خطى مستدامة

تخضير قطاع الرعاية الصحية

تخضير قطاع الرعاية الصحية

لم يلبَثْ أنْ ثارَ على أهله وجيرانه بعدما عاد من إنجلتـرا، حيث درَسَ طب العيون، مع أنه نَشَأَ في رحاب السيدة زينب -رضـي الله عنها- وتشرَّبَ عادات وتقاليد الحارة المصرية، وعلى رأسها المكانة السامية لآل البيت؛ لقد ثار على هؤلاء الذين عاشوا يتبـركون بأُم العواجز، التي يلجئون إليها عندما تضيق بهم سبلُ الدنيا، يُلقون عند عتَبَاتِ ضريحها جبالَ همومهم مخلوطةً بأنهار دموعهم، وإذا ما ‌قَذِيَتْ عيـنُ أحدهم سارع إلى مسِّها بزيت أحد قناديل المسجد. وهناك رفض إسماعيلُ كلَّ ما حوله، وحطم القنديلَ؛ إذْ رآه رمزَ جهلٍ وتخلفٍ، وفي المقابل قاطعه الأهل والجيـران بعد أنْ رأوا في صنيعه إهدارًا لقيمةِ آل البيت الرمزيةِ.

فشل إسماعيل -باستخدام العِلم فقط- في كسح مساحات الظلمة والجهل، وظلت عيادته شاغرةً لا يقربها أحد، ولم ينجح إلا بعدما جعل العلمَ في يدٍ والدِّينَ في اليد الأخرى؛ فقد اهتدى إلى وضع بعض من زيت القنديل في العيادة، مُوهِمًا المرضى بأنه يستخدمه في العلاج، ليؤكد يحيى حقي في روايته ثنائيةَ العلمِ والإيمانِ.

وعلى خطى الأستاذ/ توفيق الحكيم في روايته «يوميات نائب في الأرياف» كتب الدكتور/ محمد المنسـي قنديل روايةَ «طبيب أرياف» عامَ 2020، وتحكي عن طبيب كُلف بالعمل في إحدى المناطق النائية، فيذهب مضطرَّا ضجِرًا، وهناك يكتشف غيابَ العلم واكتساب القوانيـن البدائية سلطةً مطلَقَةً في حياة المجتمع البعيد عن العمران وعن أسباب المدنية؛ مما انعكــس -سلبيًّا- على صحة السكان.

ثمانون عامًا فصلت بيـن روايتيـنِ اتخذتَا من الطب محورًا رئيسيًّا لقياس تقدم المجتمع، والنتيجة واحدة: ثمانية عقود والأفكار القديمة على حالها. بمعنـى آخر (كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة) كما قال نزار قباني في قصيدته «هوامش على دفتـر النكسة»؛ كما هو، يتغيـر الزمان ولا تتغيـر الأفكار.

ثمانية عقود تطور فيها العلم بسرعة أُسية Exponential، وظهرت فيها مخترعات غيـرت وجه العالم، وقلَب الإنترنتُ قطاعَ الخدمات؛ فها هو أكبـر أسطول سيارات تديره شـركــة لا تملك سيارةً واحدةً، وأكبـر عدد من الغرف الفندقية تديرها منصات إلكترونية، لا يحمل أصحابها مفاتيح غرفة في فندق ثلاثة نجوم، وكذلك تُدار المستشفيات والعيادات من خلال منصات إلكترونية دون حاجَةِ مشغليها إلى شراء سرير كشف في مستشفى؛ فلم يعد مهمًّا أنْ تكون المالك، الأهم هو أنْ تعرف كيف تدير.

تضاعف عدد مستخدمي الإنترنت مقارنةً بعام 2010، وتمدد الإنترنت لنحو 20 ضِعفًا، ونَمَتِ الخدماتُ السحابيةُ Cloud Service، وكذلك مراكز البيانات Data Centers، وتنامت احتياجاتها من الطاقة.

في يناير الماضـي أصدرت الوكالة الدولية للطاقة International Energy Agency, IEA تقريرًا عن استهلاكات مراكز البيانات من الطاقة الكهربائية، حيث بلغت 460 تيـراوات/ ساعة، تعادل 2.0% من إجماليّ الاستهلاك العالميّ من الكهرباء، مرشّـَحةً للارتفاع إلى ضعف هذه القيمة في عاميـنِ فحسب؛ بحلول عام 2026.

وعليه، يؤكد التقريرُ أهميةَ التطور التكنولوجيّ من جهة، والعملَ على تحسين كفاءة الاستخدام من جهة أخرى، كما يؤكد أنَّ محركات الطلب على الكهرباء في الأعوام القليلة القادمة سوف تتركز في قطاع السيارات الكهربائية ومراكز البيانات، فضلًا عن معالجات الذكاء الاصطناعيّ، وتعدين العملات المشفرة Cryptocurrencies، مما يُتوقع معه مسئولية الاقتصادات المتقدمة عن رفع معدل الطلب بنحو 85%، وتحديدًا في دول مثل الصيـن، والهند، ودول جنوب شرق آسيا، وكذلك توقع مسئولية مراكز البيانات عن 20% من معدل الطلب على الكهرباء في كل من الدنمارك وإيرلندا بحلول عام 2026.

كانت دراسة قد نُشرت في فبـراير 2023 تحت عنوان «مرافق الرعاية الصحية: الطريق نحو كفاءة الطاقة والحفاظ عليها Healthcare Facilities: The Road Towards Energy Efficiency & Conservation» – قد أوضحت تراوح استهلاك قطاع الصحة العالمـيّ من الطاقة الكهربائية بيـن 5 – 8%، ويرتفع في أوروبا وحدها إلى 20%، في حيـن تصل مساهمات القطاع في الغازات الدفيئة Greenhouse Gases, GHGs إلى 10%، وحوالي 12% من الأمطار الحامضية Acid Rain، ونحو 10% من تلوث الهواء. يأتي هذا في الوقت الذي نشرت فيه منظمةُ الصحة العالمية World Health Organization, WHO في موقعها مقالًا أوضحت فيه (أنَّ ما يقرب من مليار إنسان في البلدان منخفضة الدخل، وتلك الواقعة في قاع شريحة الدخل المتوسط؛ يستفيدون من مرافق رعاية صحية لا تتوافر فيها مصادر كهرباء جيدة.

وهذا في حيـن أنَّ 12% و15% من مواطنـي الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل في جنوب آسيا وجنوب الصحراء الكبـرى في إفريقيا -على التوالي- لا يستطيعون الوصول إلى الكهرباء. وفي إفريقيا -جنوب الصحراء الكبـرى- يتمتع نصفُ المستشفيات فقط بإمكانية الوصول إلى الكهرباء بشكل موثوق)؛ فما بالك بتطوير قطاع الخدمات الصحية، وإنشاء مراكز بيانات تخدم مواطني تلك الدول؟! يبدو طرح أمر مِن هذا القبيل في مثل تلك الدول نكتة ثقيلة الدم!! مع أنها أبسط حقوق المواطنة.

من الجدير بالذِّكْرِ، هو أنَّ ثلثَ مراكز البيانات العالمية موجودٌ في أمريكا، حيث تستهلك وحدها 6% من إجماليّ طاقتها الكهربائية، في حيـن توجد 17% منها في إيرلندا، ويُنتظر أنْ ترتفع إلى 32% بحلول عام 2026. وقد أدَّى الاهتمام بإنشاء مراكز البيانات إلى بحث آليات تخضيـرها؛ بمعنـى الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة في إمدادها بالكهرباء، ومن المتوقع أنْ ينمو حجم سوق مراكز البيانات الخضراء بمقدار 146.95 مليار دولار أمريكيّ، بمعدل نمو سنويّ مُركب يبلغ 24.63٪ بين عامَي 2022 و2027.

مِن هنا، يُنتظر أنْ تؤدي مصادر الطاقة المتجددة، سواء تلك المعنية بإنتاج الكهرباء كالخلايا الشمسية وطاقة الرياح وغيـرها، أو تلك المستخدمة في إنتاج الطاقة الحرارية لأغراض التسـخين والتبـريد، هذا إلى جانب تقنيات تحسين كفاءة استخدام الطاقــة – أدوارًا محوريةً في السنوات القادمة، فسوف تُخفِّضُ الطلب على الوقود الأحفوريّ؛ ومِن ثَمَّ تخضيـر قطاع الرعاية الصحية، وتحسين بصمته الكربونية، خاصةً أنَّ تلك الجهود تواكب نظيرتها المبذولة في معامل إنتاج تقنيات تخزين الطاقة.

تلك مساراتٌ خطَّطتها دولٌ عديدةٌ، ولم يعُد السيرُ فيها ترفًا أو وجاهةً، وإنما صار ضرورةً حتميةً، عدا ذلك ستمر عقودٌ تلو عقودٍ، وتتكرر أحداث رواية «طبيب أرياف» في كل بلد يتأخر عن طريق العلم والإيمان، بقلم جديد وأحداث مكررة.

الرعاية الصحية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى