صناعات مستدامة

الجلود.. صناعة عريقة تواجه تحديات بيئية جسيمة

الجلود.. صناعة عريقة تواجه تحديات بيئية جسيمة

في عالم الموضة، تُعَدّ الجلود من أكثر المواد الحيوانية شيوعًا واستخدامًا، ليس فقط لقيمتها الجمالية وارتباطها بالفخامة، وإنما لما تمتاز به من قوة ومتانة تجعلها مقاومة للتآكل وتطيل عمرها في خزانة الملابس دون أن تفقد رونقها. هذا البُعد العملي جعل كثيرين ينظرون إليها بوصفها مادة مستدامة، نظرًا لقدرتها على الاستمرار لسنوات دون حاجة إلى الاستبدال.

ومع أن هذه النظرة قد تبدو منطقية من زاوية الاستهلاك الفردي، فإنها تفتقر إلى العمق حين ينظر إليها من منظور بيئي شامل؛ فصناعة الجلود تخفي وراء بريقها تكلفة بيئية وإنسانية مرتفعة، تشمل استخدام مواد كيميائية ملوّثة، وهدرًا كبيرًا في المياه والطاقة، إلى جانب ما تنطوي عليه من قسوة تجاه الحيوانات، ومع تنامي الوعي البيئي وتزايد الأصوات المطالبة بحقوق الحيوان، اتجه الكثيرون للبحث عن بدائل نباتية للجُلود.

وتكمن المفارقة في أن معظم تلك البدائل تعتمد على البلاستيك، وهو ما يطرح معضلة بيئية جديدة، ويجعل التساؤل مشروعًا: هل يمكن فعلاً إنتاج “جلد مستدام” يجمع بين الأناقة والمسئولية البيئية؟ في هذا المقال، تسلط حماة الأرض الضوء على هذه الصناعة المعقدة، وتناقش مزاعم الاستدامة المحيطة بها، مستعرضة أبرز البدائل التي قد تسهم في بناء مستقبل أكثر توازنًا بين الإنسان والطبيعة؛ فتابعوا القراءة.

الأثر البيئي لصناعة الجلود

تشكل الجُلود الحيوانية -وخاصة جلود الأبقار- ما يقارب 90% من الجلود المستخدمة في صناعة الأزياء؛ إذ يتطلّب تحويلها من منتج الخام إلى منتج نهائي سلسلة طويلة من العمليات الصناعية التي تبدأ بتمليح الجُلود ونزع الشعر، وتنتهي بالصباغة والتشطيب. في هذه العمليات، يتم استخدام كميات هائلة من المواد الكيميائية السامة، خاصة في طريقة “الدباغة بالكروم”، وهي الأكثر شيوعًا على مستوى العالم.

هذه الطريقة لا تؤذي البيئة فقط، وإنما تشكّل خطرًا مباشرًا على صحة العاملين في المدابغ، خاصة في الدول ذات الرقابة الضعيفة مثل الهند؛ فمياه الصرف الملوثة بالكروم الثقيل وغيره من المواد السامة تتسرّب إلى الأنهار والحقول، مسببة تلوثًا في مصادر مياه الشرب والزراعة، وأحيانًا يتم التخلص منها مباشرة في التربة، وهو ما يؤدي إلى تسمم المحاصيل وتدهور خصوبة الأراضي الزراعية.

الجُلود الحيوانية

ومع ذلك بدأت بعض الاتجاهات البيئية تقدم بدائل أكثر أمانًا، مثل الدباغة النباتية التي تعتمد على مستخلصات لحاء الأشجار والنباتات، دون الحاجة إلى مركبات سامة، وقد وجدت هذه الممارسات طريقها بشكل أوضح في بعض الدول الأوروبية، حيث تسهم التشريعات البيئية الصارمة في ضبط معايير الإنتاج، وتوفير حماية نسبية لكل من البيئة والعمال. غير أن هذه الاستثناءات لا تكفي لتبرئة صناعة الجُلود عمومًا، في ظل استمرار الانتهاكات البيئية والصحية في مناطق أخرى من العالم، وهنا يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن اعتبار الجلودِ الحيوانية خيارًا مستدامًا في ظل هذه التحديات المتشابكة؟

الجلود منتج ثانوي أم رئيسي؟

غالبًا ما يتم الترويج للجلود بحجة متكررة تُستخدم لتسويغ استهلاك الجلود الحيوانية، وهي أنها ليست إلا منتجًا ثانويًّا لصناعة اللحوم، وهو ما يجعل استغلالها يبدو كأنه إسهام في تقليل الفاقد والحد من النفايات، غير أن هذه الحجة التي تستند إلى فكرة الاقتصاد الدائري، تخفي واقعًا أكثر تعقيدًا.

فصناعة الجلود تُدرّ أكثر من 150 مليار دولار سنويًّا على مستوى العالم، وهذا ما يجعلها قطاعًا قائمًا بذاته، تُربى فيه المواشي غالبًا من أجل اللحم والجلد معًا. ومن هذا المنظور، تصبح الجلود محركًا اقتصاديًّا لا يقل أهمية عن اللحوم، لا مجرد بقايا مُعاد تدويرها. وما يزيد المفارقة حدة، أن بعض الخبراء -كما جاء في الفيلم الوثائقي SLAY– يعتبرون أن الضرر البيئي الناتج عن دباغة الجلودِ يفوق بكثير الأثر المترتب على التخلص منها مباشرة دون تصنيع.

الأثر البيئي لصناعة الجلود

تعتمد صناعة الجلود الحيوانية على قطاع الزراعة المكثف، الذي يُعد أحد أكبر مصادر انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًّا؛ فالمواشي تحتاج إلى مساحات شاسعة للرعي، وكميات ضخمة من المياه والأعلاف، وهذا يتسبب في إزالة الغابات، التي تُدمّر يوميًّا لإفساح المجال أمام مزارع المواشي أو زراعة فول الصويا لتغذية الحيوانات.

وفي هذا السياق، تُظهر دراسة لمنظمة “Stand” أن بعض الشركات العالمية للأزياء تتعامل مع منتجين مرتبطين بتدمير غابات الأمازون، من ضمنها علامات تجارية شهيرة، وبذلك لا تقتصر التأثيرات البيئية للجلود على المصنع فقط، وإنما تمتد جذورها إلى عمق النظم البيئية العالمية، مهددة التنوع البيولوجي ومفاقمة أزمة التغير المناخي، في خرق صريح لهدف التنمية المستدامة رقم (15) المتعلق بالحياة في البر.

هل الجلود النباتية حل مستدام؟

في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر أنواع جديدة من الجُلود النباتية المصنوعة من مواد مثل الأناناس والتفاح والفطر والصبار وحتى القهوة، هذه المواد تُعد بديلًا مثيرًا للاهتمام؛ إذ لا تعتمد على قتل الحيوانات ولا تستهلك موارد زراعية هائلة كما تفعل الماشية.

غير أن معظم هذه المواد لا تكون قوية بما فيه الكفاية لتتحمل الاستخدام اليومي دون إضافة البلاستيك إليها، ومع إضافة البوليمرات مثل البولي يوريثان أومادة PVC، يفقد المنتج صفة الاستدامة؛ إذ يتحول إلى “بلاستيك في هيئة جلود”، فلا يتحلل بيئيًّا، ويصبح عبئًا بيئيًّا في البر والبحر.

من ناحية أخرى، هناك نوع جديد يُعرف بـ”الجُلود السيليكوني”، يُصنع من مواد مشتقة من الرمل، ويتميز بأنه خالٍ من السمّية وقابل لإعادة التدوير، إلا أنه غير قابل للتحلل. هذا النوع لا يهدد الحياة البحرية كالبلاستيك، ويُعتبر خطوة واعدة نحو تقليل البصمة البيئية للمنتجات الجلدية.

الجلود المختبرية والمعاد تدويرها

وفي سعيها لتجاوز معضلة الجلود الحيواني والبلاستيكي، اتجهت بعض الشركات إلى تطوير “الجُلود المختبرية” عبر زراعة خلايا حيوانية في بيئة صناعية دون الحاجة لذبح الحيوانات، وتُعد شركة “Modern Meadow” الأمريكية من رواد هذا الابتكار الذي يجمع بين الخصائص الفيزيائية للجلود الطبيعي والبصمة البيئية المخفّضة.

أما الجلود المعاد تدويرها فتعتمد على إعادة استخدام قصاصات الجُلود الحيوانية المتبقية؛ مما يقلل من الفاقد الصناعي. وجدير بالذكر أن عملية إعادة التدوير نفسها غالبًا ما تتطلب مواد لاصقة بلاستيكية، وهو ما يجعل المنتج النهائي مزيجًا من الجُلود الطبيعي والبلاستيك، ورغم أنه أفضل من التخلص من الفضلات، فإنه لا يُعد حلًّا مثاليًّا طويل الأمد.

نحو استهلاك مسئول

في نهاية المطاف، لا يمكن القول بأن هناك نوعًا واحدًا من الجلود يمكن اعتباره “مستدامًا” بشكل كامل؛ فلكل خيار عيوبه ومزاياه، والاستدامة في صناعة الجُلود لا تتحقق فقط عبر اختيار المواد، وإنما عبر تبني ممارسات استهلاكية وإنتاجية مسئولة تعكس أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف (12) الخاص بالاستهلاك والإنتاج المسئولين؛ فصناعة الجُلود تواجه تحديات بيئية واجتماعية كبيرة، وهو ما يجعل من الضروري تقليل الهدر، والاعتماد على تقنيات صديقة للبيئة، ومصادر نباتية أو معاد تدويرها؛ لضمان حماية الموارد الطبيعية ورفاه الإنسان والحيوان على حد سواء.

صناعة الجُلود تواجه تحديات بيئية واجتماعية كبيرة

وفي هذا السياق، تؤكد حماة الأرض أهمية تحفيز المستهلكين لدعم المنتجات التي تعكس هذه القيم، وتشجيع الشركات على الالتزام بالشفافية والمسئولية الاجتماعية والبيئية، حيث إن الاستهلاك الواعي هو حجر الأساس لتحقيق صناعة جلود مستدامة توازن بين متطلبات الأناقة والحفاظ على البيئة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى