظم الدفع عبر الحدود؛ لا تزال حاضرة بقوة على طاولة النقاش.

الاقتصاد العالمي

وقد شكّل غياب وزير الخزانة الأميركي “سكوت بيسينت” عن القمة للمرة الثانية على التوالي، مؤشرًا على الانقسامات المتزايدة داخل المجموعة، وأثار تساؤلات حول فاعلية المنتدى في مواجهة التحديات المشتركة، خاصة في مجالات المناخ والتنمية.

مصر تطرح رؤيتها عن الشمول المالي

وقد شاركت مصر في الاجتماعات الأخيرة لمجموعة العشرين بجنوب إفريقيا، وجاءت مشاركتها لتُجسّد هذا الحضور الإفريقي المتصاعد، حيث ترأس الوفد المصري السيد/ حسن عبد الله محافظ البنك المركزي، وضم الوفد عددًا من كبار المسئولين من البنك المركزي ووزارة المالية، وذلك في الجلسات التي ناقشت قضايا الاقتصاد الكلي، والهيكل المالي العالمي، والشمول المالي، والتنمية المستدامة.

وقد أكد السيد المحافظ على أهمية بناء منظومة مالية عالمية أكثر شمولًا وإنصافًا، مشددًا على ضرورة تمكين الدول النامية -خاصة الإفريقية- من الوصول إلى التمويل الميسّر، وإصلاح المؤسسات متعددة الأطراف، وتعزيز التمثيل الإفريقي داخلها. كما دعا إلى توسيع نطاق “الإطار المشترك” ليشمل الدول متوسطة الدخل، وتفعيل أدوات الحد من المخاطر لتشجيع الاستثمار الخاص، مؤكدًا أن الشمول المالي وتمكين المرأة والشباب يُمثلان مداخل استراتيجية لتحفيز النمو الشامل وتعزيز الصمود الاقتصادي والمناخي.

وشدد الوفد المصري، في أكثر من مناسبة، على ضرورة تبنّي حلول مبتكرة لإدارة الديون وتوجيه حقوق السحب الخاصة، وربط الاستثمارات الدولية بالأولويات الوطنية، مؤكدًا أن تعزيز الإنتاجية وتطوير البنية التحتية وتحفيز الشراكات العابرة للحدود -خاصة في إفريقيا- هي مفاتيح جوهرية لتجاوز التحديات التمويلية والمناخية المتفاقمة.

نظام دفع إفريقي لمستقبل تجاري مستقل

وفي خضم السجال الدائر حول سياسات الرسوم الجمركية، كشفت تصريحات “كجانياجو” رئيس البنك الاحتياطي لجنوب إفريقيا، عن رؤية إفريقية جريئة، تتمثل في إنشاء نظام موحّد للدفع عبر الحدود لتسهيل التجارة البينية في القارة، بعيدًا عن هيمنة الدولار أو أي عملة أجنبية، وقال كجانياجو: “لقد قررنا بوصفنا مسئولين عن البنوك المركزية في إفريقيا، أننا سنمكّن من حركة المدفوعات عبر الحدود؛ فنحن لا نحاول تجاوز أحد، وإنما نسعى إلى تسهيل التجارة في قارتنا”.

هذه الخطوة، التي تندرج ضمن مساعي “الأجندة الإفريقية”، تهدف إلى تحرير الاقتصادات الإفريقية من التبعية البنكية الخارجية، وتوفير بيئة نقدية أكثر مرونة واستقلالية. غير أن هذه المبادرة لا تمرّ من دون تحديات؛ إذ تواجه انتقادات متوقعة من قبل الإدارة الأميركية بقيادة ترامب، الذي أعاد خطاب العقوبات الجمركية إلى الواجهة، مهددًا دول “البريكس” برسوم جديدة بسبب ما وصفه بـ”سياسات مناهضة لأميركا”.

أزمة الرسوم بين التهديدات والتجاهل

في الوقت الذي تطغى فيه لغة الحماية الاقتصادية والرسوم الجمركية على النقاشات، تُظهر مجموعة العشرين انقسامًا في التعامل مع هذه التهديدات؛ فقد صرّح “كجانياجو” بأن الدول الأعضاء لا تتجه إلى تبني ردّ مشترك تجاه الرسوم التي تفرضها الولايات المتحدة، وإنما يختار كل بلد الاستجابة بشكل يتناسب مع وضعه الاقتصادي، كما حدث خلال جائحة كورونا.

ويرى محللون أن هذا النهج يعكس فشل المجموعة في الحفاظ على روح التعاون الجماعي، ويكشف في الوقت نفسه عن تراجع التعددية الدولية وسط التوترات الجيوسياسية المتصاعدة. واللافت أن مشاركة واشنطن اقتصرت هذه المرّة على حضور “مايكل كابلان” نائب وزير الخزانة للشئون الدولية، وهو ما يعد إشارة إضافية إلى تراجع الدور الأميركي في قيادة التوافقات الاقتصادية الدولية، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى التنسيق متعدد الأطراف.

عدالة مالية من أجل التنمية

في ظل التراجع الحاد في تدفق المساعدات التنموية، وتحوّل أولويات الدول الغربية نحو الإنفاق العسكري والدفاعي، تجد الدول الإفريقية نفسها في مواجهة أزمة تمويل متفاقمة؛ فوفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن أكثر من عشرين دولة إفريقية باتت إما في حالة تعثّر مالي فعلي، أو على حافة الانزلاق نحوها، وهو ما يُهدد بتجميد أو تباطؤ مشروعات حيوية في مجالات البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.

