صناعات مستدامة

السباق نحو تحويل سوق الخرسانة العالمي ليكون أكثر اخضرارًا

السباق نحو تحويل سوق الخرسانة العالمي ليكون أكثر اخضرارًا

لو كانتِ الخرسانةُ دولةً لكانت ثالثَ أكبر مصدر لانبعاث ثاني أكسيد الكربون في العالم بعد الصين والولايات المتحدة! وهذا ليس مفاجئًا بالنظر إلى أنها ثاني أكثر المواد استخدامًا في العالم بعد الماء، كما أنها تنتج ما يقرب من 8٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري؛ لذا يُعَدُّ الحد من انبعاثات الكربون الناتج عن الخرسانةِ أمرًا ضروريًّا لتحقيق أهداف الأمم المتحدة بصافي انبعاثات صفري “Net-Zero”.

حددت الرابطة العالمية للأسمنت والخرسانةِ “GCCA”، هدفًا يتمثل في تحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050، وهذا عن طريق البحث عن تقنيات نظيفة جديدة، ووضع أساس للتوسع في الاعتماد على هذه التقنيات، نظرًا إلى الانخفاض المستمر لمستوى البحث والتطوير في صناعة الأسمنت والخرسانةِ في الأعوام الأخيرة، على الرغم من زيادة الاستثمارات في هذا القطاع الحيوي بشكل كبير.

أسهمت صناعات البناء بحوالي 38٪ من الانبعاثات العالمية المباشرة لغازات الاحتباس الحراري، مقارنة بنسبة 23٪ ناتجة عن صناعة النقل؛ وبالرغم من هذا بلغت قيمة الاستثمارات في المشاريع المتعلقة بالمناخ والبيئة في صناعات البناء 2 مليار دولار فقط في عام 2022، وهو أقل من خُمس المبلغ الذي تم ضخه في صناعة النقل لتحويلها إلى الاستدامة.

تتبنَّى الحكوماتُ -بشكل متزايد- سياساتٍ لفرض الاعتماد على «الخرسانةِ الخضراء»، وهو أمر يمكن أنْ يشكل -عند مزجه بتعهد حقيقي من هذا القطاع الصناعي- طريقًا مستدامًا نحو الاستثمار في الأسمنت والخرسانةِ، حيث يقود -أيضًا- إلى تنمية اقتصادية ضخمة.

تغيير مكونات الخرسانة

يتوفر الأسمنت -مكون رئيسي للخرسانة- بأشكال مختلفة، ومِن أكثرها شيوعًا: الكلنكر البورتلاندي، والجبس، والمواد الأسمنتية التكميلية (SCMs)، وغيرها. يشكل الكلنكر البورتلاندي أكثر من 98٪ من إنتاج الخرسانةِ في جميع أنحاء العالم اليوم، وهناك عدة أسباب لهذا، منها: أنَّ الكلنكر يعتبر مكونًا غير مكلف نسبيًّا، ويمكن الاعتماد عليه لإنتاج خرسانة ذات جودة عالية.

وحتى لا يلتبس عليكم الأمر، فالخرسانة تتكون من عدة مكونات، من أهمها: الأسمنت، والأسمنت يتكون من عدة مكونات، يشكل الكنلكر النسبة الأكبر منها، ولكن توجد أيضًا أنواع من الأسمنت التي لا تحتوي على الكلنكر من الأساس، أو نسب قليلة منه؛ لخفض البصمة الكربونية الناتجة عن عمليات إنتاج الكلنكر في أفران مصانع الأسمنت.

تمثل انبعاثات عمليات تكليس الحجر الجيري لإنتاج الكلنكر البورتلاندي أكثر من 50٪ من انبعاثات قطاع الأسمنت، في حين أنَّ نسبة 40٪ أخرى تأتي من حرق الوقود الأحفوري، لتسخين أفران الأسمنت إلى درجات حرارة عالية طوال عملية الإنتاج؛ لذا فإنَّ طبيعة إنتاج الأسمنت تقتضي إطلاقه لكميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

يركز عدد متزايد من الشركات على تقليل البصمة الكربونية في عملية الإنتاج، وهذا من خلال تغيير مكونات الخرسانةِ والأسمنت. على سبيل المثال، فإنَّ شركةَ «هوفمان لتقنيات الأسمنت الأخضر»، التي تأسست في فرنسا؛ تُطَوِّرُ وتصنِّعُ وتبيعُ أسمنتًا جديدًا منخفضَ الكربون، خاليًا من الكلنكر، وذا بصمة كربونية أقل بِسِتِّ مرَّات مقارنةً بالأسمنت البورتلاندي، حيث تم تصنيع هذا النوع الفريد من الأسمنت الأخضر بشكل أساسي من المنتجات الثانوية الصناعية، مثل خبث مصانع الصلب.

تسعى الشركات المبتكرة الأخرى إلى التقاط الكربون داخل الخرسانة أو التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث مباشرة في أثناء الإنتاج. ولعل أبرز هذه الشركات «CarbiCrete»، وهي شركة كندية طورت تقنية لإنتاج خرسانة ذات بصمة كربونية سالبة (الكربون الداخل في العملية أقل من المنبعث عنها).

وبينما شهدنا تقدمًا في تطوير «الأسمنت الأخضر»، لا تزال هناك عقبات كبيرة أمام اعتماده على نطاق أوسع، حيث يميل المستهلكون إلى توخي الحذر من المنتجات الأقل تجربة واختبارًا؛ وبالتالي لم تَحُزْ كثيرٌ من منتجات «الأسمنت الأخضر» القبولَ المنتظرَ، لا سيما في قطاع يعطي الأولوية للسلامة.

استبدال الخرسانة ببدائل أنظف

بصرف النظر عن تعديل مكونات الخرسانة، تعمل الشركات الناشئة المبتكرة على إنشاء بدائل خرسانية أو أنواع مختلفة من الخرسانة، منها شركة «Mighty Buildings»، وهي شركة أمريكية طورت آلة طباعة ثلاثية الأبعاد، يمكنها إنشاء هياكل المباني من راتنجات البوليمرات الضوئية (مركبات تتحول إلى بوليمر بفعل الضوء).

مركبات البوليمر هذه قوية مثل الخرسانة، ولكنها أخف وزنًا بنسبة 30٪، ولديها قوة شَدٍّ وانثناء أعلى بـ 5 مرَّات؛ وبالتالي ينتج عن هذا عملية بناء أسرع وأكثر صداقة للبيئة، مع القدرة على بناء تصميمات معمارية متطورة يستحيل إنشاؤها عن طريق الخرسانة التقليدية.

شركة أخرى أسهمتْ في تعزيز الطباعة ثلاثية الأبعاد في البناء، هي «COBOD»، التي تقدم حلولَ الأتمتة (Automation) والروبوتات، مما يمكِّن صناعة البناء من تحسين سرعة الطباعة والكفاءة، وتوفير احتياجات العمالة وتكلفة المواد.

وبينما تكتسب تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد زخمًا في صناعات الأسمنت والتشييد، لا يمكن تجاهل التكلفة الأكبر لهذه التقنية الثورية، مقارنةً بطرق البناء التقليدية، خاصة في المشروعات الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، تُتَاحُ مواد محدودة يمكن استخدامها للطباعة ثلاثية الأبعاد، كما يمكن أن تكون قوةُ ومتانةُ الأجزاءِ المطبوعة -في كثير من الأحيان- أقلَّ من تلك المبنية باستخدام الطرق التقليدية، ويمكن -أيضًا- أنْ تشكل متطلبات مراقبة الجودة والسرعة والمعالجة اللاحقة تحديًا للأجزاء المطبوعة.

بديلٌ آخرُ، هو الخرسانة الحيوية القائمة على البكتيريا، وهي تقنية لا تزال في مرحلة البحث والتطوير، ولكنها تبشر بالخير باعتبارها بديلًا مستدامًا ومنخفضَ التكلفة في عمليات تصنيع الخرسانة التقليدية. تستخدم الخرسانة الحيوية الكائنات الحية الدقيقة (بكتيريا) -غير المؤذية للبشر- في مزيجها، والتي تستطيع إصلاح أي تشققات في الخرسانة بشكل تلقائي، ولعلنا نخصص لهذه التقنية الفريدة مساحةً في الأعداد القادمة.

إعادة ابتكار عملية إنتاج الخرسانة

تستخدم الشركاتُ الناشئةُ -وحتى شركات التقنية العملاقة- الذكاءَ الاصطناعيَّ في تحسين عملية إنشاء الخرسانة والأسمنت؛ لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مثل شركة ميتا (الشركة الأم لفيسبوك)، حيث طورت الشركة طريقة جديدة لإنتاج خرسانة يصدر عنها انبعاثات كربونية أقل بنسبة 40٪ من الخلطات القياسية الأخرى.

ولعمل ذلك، تم تطوير نموذج من الذكاء الاصطناعي للعثور على خلطة الخرسانة المثالية، حيث استخدم باحثو «ميتا» بيانات توضح الخصائص المختلفة لـ 1030 مزيجًا خرسانيًّا، وتشمل هذه البيانات قوة كل مزيج بعد مدة أسبوع ومدة شهر، وكذلك بصمة الكربون الخاصة به. بعد ذلك تمكن الذكاء الاصطناعي من تحليل بيانات جميع الخلطات الخرسانية الممكنة، والعثور على الخلطات التي تطابق الحد الأدنى من القوة المطلوبة، ولكن لديها -أيضًا- أقل انبعاثات ممكنة.

شركةُ «Alcemy» -مقرها برلين- مطور لبرامج التحليل التنبؤي، المصممة لمساعدة مُصَنِّعي الأسمنت والخرسانة، حيث يقدم برنامج الشركة تنبؤات دقيقة لجودة الخلطات المختلفة وطبيعة مكوناتها، وفي الوقت نفسه يمكِّنُ الشركات من إنتاج المزيد من الخرسانة باستخدام المكونات المُعَادِ تدويرها بدقة وأمان.

الوقت ينفد لتطوير الخَرَسَانةِ المستدامة

ستكون الأعوامُ القادمةُ حاسمةً في مسألة استخدام الخَرَسَانةِ، حيث إنَّ الطلبَ المتزايد عليها يتحول تدريجيًّا من الأسواق القائمة إلى الأسواق الناشئة، كما ستؤدي عمليات التنمية في عدد من البلدان النامية -مثل الهند، وإندونيسيا- إلى زيادة الطلب على الخَرَسَانةِ في جميع أنحاء العالم.

وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة ستقوم البشريةُ ببناء 230 مليار متر مربع أخرى من مساحة الأرض في الأربعين عامًا القادمة، أي: أكثر من ضعف مساحة الأراضي الحالية لمباني العالم، وسيأتي هذا مع اقتراب كثير من الهياكل الخرسانية الحالية مِن نهاية عمرها الافتراضي، مما سيولد الحاجة إلى تجديد أو إزالة عدد كبير من المباني القائمة حاليًّا؛ وذلك عن طريق هدم المباني واستبدالها، أو حتى التخلي عنها بالكلية.

وبالنظر إلى هذه الحقائق، فهناك حاجة متزايدة إلى تكثيف عمليات البحث والتطوير في قطاع الخَرَسَانةِ، وتسويق الخرسانة الصديقة للبيئة والمستدامة، هذا إذا ما أردنا تحقيقَ هدف «صافي انبعاثات صفري» في هذا القطاع الحيوي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى