المنتدى السياسي رفيع المستوى 2025.. تمويل اقتصادي عادل لتحقيق أهداف التنمية

المنتدى السياسي رفيع المستوى 2025.. تمويل اقتصادي عادل لتحقيق أهداف التنمية
في الوقت الذي يقترب عام 2030 بخطوات متسارعة، احتدمت النقاشات في نيويورك داخل أروقة الأمم المتحدة حول مستقبل التنمية المستدامة في العالم، خاصة على الصعيد الاقتصادي؛ فالعالم رغم التقدم المحرز في بعض المسارات، لا يزال يواجه فجوة مالية ضخمة تبلغ 4 تريليونات دولار سنويًّا تعرقل تنفيذ أهداف التنمية السبعة عشر. وخلال أعمال المنتدى السياسي رفيع المستوى لعام 2025 -الذي اُختتمت فعالياته يوم الأربعاء الماضي- بدت الصورة واضحة بأنه لا استدامة دون تمويل، ولا تنمية دون عدالة اقتصادية شاملة.
وقد جاء هذا المنتدى عقب مؤتمر إشبيلية لتمويل التنمية، الذي أعاد تسليط الضوء على ضرورة إصلاح النظام المالي العالمي بأكمله، وتعزيز الاستثمارات طويلة الأجل. وهنا لا يقتصر الحديث على التزامات رمزية، وإنما يمتد إلى واقع يُلقي بظلاله على قدرة الدول -خاصة النامية- على توفير الرعاية الصحية، وتوفير الوظائف، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية.
مِن هنا سوف نتناول في هذا المقال أبرز القضايا الاقتصادية التي ناقشها المنتدى السياسي رفيع المستوى لعام 2025، وما الذي تعنيه فعليًّا بالنسبة لمستقبل أهداف التنمية المستدامة، وكيف نستطيع الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف بصورة عادلة وشاملة؛ فتابعوا القراءة.
العمل اللائق ونمو الاقتصاد
لقد أدرك المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة -الجهة الراعية للمنتدى- أنَّ أيَّ تقدُّمٍ حقيقي نحو الاستدامة يتطلب إعادة النظر في التدفقات المالية العالمية؛ فمن غير المنطقي أنْ تُطالب الدول بتحقيق أهداف التنمية المستدامة في حين تُرهق كاهلها الديون وتُستنزف مواردها في خدمة فوائد مرتفعة.
وعلى ذلك جرى التركيز هذا العام في المنتدى السياسي رفيع المستوى على الهدف رقم (8) بوصفه نبض التنمية الاقتصادية؛ فالعمل اللائق لا يعني فقط توظيف الأفراد، وإنما يعني بناء اقتصادات قادرة على توفير فرص شاملة ومنصفة، تحمي حقوق العمال، وتعزز الإنتاجية، وتُمهّد الطريق لنمو مستدام. لكن أين نحن من ذلك اليوم؟
بحسب تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش”، فإن أكثر من ملياري إنسان حول العالم يعملون في القطاع غير الرسمي، في وظائف تفتقر إلى الحماية الاجتماعية والأمن الوظيفي. وفي الوقت نفسه تشهد بطالة الشباب في كثير من الدول النامية ارتفاعًا مطّردًا؛ مما يضعف الاستقرار الاجتماعي، ويُهدد التماسك الاقتصادي.
ولذلك مهَّد هذا الواقع للتركيز على الاستثمارات المُوجّهة نحو القطاعات القادرة على توليد وظائف خضراء، وفي مقدمتها الطاقة المتجددة، والنقل النظيف، والزراعة المستدامة؛ إذْ إنَّ إعادة هيكلة الاقتصاد أصبحت ضرورة تفرضها تحديات المرحلة؛ فتعزيز الاستثمار في العمل اللائق لا يسهم فقط في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وإنما يُعيد بناء الثقة بين الأفراد ومؤسساتهم ويحدّ من الاضطرابات الاجتماعية.
غير أن التحدي يبقى في توفير التمويل الكافي لإحداث هذا التحول؛ فبدون تدفقات مالية منتظمة ومدروسة، ستظل جهود توفير العمل اللائق محصورة في إطار المبادرات المحدودة، وهنا تظهر أهمية التعاون الدولي، ليس فقط في تبادل الخبرات، وإنما في إرساء آليات تمويل مرنة ومتكافئة، تقود اقتصادات الجنوب نحو الانتعاش الحقيقي.