انطلاقًا من هذه التحديات، تسعى جنوب إفريقيا، مستفيدة من رئاستها الحالية لمجموعة العشرين، إلى دفع الدول الأعضاء نحو تعزيز دور بنوك التنمية متعددة الأطراف، وتسهيل وصول البلدان النامية إلى تمويل ميسّر ومستدام، يمكن أن يحقق نموًا طويل الأجل دون إثقال كاهل الدول بالديون.

وفي هذا السياق، تعود مبادرة “الإطار المشترك”  التي أطلقتها مجموعة العشرين عام 2020 إلى الواجهة، باعتبارها منصة لمعالجة أزمة الديون في البلدان الفقيرة. غير أن بطء تنفيذ المبادرة وضعف شموليتها دفع جنوب إفريقيا إلى إطلاق “اللجنة الإفريقية للخبراء الماليين” في مارس الماضي، بهدف تقديم توصيات عملية لتسريع وتوسيع نطاق إصلاحات الإطار المشترك، بحيث تشمل أيضًا الدول متوسطة الدخل، التي تعاني من ضغوط مالية متزايدة، رغم استبعادها من مظلة المبادرة حتى الآن.

أزمة الديون في البلدان الفقيرة

المناخ والتراجع الأميركي

وفي وقت تتصاعد فيه الكوارث المناخية في الجنوب العالمي، من الفيضانات إلى الجفاف وحرائق الغابات، كان من المنتظر أن تلعب قمة العشرين دورًا محوريًّا في تعبئة الموارد المالية لمواجهة أزمات المناخـ وغيرها من الأزمات الراهنة في إفريقيا، إلا أن الانسحاب الأميركي من اتفاقية “الشراكة من أجل انتقال عادل للطاقة(JETP) “، وهو أحد المحاور الأساسية لقمة ديربان، أعاد خلط الأوراق.

فقد جاءت “الشراكة من أجل انتقال عادل للطاقة”، التي أُطلقت في عام 2021، باعتبارها من أبرز المبادرات الداعمة لتحول الطاقة في البلدان النامية، عبر تمويل مشروعات الطاقة المتجددة بمزيج من الموارد الحكومية والاستثمارات الخاصة، مع التأكيد على إشراك المجتمعات المحلية في عملية التحول.

غير أن انسحاب واشنطن من هذه المبادرة، إلى جانب تجميد دور المجلس المالي الدولي في تتبّع التزامات الدول تجاه التمويل المناخي، ألقى بظلال ثقيلة على مصداقية تعهدات الشمال الغني، وطرح تساؤلات جوهرية حول مدى التزامه الفعلي بالعدالة المناخية والتنمية المستدامة في الجنوب العالمي.

ورغم هذا التراجع، تواصل جنوب إفريقيا التمسك بملف التمويل المناخي باعتباره أولوية ملحّة، مؤكدة أن توفير التمويل المناخي بات ضرورة وجودية لإنقاذ الأرواح وحماية النظم البيئية، خاصة في ظل استمرار غياب العدالة المناخية بين الدول الصناعية الغنية والدول النامية الأكثر هشاشة.

في خضم هذا المشهد القاتم من التراجع الغربي عن التمويل المناخي، وتضاؤل المساعدات التنموية، تبدو القارة الإفريقية وكأنها تُركت لتواجه أزماتها بمفردها. ومع ذلك، لم تقف موقف المتفرج، وإنما واصلت التحرك على الساحة الدولية، مستثمرة رئاستها لمجموعة العشرين للدفع نحو نظام اقتصادي أكثر عدالة واستدامة، يُعيد التوازن إلى العلاقات الدولية ويمنح الدول النامية الأدوات اللازمة للصمود.

وقد جاءت تصريحات المدير العام لوزارة الخزانة الجنوب إفريقي “دنكان بيترسي” في ختام الاجتماعات، لتعكس هذا التوجه بوضوح، إذ عبّر عن أمله في أن تُتوّج القمة بإصدار أول بيان مشترك تحت الرئاسة الإفريقية، وهي خطوة رمزية غير أنها بالغة الدلالة، خاصة أن مجموعة العشرين عجزت عن إصدار بيان موحّد منذ يوليو 2024، وإن تمكُّن القارة من توحيد أطراف المجموعة حول صيغة توافقية سيكون بمثابة رسالة سياسية قوية مفادها أن إفريقيا، رغم التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، لا تزال قادرة على جمع العالم على طاولة واحدة، والدفع بأجندة تنموية عادلة لا تُقصي أحدًا.

وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن رئاسة جنوب إفريقيا لمجموعة العشرين تمثل لحظة فارقة في مسار إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية العالمية، حيث تتقدم أولويات الجنوب العالمي لتأخذ موقعها الطبيعي في قلب السياسات الدولية؛ فبدعم أجندة تركز على العدالة المناخية والتمويل المستدام والإصلاحات الهيكلية، تُطرح فرص واعدة لبناء شراكات ترتكز على التوازن والإنصاف.

ومع تصاعد التحديات المناخية واتساع الفجوة التنموية، تبرز قمة ديربان بوصفها منصة لصياغة ميثاق جديد يعزز التضامن بين الشمال والجنوب، ويرسّخ اقتصادًا عالميًّا أكثر قدرة على الصمود والاشتمال، يكون فيه لصوت إفريقيا وزن حقيقي ومسار واضح في مستقبل التنمية عالميًّا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى