الطرق الثلاث الأكثر فاعلية في تحويل القطاع الصناعي إلى الاستدامة
الطرق الثلاث الأكثر فاعلية في تحويل القطاع الصناعي إلى الاستدامة
ربما لن يكون مستغرَبًا إذا علمنا أنَّ القطاعَ الصناعيَّ مسئولًا عن حوالي 21٪ من انبعاثات الكربون جميعها في أنحاء العالم، ووفقًا للتقارير فقد أَدَّتِ الأنشطةُ الصناعيةُ -وما تشتمل عليه من حرق للوقود الأحفوري- إلى توليد نحو 36.8 مليار طن متري من انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي خلال عام 2019، وهذا من إجمالي 43.1 مليار طن متري من الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية.
بناءً على ما سبق، من البديهي -عند التعرض لقضية الحد من الانبعاثات ولعواقبها الخطيرة المتمثلة في تغير المناخ- أنْ يكون القطاع الصناعي على قمة الأولويات؛ نظرًا إلى التأثير الكبير الذي ينتج عن أنشطته، وبسبب الحاجة الماسة إلى تحويله بشكل تدريجي إلى تبني السياسات المستدامة حتى يصل في النهاية إلى «الحياد الكربوني» أو ما يعرف بـ Net Zero.
لكن ما أبرز الطرق التي يمكن تطبيقها على مختلف الصناعات بحيث تتحول إلى الاستدامة، وكذا سد الفجوة بين انبعاثات الكربون الحالية، والعودة إلى المسار الذي يجب أنْ تسير فيه، طبقًا لما تم التوافق عليه في اتفاقية باريس للمناخ؟ نجيب عن هذا السؤال في النقاط الثلاث الآتية.
آلات ذات كفاءة عالية
بشكل متزايد يتحول المستهلِكون عبر العالم إلى الاهتمام بشراء منتجات مستدامة أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي ستحتاج الشركات إلى تلبية هذه الطلبات من خلال إعادة التفكير في تأثير سلسلة التوريد كلها. غالبًا ما يكون القطاع الصناعي في المرتبة الثانية أو الثالثة في سلسلة التوريد، ومِن ثَمَّ يصبح متأثرًا بالضغوط المجتمعية من أجل الاستدامة؛ لذا يجب على المؤسسات الصناعية -من أجل الحفاظ على أهميتها واختيارها في سلسلة التوريد التجارية- أنْ تجعل الآلات المستخدَمة للإنتاج أكثر ذكاءً وأفضل تخصيصًا؛ لتقليل الاستخدام غير الضروري للموارد وتقليل الهدر.
على سبيل المثال –وفقًا للأمم المتحدة– فإنَّ الشركات في القطاع الصناعي -التي تعمل على بناء آلات الأعمال الزراعية بشكل يساعد على تسهيل الزراعة الدقيقة، وتقليل استخدام المياه، وتخفيف الحمل عن التربة، وترشيد استهلاك الطاقة- سوف تخلق قيمةً مضافةً، كما ستحجز لنفسها مكانًا في صدارة الاستدامة ومجالها.
لا تقتصر كفاءة الآلات على الأعمال الزراعية فحسب، وإنما تشمل أيضًا تصنيع مختلف المنتجات التي يستخدمها المستهلِكون يوميًّا، لا سيما في قطاع النقل؛ وهذا يعني إنتاج مركبات أكثر من حيث الاستدامة، من الطائرات والسفن إلى الحافلات والقطارات؛ بسبب انبعاثات الكربون الناتجة عن هذه المنتجات المستخدَمة باستمرار على الصعيدينِ المحلي والعالمي، حيث تُعَدُّ سببًا واضحًا في تغير المناخ.
الشركات التي تستثمر في التقنيات الصديقة للمناخ والاستدامة ستكون في وضع يمكِّنها مِن أنْ تصبح شركات رائدة على مستوى العالم، وبالتالي سيتبع خطاها بقية الشركات العاملة في المجال نفسه. ومن الأمثلة البارزة على هذا: شركة صناعة السيارات الكهربائية «تسلا»، التي أصبحت في يناير 2020 أكثر شركات السيارات الأمريكية قيمةً عبر التاريخ، وهذا على الرغم من كونها شركةً حديثةَ العهدِ، وهو ما يسلط الضوء على قدرة المستهلِكين ورغبتهم في التحول إلى المنتجات الأكثر صداقةً للبيئة؛ وبالتالي تشجيع الشركات التي تقف وراء هذه المنتجات.
الاقتصاد الدائري والثورة الصناعية الرابعة
وفقًا لشركة الاستشارات العالمية “Accenture”، فإنَّ شريحةً عريضةً من المستهلِكين يعتقدون -بشكل قوي- في أنه من المهم -أو المهم للغاية- بالنسبة إلى الشركات تصميمُ منتجاتٍ مُعَدَّةٍ لإعادة استخدامها، أو إعادة تدويرها. وفي السياق نفسه، تصف منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) الاقتصادَ الدائريَّ بأنه منتجات «مصممة من أجل المتانة وإعادة الاستخدام، كما أنَّ المواد الخام الخاصة بالمنتجات الجديدة تأتي عن طريق إعادة تدوير المنتجات القديمة».
من حيث الجوهر، يمكننا اعتبار الاقتصاد الدائري (Circular economy) نقيضَ الاقتصاد الخطي (Linear economy)، وهذا من خلال إنشاء منتجات قابلة لإعادة الاستخدام، وهو الأمر الذي سيمكن القطاع الصناعي من تقليل البصمة البيئية وتوليد دخل متزايد، بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على الموارد البكر، وخفض كميات النفايات.
وبالرغم من ذلك، فلكي يصبح الاقتصادُ الدائريُّ حقيقةً واقعةً، يجب على الشركات التكيف وخلق أعمال وشراكات مبتكرة تنظر إلى هذا النهج الجديد بعين الاعتبار، وهذا في ظل دمج تقنيات الثورة الصناعية الرابعة بتكنولوجيا الصناعة الحالية.
يُقصد بالثورة الصناعية الرابعة حوسبة التصنيع، واستخدام مجموعة من التقنيات الجديدة التي تجمع بين الجوانب المادية والرقمية والبيولوجية. ووفقًا للباحثين، ستؤثر هذه الثورة في جميع الاقتصادات والصناعات، كما أنَّ لديها القدرة على تحسين كفاءة الأعمال والمؤسسات بشكل كبير، وكذلك المساعدة على تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول، وربما حتى التراجع عن الأضرار جميعها التي تسببت فيها الثورات الصناعية السابقة.
هذا يعني أنه سيكون هناك تحول من التصنيع والإنتاج المركزي إلى اللامركزي، واعتماد حلول التصنيع المستقلة والذكية، حيث ستساعد هذه الحلول -بما في هذا إنترنت الأشياء (IoT)، والحوسبة السحابية، والطباعة ثلاثية الأبعاد- على القيام بذلك. تخلق هذه التقنيات عمليات صناعية مرنة وذات قابلية أعلى للتشغيل البيني، ولها إسهام في تحسين التعاون المتبادل بين الإدارات والشركاء والبائعين. بشكل أساسي، تتمتع هذه التقنيات بالقدرة على إنشاء سلسلة توريد أكثر كفاءةً واستدامةً.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنَّ شريحةً كبيرةً متزايدةً من المستهلِكين أصبح لديهم الوعي الكافي، لاختيار المنتجات المستدامة المصممة للاستخدام أو المُعَاد تدويرها؛ أي: المصممة مع وضع الاقتصاد الدائري في الاعتبار. الشركات الصناعية التي تبني نموذج أعمالها الأساسي حول هذه العقلية ستربح البائعين والمستهلِكين المستعدين للدفع مقابل المنتجات المستدامة.
تقليل كمية الوقود الأحفوري
الوقود الأحفوري له إسهام -بشكل كبير- في انبعاثات الكربون، ويؤثر -سلبًا- في صحة كوكبنا وسكانه على المَدَيينِ القصير والطويل؛ وبالرغم من ذلك فإنه ما يزال المصدر المهيمن علَى الطاقة في جميع أنحاء العالم. المشكلة -والفرصة- هي أنَّ بضع عشرات فقط من الشركات مسئولةٌ عن أكثر من ثلث انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن الوقود الأحفوري، ومسئولةٌ أيضًا عن أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
ومن هنا، إذا جعلت العشراتُ من هذه الشركات -والقطاع الصناعي كله- الاستدامةَ جزءًا من أعمالها الأساسية، سيكون لديها القدرة على الحد من تدهور المناخ بشكل كبير. علاوة على ذلك، يمكن لهذه الشركات -من خلال الاعتماد على التقنيات المبتكرة- أنْ تصبح رائدةً في مجال الطاقة المتجددة، أو في نماذج أعمال أخرى طويلة الأمد وذات تأثير إيجابي.
المأساة الكبرى في أزمة المناخ هي أنَّ سبعة مليارات ونصف المليار شخص يجب عليهم أنْ يدفعوا الثمن -على شكل كوكب متدهور- حتى تتمكن بضع عشرات من الشركات ذات المصالح الضارة بالبيئة من الاستمرار في تحقيق أرباح قياسية، وهو فشل كبير لنظامنا الأخلاقي في حال لم نتمكن من تغيير ذلك.
من خلال زيادة كمية الطاقة المستخدمة من مصادر متجددة -مثل الرياح والطاقة الشمسية والكتلة الحيوية- ستنخفض كمية الوقود الأحفوري المحترق، وبالتالي غازات دفيئة أقل، والحد بشكل فعَّال من تغير المناخ.
وبينما تكيف البائعون مع زيادة وعي المستهلِك بدأتِ الشركاتُ في المفاضلة بين المؤسسات الصناعية، وهذا بناءً على الاستراتيجيات المتعلقة بالاستدامة ومدَى شفافيتها لدى هذه المؤسسات؛ وذلك بهدف جعل سلاسل التوريد الخاصة بالشركات أنظف، وبالتالي أصبح هناك حافز مالي وفرصة نمو للمؤسسات الصناعية التي تعمل في مجال الطاقة المتجددة، وكذلك المؤسسات الصناعية التي تعمل بشكل حقيقي على التقليل من انبعاثات الكربون في عملياتها الإنتاجية.
وفي الختام، فإنَّ الاعتمادَ على الآلات ذات الكفاءة العالية في استخدام الموارد، والتحلي بعقلية الاقتصاد الدائري عن طريق استخدام تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، بالإضافة إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري؛ ثلاثُ طرقٍ شديدة التأثير، ويمكن للقطاع الصناعي من خلالها الاستجابة للتوقعات المتزايدة من المستهلِك، إضافةً إلى إسهامه -بشكل ملموس- في عالم الاستدامة.