الاقتصاد الرقمي لعام 2024
الاقتصاد الرقمي لعام 2024
قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ مفهوم الاقتصاد الرقمي غريب بعض الشيء، إلَّا إنَّ التحولات العالمية الحالية -رجوعًا إلى عقدين من الزمن تقريبًا- دفعت الإنسان إلى مزيد من الابتكار في مجالات شتَّى، بخاصة ما أنتجته المعرفة الإنسانية في مجال التحول الرقمي؛ مما أدَّى إلى ظهور مَا أُطلق عليه في الآونة الأخيرة: الاقتصاد الرقمي، والذي سوف نستعرضه في هذا المقال؛ لذا تابعوا القراءة.
ما الاقتصاد الرقمي؟
من المفاهيم الأساسية في مجال الاقتصاد الرقمي، هو أنه نشاط اقتصاديّ قائم علَى الربط بين الناس والشركات والأجهزة والبيانات -يوميًّا- عبر الإنترنت. وهو اقتصاد ذو مكونات كثيرة، هي: الأجهزة الإلكترونية، والبرمجيات، والشبكات، وغيرها من الآليات الرقمية التي تُجرى من خلالها العمليات التجارية.
إذنْ، يُبرز مفهوم الاقتصاد الرقمي أهميةَ الإنترنت، لكونه جسرًا نحو تعزيز هذا النوع من الاقتصاد، الذي يعود بالنفع علَى مؤشرات الاقتصادات الوطنية والعالمية. وبسبب هذه الأهمية أطلق البعض على الاقتصاد الرقمي لقبَ “اقتصاد الإنترنت” أو “اقتصاد الويب”.
من هذه الأهمية انطلقت منظمات أممية نحو قياس مؤشرات هذا النوع من الاقتصاد، باعتباره اقتصادًا يعكس التوجهات العالمية نحو مستقبل رقمي يتخذ من الاستدامة هدفًا، ويجعل البيئة ومواردها في مركز الاهتمام.
سوق التنمية المستدامة
من بين التقارير التي تقيس مؤشرات الاقتصاد الرقمي علَى مستوى العالم “تقرير الاقتصاد الرقمي”، الذي تصدره كل عامٍ “منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية”، وقد ساعد تقرير الاقتصاد الرقمي لعام 2024 علَى تأكيد أهمية استراتيجيات التحول الرقمي؛ لأنَّ إنتاج الأجهزة الرقمية أصبح عبئًا جديدًا يضاف إلى أعباء البيئة، التي تتحملها البلدان النامية، فهي تُصدر المواد الخام ذات القيمة المضافة المنخفضة، في الوقت الذي تستورد فيه أجهزةً ذات قيمة مضافة مرتفعة؛ والنتيجة في النهاية نفايات رقمية تحاصر اقتصادات هذه البلدان.
بهذا التقرير دعت الأونكتاد -منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية- إلى اتخاذ إجراءات جريئة، حتى يمكن للدول جميعًا أنْ تتحول نحو اقتصاد رقمي دائري، مع التركيز على المنتجات المستدامة، والاستهلاك المسئول، وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، وتبني نماذج أعمال مستدامة؛ حتى يصبح مستقبل العالم مستدامًا وشاملًا بيئيًّا وتنمويًّا.
وحول هذا التقرير الأمميّ قالت “ريبيكا جرينسبان” الأمين العام للمنظمة: «علينا أنْ نستغل قوة التحول الرقمي، لتعزيز التنمية الشاملة والمستدامة، مع التخفيف من التأثيرات البيئية السلبية»؛ وهو قول يؤكد مدى أهمية زيادة الوعي بشأن الاقتصاد الرقمي في كل دول العالم، خاصةً الدول النامية التي تُعد سوقًا رائجًا لتجارة الأجهزة الرقمية.
أمثلة على الاقتصاد الرقمي
يشهد الاقتصاد الرقمي تطورًا ملحوظًا بعدما تضاعفت -سنويًّا- تجارة الهواتف الذكية، ويشهد أيضًا ارتفاعَ معدلات التجارة في أجهزة إنترنت الأشياء – The Internet of things؛ وهو ما سيتبعه نمو كبير في مبيعات تجارة الأجهزة الرقمية. وكل ذلك يتسبب في إحداث أضرار جسيمة متزايدة في البيئة، حيث ترتفع معدلات نفايات الشاشات -علَى سبيل المثال- وغيرها من المعدات التكنولوجية.
إنَّ هذا النوع من التجارة ينتج انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ، لدرجة أنَّ قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد أصدر حوالي 1.6 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في عام 2020، وهو ما يعادل 1.5٪ إلى 3.2٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ العالمية.
استثمار المعادن
إذا كانت هناك طفرة في تجارة الأجهزة الرقمية، فإنَّ هذا يستلزم مزيدًا من الموارد المعدنية؛ لذا ارتفع معدل الطلب علَى المعادن الأساسية الضرورية لكل من التقنيات الرقمية والمنخفضة الكربون، لا سيما معادن: الكوبالت، والجرافيت، والليثيوم؛ وهذا وفقًا لتقارير البنك الدوليّ.
ذلك كله جعل من الحصول علَى المعادن الحيوية أولويةً بالنسبة إلى كثير من دول العالم؛ ومِن ثَمَّ زيادة المنافسة العالمية، وكذلك زيادة أخطار التحديات الجيوسياسية والاقتصادية في سوق صعب مثل سوق الأجهزة الرقمية.
هذه الصعوبة تكمن في أنَّ الطلب المتزايد على المعادن يمثل فرصًا اقتصاديةً واعدةً، غير أنَّ الاستفادة القصوى مِن هذه الفرص تحتاج إلى أنْ تتقدم الدول في سلاسل القيمة، بدلًا من مجرد توفير المواد الخام؛ حتى لا يصبح اعتمادها على السلع الأساسية متفاقمًا؛ مما يُضعف اقتصادها، ويمنع وصول الفوائد إلى مجتمعاتها المحلية.
وللتصدي لتلك المخاوف البيئية والاجتماعية ينبغي تعزيز التعاون الدوليّ، والتوريد المستدام، وتشريع السياسات التي توازن بين احتياجات جميع أصحاب المصلحة، وحينها يمكن أنْ تكون سلاسل التوريد مستقرةً وأخلاقيةً عند التجارة في المعادن الحيوية.
البصمة البيئية
بالإضافة إلى ما سبق، هناك مخاوف أخرى تتمثل في حاجتنا الدائمة إلى الطاقة والمياه، ولا يخفى علَى أحد أنَّ خوادمَ مراكز البيانات – Data center servers تستهلك طاقةً كهربائيةً كبيرةً على مستوى العالم، وهو استهلاك يفرض ضغوطًا على شبكات الكهرباء المحلية؛ ففي الولايات المتحدة -علَى سبيل المثال- تشير التقارير إلى أنَّ خُمس البصمة المائية المباشرة الناتجة عن خوادم مراكز البيانات تحدث بسبب احتياج هذه المراكز إلى موارد مائية، وهو ما يثير القلق في كوكب لا تزال ملايين من سكانه غير قادرة علَى الوصول إلى مياه شربٍ آمنةٍ!
ما الحل؟
حاولنا في الفقرات السابقة أنْ نجيب عن سؤال: لماذا يعتبر الاقتصاد الرقمي مهمًّا جدًّا في اقتصاديات الدول حول العالم؟ وعلَى الرغم من دور الاقتصاد الرقمي في النمو الاقتصادي -بسبب الطلب المتزايد علَى المنتجات الرقمية- فإنَّ البصمةَ البيئيةَ وتآكلَ المواردِ أبرزُ نتائج الاقتصاد الرقمي. ويتضح الحل في تفعيل الجهود المنسقة بين شركات التكنولوجيا وصناع السياسات؛ لأجل تحسين كفاءة الطاقة، وتقليل استخدام المياه بصورة مستدامة.
إجمالًا، لا تخرج مفاهيم البيئة والتنمية المستدامة عن حدود واقعنا المعاصر، وهو ما يطرح -بشدة- أهميةَ النظر في الاقتصاد الرقمي، فهو خطوة جادة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ ولهذا كونوا وحماة الأرض يدًا واحدةً.