المراجعات الطوعية وأزمة التمويل
في كل عام تقدم الدول مراجعاتها الوطنية الطوعية ضمن فعاليات المنتدى، وهو ما يشبه “كشف حساب” بصورة طوعية؛ لقياس مدى التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية، ورغم أن هذه المراجعات تركز على المؤشرات الاجتماعية والبيئية، فإن الجانب الاقتصادي لا يقل أهمية، وإنما يُشكل الأساس الذي تُبنى عليه باقي الأهداف؛ فما قيمة خطط التعليم أو الصحة إن كانت بلا تمويل كافٍ؟
المراجعات هذا العام تسلط الضوء على تفاوت القدرات الاقتصادية بين الدول، خصوصًا في ما يتعلق بتخصيص الميزانيات للتنمية المستدامة، وقد أظهرت دول عدة أنها تواجه تحديات كبرى في تمويل أهدافها، إما بسبب شح الموارد، أو بسبب توجيه الإنفاق نحو أولويات آنية كالصراعات والكوارث، وفي المقابل قدمت دول أخرى نماذج واعدة لدمج أهداف التنمية في خططها المالية، مثل دمج الأهداف في الموازنات الوطنية وتعزيز الشفافية في الإنفاق.
وتكمن أهمية هذه المراجعات في أنها تتيح للدول فرصة لقياس التقدم وفق معايير موضوعية، وتحديد الفجوات المالية بوضوح، وهي أيضًا فرصة للمجتمع الدولي لدعم هذه الدول ليس فقط بالتمويل، وإنما ببناء القدرات وتعزيز نظم الحوكمة المالية كذلك. وفي هذا الإطار، تشكل المراجعات أداة مساءلة جماعية تعكس مدى جدية الحكومات في تحويل الرؤية إلى أفعال.
خريطة طريق اقتصادية نحو 2030
وانطلاقًا من هذه الرؤية تبرز الحاجة إلى خريطة طريق اقتصادية نحو ؛030، إذ تشكل هذه المراجعات الأساس الذي تُبنى عليه الإصلاحات الكبرى، ومن قلب المنتدى جاءت الرسائل واضحة: لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة بمعزل عن إصلاح اقتصادي جذري يقوده العلم، وتدعمه بيانات دقيقة، ويستند إلى شراكات استراتيجية؛ فالمنتدى يسعى إلى رسم خريطة طريق عملية تتبنى الحلول القائمة على الأدلة، وتُحفّز الاستثمار.
وفي هذا السياق، دعت الأمم المتحدة إلى تعزيز الاستثمار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي المسئول، والبنية التحتية الرقمية، والتعليم عالي الجودة؛ إذْ إنَّ الربط بين التقدم التكنولوجي والتنمية الاقتصادية يُمكّن الدول من تخطي فجوات التمويل التقليدية، ولا يقل أهمية عن ذلك الاستثمار في تعزيز قدرات النساء، والشباب، والمجتمعات الريفية، بما يُحقق عدالة التوزيع ويُحرّك عجلة النمو.
ومن المبادرات اللافتة في هذا الشأن، مبادرة “الأمم المتحدة 80” التي تسعى إلى تحديث أدوار الأمم المتحدة كي تصبح أكثر استجابة للتحديات الاقتصادية العالمية؛ فالعالم بحاجة إلى حوكمة اقتصادية جديدة، تراعي مصالح الجميع، وتُعيد تشكيل النظام المالي العالمي بما يخدم أهداف الاستدامة وليس فقط مصالح رأس المال العابر للقارات.
وختامًا، تؤكد مؤسسة حماة الأرض أن المنتدى السياسي رفيع المستوى 2025 يكشف بوضوح أن مستقبل التنمية المستدامة لن يتحقق إلا إذا بتحرك العالم نحو إعادة صياغة معادلات التمويل والعدالة الاقتصادية؛ فالفجوة المالية التي تعرقل تنفيذ الأهداف الأممية هي انعكاس لفجوة أعمق بين الوعود الدولية وواقع الشعوب. ومع اقتراب عام 2030، تصبح القرارات الاقتصادية التي تُتخذ اليوم هي نقطة التحول الحاسمة، إما لإعادة بناء النظام العالمي على أسس أكثر إنصافًا، أو لترسيخ مسار يُفاقم التفاوتات ويترك ملايين البشر خارج دائرة التنمية.
وإنَّ الرسالة الجوهرية للمنتدى هي أنَّ التمويل وسيلة لدعم المشروعات، والأساس الذي يُعاد به تشكيل العقد الاجتماعي والاقتصادي العالمي ليوازن بين النمو والعدالة؛ لأنَّ التحول الحقيقي يبدأ عندما يُعاد تعريف قيمة المال ليصبح أداة للتمكين والحماية، لا وسيلة للهيمنة، وعندها فقط يمكن أن تتحقق أهداف التنمية المستدامة في أرض الواقع.









