لقاح يستثمر في صحة الاقتصاد
لقاح يستثمر في صحة الاقتصاد
ملايين الأطفال حول العالم ما زالوا يُحرمون من اللقاحات الأساسية، رغم قدرتها على إنقاذ حياتهم وفتح أبواب لمستقبل أكثر صحة وعدلًا؛ فلا تقتصر أهمية اللقاح على كونه مجرد وسيلة طبية، وإنما هو أداة تمكين حقيقية، تسهم في تقليل الفقر، وتحسين فرص التعليم، وتعزيز الإنتاجية في المجتمعات الأكثر هشاشة؛ ولذلك يصبح الاستثمار في التحصين اليوم استثمارًا في أجيال الغد، وفي اقتصادات أكثر قدرة على الصمود في وجه الأزمات.
وانطلاقًا من هذه الرؤية التي تضع الصحة في قلب السياسات التنموية، تتزايد أهمية النماذج العالمية التي تسعى إلى توسيع نطاق التحصين وضمان الوصول العادل إلى اللقاح، خصوصًا في البلدان منخفضة الدخل، وتبرز مبادرات دولية رائدة تجمع بين قدرات التمويل والخبرة الصحية بهدف بناء نظم تحصين أكثر استدامة وعدالة.
وفي هذا الإطار، تتناول حماة الأرض اليوم أبعاد واحدة من أبرز تلك المبادرات، وهي الشراكة بين “تحالف جافي للقاحات” ومجموعة البنك الدولي، باعتبار تلك الشراكة نموذجًا يجسد كيف يمكن للتدخلات الصحية أن تتحول إلى أدوات استراتيجية للنمو الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة على المدى الطويل؛ فتابعوا القراءة.
شراكة صحية من أجل تنمية مستدامة
تطمح الشراكة بين تحالف جافي والبنك الدولي إلى إيصال اللقاحات لنصف مليار طفل بحلول عام 2030، عبر تمكين الدول من قيادة جهود التحصين وتعزيز استدامة نظمها الصحية، ويُعد هذا النموذج من أكثر المبادرات طموحًا في مجال الصحة العالمية، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعاون لا يقتصر على الجوانب التمويلية أو الفنية، وإنما يُجسّد تحوّلًا في فلسفة المساعدة الدولية، من التدخلات الظرفية قصيرة الأجل إلى التمكين المستدام، عبر بناء نظم صحية وطنية قادرة على إدارة برامج التطعيم بكفاءة واستقلالية.
وتنعكس ملامح هذا التحوّل فيما تحقق فعليًّا؛ إذ تمكّن تحالف جافي منذ عام 2000 من إيصال اللقاحات لأكثر من 1.1 مليار طفل، في حين استفاد نحو 200 مليون شخص في عام واحد من خدمات صحية بدعم البنك الدولي، وهذه الأرقام ليست إنجازًا صحيًّا فقط، وإنما ركيزة لبناء مجتمعات أكثر قدرة على التعلّم والعمل، في بيئات تقل فيها الأعباء وتزداد فيها الفرص.
تطعيم الأطفال منقذ صحي ومحرّك اقتصادي
الاستثمار في التحصين لا يُنقذ الأطفال من الأمراض فحسب، وإنما يُوفر على الحكومات تكاليف باهظة، ويفتح آفاقًا اقتصادية للأسر والمجتمعات؛ فالصحة هي مدخل أساسي لمكافحة الفقر، وتحسين التحصيل الدراسي، وزيادة فرص العمل؛ فعلى سبيل المثال، في إندونيسيا ساعد الدعم المشترك من جافي والبنك الدولي على تقليص نسبة الأطفال غير المطعّمين من 44% عام 2018 إلى 21% فقط في عام 2023، وفي لاوس، ارتفعت نسبة التغطية بثلاث جرعات أساسية من اللقاحات من 61% إلى 92% خلال أقل من عام واحد، وهذا التحوّل لم يكن ليحدث دون بنية صحية قوية، وتمويل مستدام، واستراتيجية تقودها الدولة نفسها.
ورغم هذا التقدّم، لا يزال هناك 14.5 مليون طفل حُرموا من اللقاح في عام 2023 وحده، وهو رقم صادم، يُلقي الضوء على الفجوات المتبقية، ويُؤكد أن الطريق ما زال طويلًا؛ لذلك تُضاعف الشراكة جهودها، وتضع هدفًا بجمع 2 مليار دولار إضافية عبر أدوات التمويل المختلط، لتوسيع نطاق الرعاية الصحية الأولية وتوفير اللقاح للفئات الأكثر تهميشًا.
التصنيع المحلي للقاح
يعد دعم التصنيع المحلي للقاحات في دول الجنوب العالمي من الأعمدة الأساسية الجديدة لهذه الشراكة؛ فالاعتماد الكامل على الواردات لم يعد خيارًا آمنًا بعد دروس الجائحة، وأصبح تعزيز الإنتاج المحلي ضرورة إستراتيجية للصحة والسيادة والاقتصاد، وبمساعدة جافي والبنك الدولي، يتم الآن بناء منظومات تصنيع صحية متكاملة، تشمل البنية التحتية، وتنظيم الأسواق، وتدريب الكوادر، وتحفيز الاستثمار الخاص. وضمن هذا الإطار، انطلقت مبادرة “مسرّع تصنيع اللقاحات في إفريقيا”، التي تهدف إلى تمكين القارة من إنتاج 60% من لقاحاتها محليًّا بحلول عام 2040.
هذا التحوّل بالإضافة إلى أنه يُعزّز الأمن الصحي، فإنه يوفر فرص عمل، ويحفّز الابتكار المحلي، ويُخفّف الضغط على سلاسل الإمداد العالمية، ويُسهم إنشاء مصانع محلية في تقليل الاعتماد على الخارج، وتعزيز جاهزية الدول للاستجابة للأزمات دون اختناقات في الإمداد، وهنا يتضح أن السيادة الصحية شرط أساسي لتحقيق العدالة المناخية والاقتصادية؛ فكلما زادت قدرة الدول على إنتاج لقاحاتها، زادت قدرتها على التعامل مع الأوبئة، وحماية الفئات الضعيفة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وفي هذا السياق، ترى حماة الأرض أن ما أفرزته الشراكة بين جافي والبنك الدولي تفتح الباب لنموذج عالمي جديد يُمكّن الدول من بناء قدراتها الصحية، بعيدًا عن أنماط الاعتماد المزمن على الدعم الخارجي، غير أن تحقيق هذا الهدف لا يتوقف على التمويل وحده، وإنما يتطلب إرادة سياسية طويلة الأمد، وشراكات ذكية تحترم خصوصيات الدول، وتُعيد وضع الإنسان في صميم القرار التنموي.