المناخ والقهوة الفرنسية
المناخ والقهوة الفرنسية
تكمن أهمية رواية “زقاق المدق” في قدرة أديب نوبل -الأستاذ نجيب محفوظ- على تجسيد تأثيرات الحرب العالمية الثانية -الممتدة جغرافيًّا إلى زوايا كوكب الأرض كله- في فئات اجتماعية مهمشة، لا يتجاوز عالمُها حدودَ زقاق ضيق بحجم فنجان قهوة، يتحرك فيه سُنقر -صبيّ المقهى- كالمكوك بين الزبائن، إلى عالم رحب ممتد الأطراف.
وإني لعلَى ثقة أنْ لو كان العمرُ امتدَّ بكاتبنا الكبير لفَكَّرَ في جزءٍ ثانٍ يعالج به تبعات تغيُّر المناخ على أصحاب مِهَنٍ بسيطة تمثل ركنًا أساسيًّا في حياة الطبقة المتوسطة؛ فسُنقر الذي اعتاد شراءَ البُن المطحون من أحد محلات الجملة في حيّ الغورية، قد يجد صعوبةً في الحصول عليه مستقبلًا. والشارع الذي كانت تفوح من أرجائه رائحةُ البن المُحَوَّجِ المخلوط بحبوب القرنفل والحبهان وجوزة الطيب وزِر الوَرد والمستكة – قد يصبح ذكرى يتناقلها الناسُ جيلًا بعد جيلٍ.
فخلال العامِ الحاليّ يُنتظر أنْ تُفَعِّلَ المفوضيةُ الأوروبيةُ التوجيه الصادر بشأن مواصفات البن المستورد من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ للتأكد من توافر معايير الاستدامة، وتجنب التأثيرات السلبية على الغابات جرَّاء استخدام مبيدات حشرية بمعدلات مفرطة، وكذلك تلافي حرق الهيدروكربونات، فضلًا عن شرط تحقيق القهوة المُحمصة مستوى 400 ميكروجرام لكل كيلوجرام، طبقًا لنص لائحة المفوضية رقم (2158/ 2017).
وقد أدت هذه الشروطُ إلى تقليص واردات البن إلى الاتحاد الأوروبيّ هذا العام؛ مما أثر -سلبًا- في مبيعات نحو خمسة ملايين أُسرة تعتمد -بشكل رئيسيّ- على تصدير البن.
يتركز إنتاج 75% من البن العالميّ -حسب موقع Visual Capitalist- في خمس دول رئيسية: البرازيل 37.4%، فيتنام 17%، كولومبيا 8.4%، إندونيسيا 7.1%، وأخيرًا البرازيل 4.3%. تمثل الحقولُ الصغيرةُ والمتوسطةُ نسبةً كبيرةً منها؛ مما يجعلها عُرضةً لتأثيرات تطبيق السياسات البيئية الأوروبية.
وحتى اللبن الذي يُضاف -حسب الرغبة- إلى القهوة الفرنسية “كافيه أو ليه Café au lait ” يبدو أنه لنْ يَسْلَمَ -أيضًا- من تبعات تغيُّر المناخ، حيث يُنظر إلى قطعان الماشية على أنها أحد المصادر الرئيسية لغاز الميثان، المشارِك بنحو 20% من الغازات الدفيئة Greenhouse Gases.
المقلِق في التقارير والدراسات الأكاديمية هو ارتفاعُ معدلات نموه، حينما تأتي الطمأنينة من سرعة تحلله مقارنةً بثاني أكسيد الكربون؛ مما جعله محلَّ اهتمامِ العلماء لبحث سبل الحد من انبعاثه، توطئةً للوصول إلى الحياد الكربونيّ بحلول عام 2030.
وتساهم قطعانُ الأبقار التي يتراوح عددها -عالميًّا- من واحد إلى واحد ونصف مليار بقرة، بالنسبة الأعلى من انبعاثات الميثان العالمية -نحو 25%- فضلًا عن كونها مصدرًا رئيسيًّا للحوم والألبان.
من جهة أخرى، قُوبِلَتْ دعواتُ خفض أعداد الأبقار بشكل حاد، واستبدال لحومها بالأطعمة النباتية بمعارَضةِ دولٍ يعتمد ناتجُها القوميّ -بشكل رئيسيّ- على الأبقار ومنتجاتها؛ مثل نيوزيلندا وإيرلندا.
كذلك لم تَلْقَ فكرةُ “ميثان أقل ألبان أكثر” -الهادفة إلى خلط علف الأبقار بأعشاب بحرية تقلل من نِسب إطلاق الأبقار غاز الميثان في الجو أثناء تجشؤها- ترحيبًا، حيث يقتصر وجود تلك الأعشاب على أستراليا فقط، ويصعب استزراعها في بيئات بحرية خارجية؛ مما لا يجعلها حلًّا مستدامًا وناجعًا.
في خلال انعقاد مؤتمر قمة المناخ الثامن والعشرين في دبي بدولة الإمارات العربية -في المدة بين 30 نوفمبر و13 ديسمبر- أوضح تقريرٌ جرى إطلاقه بشأن بند الخسائر والأضرار، السابق إقراره في شرم الشيخ العامَ الماضي، والـمُؤسَّس في أول أيام قمة دبي؛ أنَّ قطاعَ الزراعة -وما يرتبط به من أنشطة- أكثر تأثرًا بتغيُّر المناخ؛ ومن ثَمَّ شددتِ التوصياتُ على الالتزام بدعم الدول المتضررة زراعيًّا، والعمل على تقييم الأخطار المناخية، ووضع آليات تجنبها، أو خفضها في أسوأ الأحوال، مع التشديد على سياسات خفض البصمة المائية.
من الجدير بالذِّكْرِ، هو أنه كلما زادت نسبةُ صغار المزارعين إلى عموم مالكِي الأراضي ارتفعَ مستوى هشاشة النظم الزراعية، حيث يواجه معظمهم مصاعبَ جمةً في تمويل وإدارة استثماراتهم الصغيرة والمتوسطة؛ جرَّاء غياب الحشد المؤثر في العرض والطلب. مِن هنا جاءت تأثيرات قرارات الاتحاد الأوروبيّ -في ما يخص معايير قبول البن- صادمةً لملايين الأُسر الفقيرة، التي تجدُ صعوبةً في التَّوَاؤُمِ مع معايير الاستدامة؛ إمَّا بسبب النقص المعرفيّ للإجراءات، وإمَّا لمحدودية الدَّخْلِ، ومِن جهة أخرى تهدد ثرواتهم الحيوانية حالَ إقرار معايير خاصة بغاز الميثان.
كان مؤتمرُ المناخ بدبي قد شهد للمرَّةِ الأولى تعهدَ عددٍ من شركات النفط والغاز الالتزامَ بمعالجة انبعاثات غاز الميثان، ورصد ما يناهز 1,2 مليار دولار لهذا الغرض.
تواجه البشرية تحديات عدة، وتنعكس تأثيراتها السلبية -بشكل مباشر- على سلة طعام المائدة، وما يرتبط بها من مِهن بسيطة بين فئات اجتماعية ذات مستوى ماديّ هَشٍّ، تندرج تحت مفهوم الطبقة العاملة؛ تكتسح في طريقها (سُنقر صبي القهوة)، وما يتفنن في صناعته من فِنجاناتٍ ختامها حبهان ومستكة، مرورًا بعرفة اللبَّان، وزبائنَ اعتادوا تناولَ أطباق الأرز باللبن والمهلبية المخلوطة بقطرات ماء الزهر، وكعكًا خُلط دقيقه بالسمن البلديّ، فراح يذوب في الفم -لنعومته- قبل أنْ يمسه الحليب الساخن، تزكم رائحةُ طزاجتِهِ الأنوفَ؛ وقواربَ الفتةِ السابحةُ فيها قراقيشُ السمسمِ في بحيرات الحليب باردًا أو ساخنًا -حسب الطلب- تذوب فوق سطحه المتوهج حبيبات سمن بلديّ (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)، تشرح صدر الآكلين.
سوف يصبح كلُّ ذلك تراثًا تتوارثه الأجيالُ باعتباره موروثًا شعبيًّا، وتتآكل معه فرصُ العملِ أمام طبقات اجتماعية تمثل قطاعاتٍ عريضةً في المجتمع، وهذا حال عدم تمكنها من ضبط معايير أنشتطها مع محدِّدات الاستدامة؛ فحينها يكتسحها شلالُ التغييرِ إلى حيث لا نعلم!!