الهواتف المحمولة نموذج لاقتصاد دائري مستدام
الهواتف المحمولة نموذج لاقتصاد دائري مستدام
هل تعلم أن هاتفك المحمول يحتوي على معادن ثمينة مثل الذهب والبلاتين؟ هذه الأجهزة الصغيرة التي نحملها يوميًّا هي مستودعات لعناصر نادرة وقيمة، وهي تُستخرج من باطن الأرض بجهد كبير وتكلفة بيئية عالية، وفيها معادن تدخل في تصنيع المكونات الدقيقة للهاتف كالدوائر الإلكترونية والبطاريات.
هذه الحقيقة تدفعنا إلى التفكير في مصير هذه الموارد بعد انتهاء عمر الهاتف، وكيف يمكن أن تتحول إلى فرصة جديدة بدلًا من أن تصبح نفايات إلكترونية مهدرة. ومن هنا تسلط حماة الأرض الضوء على هذه المشكلة، وتستعرض حلها من خلال مفهوم الاقتصاد الدائري، الذي يُعيد رسم دورة حياة الهاتف المحمول، بحيث لا تنتهي عند أول عطل أو تحديث تقني، وإنما تبدأ رحلة جديدة عبر الإصلاح أو التجديد أو إعادة الاستخدام؛ لذا تابعوا القراءة.
هواتف قديمة أم ثروات؟
في مؤتمر الهواتف العالمي لعام 2025 -المؤتمر العالمي للاتصالات المتنقلة MWC، الذي عُقِد في مارس الماضي بمدينة برشلونة) كان هناك تركيز شديد على مستقبل صناعة الهواتف المحمولة من زاوية جديدة تمامًا؛ هي: الاستدامة وطول عمر الجهاز. هذه الفكرة لم تكن مجرد شعار في المؤتمر، وإنما كانت محورًا رئيسيًّا للعديد من المناقشات والعروض، حيث تحدثت شركات رائدة ودُشِّنَتْ مبادرات تقنية عن ضرورة التحول من “دورة الإنتاج والاستهلاك والتخلص” إلى نموذج جديد أكثر استدامة.
من الناحية البيئية يُعتبر التحول نحو هذا النموذج المستدام ضرورة ملحة؛ ففي عام 2024 أدت عملية تصنيع 1.2 مليار هاتف جديد إلى انبعاث أكثر من 60 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل الناتج الكربوني السنوي لدول مثل المغرب أو رومانيا. وبما أن التصنيع يشكل ما بين 70% و90% من البصمة الكربونية لدورة حياة الهاتف، فإن تمديد عمر الجهاز من خلال إصلاحه وتجديده يقلل من هذه الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 80% و90%.
ولعل ما يجعل هذه الحاجة أكثر إلحاحًا هو الكمّ الهائل من الموارد التي تستهلكها صناعة كل هاتف جديد؛ إذْ تشير التقديرات إلى أنَّ حوالي 10 مليارات هاتف لا يتم استخدامها حول العالم، وتحتوي على ما يقارب 100 ألف طن من النحاس، و7 ملايين أونصة من الذهب، ومليون أونصة من البلاديوم، بقيمة إجمالية تُقدَّر بحوالي 20 مليار دولار أمريكي، وفقًا لأسعار السوق الحالية.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل: إذا كانت هذه الهواتف تحتوي على كل هذا القدر من الموارد الثمينة؛ فلماذا لا يعاد استخدامها أو تدويرها؟ هنا تظهر نقطة التحول الأهم في العلاقة بين المستهلك والتكنولوجيا؛ إذ لم يعد اقتناء الهاتف عملية استهلاكية بحتة، وإنما أصبح خيارًا بيئيًّا واقتصاديًّا.
تحوّل المستهلكين نحو الاستدامة
ومع تطور الوعي البيئي بين المستهلكين تغيّر سلوك الشراء بشكل واضح؛ فقد أظهرت الدراسات أن متوسط عمر الهاتف في يد المستخدم ارتفع إلى 3.5 سنوات في عام 2015. وقد كشف تقرير مهم للجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول (GSMA) أن 70% من الناس في العالم مستعدون لدفع مبلغ إضافي إذا كان الهاتف صديقًا للبيئة؛ وهذا يعني أنَّ الاستدامة أصبحت جزءًا من طريقة تفكير المستهلكين، ولم تعد رفاهية.
هذا الميل نحو قرارات أكثر وعيًا لا يظهر فقط في مدة استخدام الهاتف، وإنما يظهر في ازدياد الإقبال على الهواتف المستعملة والمجددة كذلك؛ ففي عام 2022 ارتفعت مبيعات الهواتف المستعملة والمجددة بنسبة تفوق 10%، ثم ارتفعت 6% أخرى في 2023.
وفي الوقت نفسه، انخفضت مبيعات الهواتف الجديدة بنسبة 15%؛ مما يُظهر تحولًا في اختيارات المستهلكين. ووفقا لدراسة حملت عنوان “إعادة التفكير في الهواتف المحمولة: الجدوى من الاقتصاد الدائري”؛ فقد قال 85% من الناس: إن الحفاظ على البيئة هو أحد أهم الأسباب التي تجعلهم يشترون هاتفًا معينًا، حتى أكثر من التصميم أو ميزات الذكاء الاصطناعي.
صناعة الهواتف تدعم الاستدامة
ومع تنامي هذا الوعي بين المستخدمين، لم تقف شركات صناعة الهواتف مكتوفة الأيدي، وإنما بدأت تتفاعل مع هذا التوجه من خلال تبني ممارسات جديدة؛ فقد أصبح 71% من مشغلي الهواتف يقدمون خدمات إصلاح الأجهزة، مما يمنح المستخدمين فرصة لإصلاح أجهزتهم بدلًا من التخلص منها.
كما تقدم 84% من هذه الشركات برامج استبدال أو إعادة شراء، تتيح للمستخدمين استبدال هواتفهم القديمة أو استرداد قيمتها. وأكثر من 90% من المشغلين يشاركون في تجديد الهواتف وإعادة طرحها في السوق بسعر مناسب، ومن هنا فإنَّ هذه الممارسات ليست مفيدة بيئيًّا فقط، وإنما تُعتبر فرصًا استثمارية جديدة؛ إذ من المتوقع أن يتجاوز حجم السوق الدائري للهواتف 150 مليار دولار بحلول 2027.
ورغم أن الأفراد والشركات يمكنهم إحداث تأثير فعّال في تقليل التلوث عبر إطالة عمر الهواتف وتحسين سلوك الاستهلاك، فإن الدور الحاسم يبقى في يد الحكومات وصانعي السياسات؛ فالتشريعات الحديثة باتت تشكل حجر الأساس في دعم التحوّل نحو اقتصاد دائري في مجال الهواتف المحمولة.
وقد بدأت دول مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اتخاذ خطوات فعلية، من خلال فرض قوانين تلزم الشركات بتوفير قطع الغيار ومعلومات الإصلاح لفترات طويلة تصل إلى سبع سنوات، وهي سياسات تدفع الشركات إلى تطوير منتجات تدوم أكثر، وتكون متوافقة مع متطلبات الاستدامة.
ولا شك أن اعتماد النماذج الدائرية يواجه تحديات، مثل ارتفاع تكاليف الصيانة، وغياب المعايير الموحدة؛ مما يستدعي تعاونًا واسعًا بين جميع الأطراف، ومن هنا تدعو حماة الأرض إلى دعم هذا التوجّه من خلال نشر الوعي، وتعزيز الحوار بين المعنيينَ، والدعوة إلى شراكات تُسرّع التحوّل نحو إنتاج أكثر استدامة.