أحلام البيئة الأفلاطونية وواقع القطاعات الاستثمارية
أحلام البيئة الأفلاطونية وواقع القطاعات الاستثمارية
ربما لم يدرك الفيلسوف الشهير «أفلاطون» أنَّ بعد قرون عديدة مِن وفاته، سيظل اسمه مترددًا ليس فقط في الأوساط الأكاديمية، وإنما أيضًا على لسان الكثيرين عند التهكم على راغبي الكمال والمثالية. ولعل هذا هي الحالُ بين الغالبية العظمى من المسئولين والمدافعين عن الشأن البيئي، رغبةً منهم في إقامة مدينة فاضلة تكون فيها الاعتبارات البيئية دستورًا وقانونًا، في ظل انعزالٍ تام عن واقعنا الذي نعيشه، ومتطلبات التنمية التي لا غنى عنها مهما كان الثمن.
لا يخفى على أحد ذلك الصراع الدائم والمستمر بين المعسكر البيئي -وما يمثله من مؤسسات تنفيذية وأكاديمية وتشريعية- والمعسكر الاستثماري -وما يمثله من مؤسسات صناعية وخدمية- حيث يركز الأول على كل ما يحفظ البيئة وعناصرها مهما كلف الأمر، دون الاكتراث بأي اعتبار آخر، في حين يعمل الثاني على تحقيق أهدافه الربحية وحماية مصالحه مهما كانت الوسيلة، في ظل غياب تام لشعرة معاوية في العلاقة بين كلا المعسكرينِ.
الموازنة بين حتميينِ
كل ما نراه -وما لا نراه- حولنا يحمل تأثيرًا متباينًا في البيئة، ولكن في المجمل نجد أنَّ الأثرَ السلبيَّ جزءٌ ثابتٌ وأساسيٌّ في كل شيء، حتى تلك الأشياء التي يتم الترويج لها باعتبارها صديقة للبيئة لا تزال تحمل في طياتها أثرًا سلبيًّا ولو بسيطًا. على سبيل المثال، الطاقة الشمسية تؤثر سلبًا في استخدامات الأراضي والمواطن الأصلية لكثير من الكائنات، وتستخدم العديد من المواد الخطرة، في حين أن طاقة الرياح تؤثر بشكل سلبي في الطيور المهاجرة والعديد من الطيور المحلية الأخرى، وحتى الإنسان في ذاته -إذا نظرنا إلى الأمر بشكل موضوعي- مؤثر في البيئة تأثيرًا سلبيًّا دائمًا.
لذا، يتوجب علينا -عند تقييم الأثر البيئي لأي نشاط- الأخذ بعين الاعتبار المناحي الأخرى ذات التأثير الأوسع، فكما أنَّ تعدين وصناعة الحديد والصلب عمليةٌ ملوِّثةٌ للبيئة، يدخل الصلب في صناعة المعدات الخاصة بتوليد الطاقة المتجددة، وصناعة السيارات الكهربائية وغيرها، وكما أنَّ الأسمنت صناعة ملوثة جدًّا للبيئة، إلا إنه يمثل المادة الأساسية في بناء المرافق الأساسية والبنية التحتية التي تعمل كلها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ والأمثلة الأخرى عديدة لا يتسع لها المقال.
ومن هذا المنطلق، يجب علينا أنْ نتحلى بفهم شامل ووعي كامل لتحقيق الموازنة بين حتميينِ: الحفاظ على البيئة، واستمرار التنمية؛ ليكونا كالجناحينِ لنهضة وتقدم بلدنا؛ فبدون الحفاظ على البيئة لا حياة، وبدون استمرار التنمية لا حياة أيضًا.
أزمة التشريع والتطبيق
للأسف الشديد، فإنَّ ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة أمرٌ غائبٌ عن أذهان الغالبية العظمي من منظمي الشئون البيئية في كثير من البلدان، ومن بينها مصر! وهو الأمر الذي نراه في هيئة تشريعات متخصصة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، حيث يضطر المستثمر إلى الالتفاف عليها، أو حتى هجرة السوق المحلي بسببها. ولعل من الأمثلة القريبة على ذلك، هو قرار وزارة البيئة رقم (49) لسنة 2021، الذي ألزم مصانع الأسمنت باستخدام نسبة دنيا من الوقود المشتق من المرفوضات “RDF” في مزيج الطاقة.
القرارُ في ظاهره خطوةٌ إيجابيةٌ نحو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري في صناعة الأسمنت، بالإضافة إلى حماية البيئة من كميات كبيرة من المخلفات، إلا إنَّ القرارَ لم يفرق بين مصانع الأسمنت الرمادي والأسمنت الأبيض، حيث يستحيل -فنيًّا- تطبيقه على صناعة الأسمنت الأبيض لما يحمله من تأثير سلبي في نصاعة لون المنتج النهائي، كما لم يضع القرارُ آليةً واضحةً وشفافةً لضمان تطبيقه، لنجد أنفسنا أمام موقف معقد أربك القطاع الاستثماري دون داعٍ.
هذا الفهم الضيق -على المستويات التنفيذية والحكومية العليا- ينتقل تأثيره ليصل إلى مفتشي البيئة وغيرها لدى مختلف الوزارات، وهو ما نسمع عنه في صورة أخبار عن مؤسسة صناعية أو خدمية عملاقة يتم إيقافها عن العمل، بمحضر يكتبه موظف لسببٍ واهٍ قد لا يكون مخالفًا للقانون من الأساس.
رمانة الميزان
إنَّ الهدفَ من هذا الطرح ليس التهوين من تأثير القطاع الاستثماري في البيئة، ولا التهويل من عرقلة البيئة للقطاع الاستثماري، وإنما تسليط الضوء على غياب رمانة الميزان في معادلة طرفاها متضادانِ ومتكاملانِ في الوقت نفسه، وهو أمر يعكر صفو الاستثمار في بلد هو أحوج ما يكون له، ويخلق حالةً من الالتزام الوهمي بتشريعات ولوائح منفصلة عن الواقع.